24‏/06‏/2009

الموجة الجديدة للسينما الإيرانية



«أنا أتحدث عن جوف الليل،
أنا عن جوف الليل أتحدث
وإذا ما زرتني يا صديقي
فاجلب معك مصباحا وكوة
أستطيع من خلالها أن أراقب الناس
في الشارع السعيد»
فوروغ فاروخزاد

«أرى أن المشكلة الكبرى في إيران هي الإيمان بالحقائق المطلقة. كل واحد يعتقد أنه محق تماما. ولذلك أخفقت الديموقراطية في إيران. فالديمقراطية قضية ثقافية قبل أن تكون قضية سياسية. نحن جميعا نعتقد أننا مالكو الحقيقة الوحيدون، وعلى كل واحد أن يخضع لأفكارنا. نحن نفتقر إلى تقليد المناقشة العامة، فلدينا بدلا من ذلك، منبر الواعظ»
المخرج الإيراني محسن مخملباف


PDF

انطلاقة السينما الإيرانية كانت في فيلمين صامتين للأرمني أفانيس أوغانيانز «أبي وربي» - 1930 و«حجي آغا» - 1932، بينما أنشأ إبراهيم خان طهراني عام 1904 أول دار عرض سينمائي تمكن من خلالها استيراد الأفلام الأجنبية وبعده عام 1907 بنى مهدي خان دارا للسينما في طهران (والده إنكليزي وأمه روسية).
وبعد الحرب العالمية الأولى وتقسيم البلاد ما بين الاحتلال الروسي والإنكليزي في غضون حكم سلالة القاجار وتأسيس الحزب الشيوعي الإيراني عام 1921 بدأ زمن الوعود الكبيرة في الثقافة والفنون بعد ولادة حركة الحداثة في الشعر بنشر ديوان «أفسانه» (الأسطورة) و«أيها الليل» و«أبو الهول» لنيما يوشيج وأعمال أحمد شاملو ومهدي أخافان وعودة صادق هدايات من أوروبا لتبدأ مرحلة الأدب القصصي وهي السنة نفسها التي كانت فيها إيران تنتظر فيلمها الأول عام 1930، فيما كان إبراهيم مرادي يؤسس أول استديو في بندر أزلي على شواطئ بحر قزوين ومن هذا المكان أنتج فيلمه «انتقام الأخ» 1931 وفيلم روائي طويل «الجشع» 1934، وعمل إردشير إيراني «الفتاة المتكبرة» 1933 الذي أدى – كما قيل وقتذاك – إلى أن رضا شاه حظر بعده على النساء ارتداء الشادور، أعقبه فيلم «شيرين وفرهاد» - 1934 بالاعتماد على قصيدة للشاعر الكلاسيكي نظامي، ثم «العيون الداكنة» - 1936 و«ليلى والمجنون» - 1937 لتشيد هذه الأعمال أساس السينما الإيرانية.

Forough Farokhzad

ما بعد الرواد
ستنتهي الحرب العالمية الثانية ليخرج إسماعيل كوشان فيلمه «عاصفة الحياة» 1948 الذي اعتبر أول فيلم ناطق بالفارسية أنتج داخل إيران، أعقبه شريطه «سجين الأمير».
وبعد التحولات السياسية بتولي مصدق رئاسة الوزراء ومغادرة الشاه ومن ثم عودته مدعوما من الولايات المتحدة هذه المرة، بدأت مرحلة جديدة للسينما التجارية التي دعمها رجال الأعمال الناشئون: «كولا مخملي» 1962 و«إبرام في باريس» 1964.
لكن الشاعرة والمثقفة الطليعية فوروغ فاروخزاد أخرجت عام 1962 فيلم «منزل مظلم» الذي يعتبر أهم شريط في تاريخ السينما الإيرانية ولا يزال يؤثر في جماعة «الموجة الجديدة» سوية مع «ليل الأحدب» لفاروخ غفاري الذي يعده الكثيرون بداية تأسيس السينما الإيرانية الجديدة، كحال فيلم «البقرة» 1969 لداريوش مهرجوي الذي أفزع الجميع بموضوعه الهام بتحول رجل إلى بقرته الميتة.
ثم شهدت السبعينات الخطوات المتقدمة بفيلم «تانغسر» لأمير نادري و«حياة ساكنة» لسوهراب شهيد سالس و«الغريب والضلال» للمخرج مهرام بيزائي الذي وطد نفسه بطريقة رائعة في شريط «أغنية تارا» 1978 حيث بلغ فيه أقصى ما يمكن أن يصل إليه فن السينما الإيرانية في مرحلة ما قبل الثورة، التي ما إن انتصرت حتى ظهرت موجة من الأفلام الدعائية السياسية لا تهمنا في هذا الاسترجاع.
Mohsen Makhmalbaf
أسرة مخملباف
كما سجن مبكرا، برزت مواهبه أيضا. ومن الواضح أن محسن مخملباف الطهراني من جهة الأب والكاشاني من جهة الأم (دام زواج والديه 6 أيام فقط) كرّس حياته وعائلته للفن منذ أفلام المرحلة الأولى ما بين 1982 – 1983: «توبة نصوح»، «عينان عمياوان» و«البحث عن مأوى»، كما كتب قصصا كثيرة نشرها في كتاب، بينما ضم كتابه الثاني مجموعة سيناريوهات ومسرحيات يقع في ألف صفحة.
ويعتبر فيلم «مقاطعة» 1985 (جذب مليون مشاهد في طهران وحدها، كتبه في البداية كمسرحية عنوانها «المسحور») بين مرحلته الأولى والثانية التي كانت في «راكب الدراجة» 1987 و«البائع المتجول» 1987 و«زواج السعداء» 1989 وحسب محسن مخملباف، فإن في هذه الثلاثية تساؤل: «ماذا سيعقب هذه الشعارات؟ لقد ضرب اليسار. صحيح كنت قلقا من إمكان توليهم السلطة، وفي هذه الآونة أخذ شكل أفلامي يتحسن من الناحية الفنية. لقد أحسنت صنعها على نحو جعلها فوق الفيلم الإيراني المتوسط الجودة، وهذا ما فتح الباب أمام الأفلام الإيرانية للدخول إلى المهرجانات الدولية».
تأتي المرحلة الثالثة لمخلمباف في: «ظلمات على زايندا – رود» وثلاثيته: «حدث ذات يوم أيتها السينما» – 1992 و«الممثل» - 1992 و«سلام سينما» – 1995.
زوجته فاطمة كانت كما يقول «تملأ أي دور أحتاج إليه»، بينما بناته (المخرجات فيما بعد) سميرة ولدت بعد الثورة بعام، وميسم بعد عامين وهـَنا أثناء تصوير «زواج سعداء»، فقد ظهرن في العديد من أفلامه.
هذه الثلاثية أطلقت أفلامه الناجحة جدا عالميا، بدءا من شريطه «الغابة» وهو قصة حب احتوت تفاصيل دقيقة غاية في الجمال والتعبير، فحين يأخذ لقطات بعيدة للمرأة، يرد عليها بلقطات مقربة للرجل، كإيحاء للنظرة الذكورية للحب في المجتمع وكانت لمساته السريالية الساحرة بالألوان والناطقة بالأفكار واحدة من أعاجيب السينما حيث تتزوج العاشقة من خيال غامض، قصة مغرية ومفجعة سلب منها الغضب وبالتأكيد التفت إليها باندهاش كل المعنيين الجادين في السينما.
كذلك في «لحظة براءة» – 1996 حيث يستبدل السكين بالخبز والزهور والوجه الشاحب المكشوف مقدما ممثلين هواة جسدوا الحيل الجميلة والحزينة للبراءة.
فيلم رائع آخر «الصمت» – 1998، هادئ غني بالألوان والأصوات المنتقاة لشاب أعمى يدير دكانا للآلات الموسيقية ويرتبط مع جارته باهتمام متبادل وصمت خال من الأفكار، كثيف الإيقاعات الغنية.
Kandahar

قندهار
موهبة محسن مخملباف الاستثنائية تتفجر في شريط «قندهار» – 2001 الذي يعود به إلى قسوة أفلام الثمانينات التي جعلت صدى هذا الفيلم في الغرب مدويا لغاية هذه اللحظة وسنوات طويلة أخرى قادمة، بتصويره مراسلة صحفية نافاس (نيلوفير بازيرا) ولدت في أفغانستان لكن تسنى لها الهرب مع عائلتها إلى كندا، غير أن أختها لم تكن محظوظة، وبقت في البلاد التي طحنتها الحرب بما في ذلك سيقانها التي فقدتها بانفجار لغم. تتسلم الصحافية رسالة من أختها تخبرها فيها أنها ستنتحر أثناء الكسوف النهائي قبل فجر القرن الحادي والعشرين. ستبدأ محاولاتها المستميتة لإنقاذ أختها، حيث تنضم إلى قافلة من اللاجئين وتحاول دخول أفغانستان وحسب القانون هناك، لا يسمح لها بالسفر بدون «محرم»، لذلك ستجبر على استئجار لفيف من الأدلاء، ليكيف مخملباف التضاريس القلقة في قصته، بدءا من المشهد الفظيع للمستشفى الميداني الذي يرقد فيه ضحايا انفجارات الألغام، ليمنح المشاهد – على خلاف أفلامه السابقة – العاطفة الكبيرة والنضج الفني.
The Day I Became a Woman

«مرضية» أصبحت امرأة
وتستمر أسرة مخملباف الرائعة بتقديم الأفلام، في هذه الأثناء التي كان فيها محسن وابنته سميرة يعيدان الى العالم صورة فرانسيز وابنته صوفيا كوبولا، قدمت زوجته الثانية مرضية مشكيني مخملباف ( شقيقة زوجته الأولى فاطمة التي توفيت) شريط «أصبحت امراة» – 2000 مقسما إلى ثلاثة أجزاء عن ثلاث شابات وطفل وامرأة عجوز.
تكتشف الطفلة في عيد ميلادها التاسع أن عليها أن تخفي شعرها بحجاب وتتوقف عن اللعب مع الأولاد، لذلك تنسل لتحظى بآخر لقاء مع صديقها الطفل (الذكر)، فيما الثانية تصرّ على المشاركة في مسابقة للدراجات الهوائية، بينما العجوز تستأجر قطيعا من الأولاد لتأثيث حياتها الباقية.
إن لكل جزء حكايته في تصوير قمع إيران للنساء اللواتي وجدن طريقة للاحتفال بالحرية مع الظلم.
Taste of cherry
Abbas Kiarostami

الموجة العالية لعباس كياروستامي
أحد رواد السينما الإيرانية الجديدة هو عباس كياروستامي الذي ولد في 1940، درس الفنون الجميلة في جامعة طهران وبدأت مهنته كمصمم للإعلانات التجارية. لاحقا، ولكونه جاء مع معهد التطوير الثقافي للشباب، فقد كانت أفلامه الوثائقية المبكرة مكرسة حول تلاميذ المدارس.
والحدث الأهم الذي يسجل لهذه الموجة كان شريط «طعم الكرز» للأول والذي ارتبط بالسعفة الذهبية لمهرجان كان 1997، حيث تحولت السينما الإيرانية بعد هذا التاريخ إلى ظاهرة لافتة وحضور قوي في المهرجانات الدولية، كالموجتين الإيطالية في الخمسينات والألمانية في الستينات.
بدأت سينما كياروستامي بشريطه القصير «الخبر والممر» 1970 حيث أسس فيه حساسيته البصرية الأولى، تلاه فيلم «انسحاب» 1972 و«المسافر» 1972 و«التجربة» 1973 و«بدلة العرس» 1976 و«طريق مسدود» 1977 وثلاثية «رستم آباد» و«لقطة مقربة» و«حياة ثم لا شيء» 1992 الذي حدد فيه فلسفته تجاه الحياة والسياسة والنظام والخوف والوجع راصدا الحياة البسيطة للأطفال والمحبين والعجائز بعيدا عما يحصل حولهم كمقدمة لرسمه الطبيعة في «طعم الكرز» كمعادل للانتحار وفوضى الحياة بغنائية شاعر، وضعته في نظر الكثيرين الأعظم من كل الأفلام الإيرانية، تدمج فيه الصورة المقربة بشكل مستمر لتتحول إلى طلاء أو بعثرة ألوان، انتقال من أحاديث السيارة إلى قاعة المحكمة ومن ثم ينقلنا في جولة على دراجة حيثما يريد الذهاب، كي نستطيع سماع ما يقوله الرجلان اللذان يتهيآن للموت.
Where Is My Friend's House

أطفال الفضاء
فيلمه الطويل الأول «المسافر» – 1974، قطع أنفاس من شاهده في عرضه الأول في فرنسا. وكان يصور فيه قصة مراهق يهرب من المدرسة لمشاهدة مباراة كرة قدم في طهران وعليه أن يداهن سائق حافلة لكي يقله إلى العاصمة، لكن الإجهاد وصعوبة النوم يلحقان به، فينام ويفوت على نفسه تحقيق حلمه ويغيب عن المباراة. الشريط صور بالأسود والأبيض وجلب الانتباه الأول لكياروستامي وإمكاناته الهائلة.
بعد 13 سنة يعود كياروستامي إلى هذا الموضوع في شريط «أين يقع منزل الصديق؟» – 1987، كمحاكاة لقصيدة سوهراب سيهري حول طفل يحاول حماية صديقه بعد أن وقع في خطأ بسبب السهو وأخذ واجب صديقه البيتي معه، وفي حالة عدم إعادته ستكون درجة صديقه صفرا في المادة الدراسية، لذا عليه البدء برحلة طويلة حول الطرق الوسخة والمؤذية في القرى الإيرانية النائية وسيقابل عدة أشخاص في الطريق الشاق كالرحلة المتعبة في فيلم «المسافر»، واستخداماته الرائعة للفضاء.
طعم الكرز
الدقائق الـ 95 لفيلم عباس كياروستامي انتزعت السعفة الذهبية لمهرجان كان واستقطبت أغلب نقاد السينما في العالم. تحكي قصة «السيد» رجل متوسط العمر يتمنى الانتحار «هامايون إرشادي» (آخر افلامه عداء الطائرات الورقية) يجوب أطراف طهران بحثا عن شخص يساعده في لحظاته الأخيرة ويوافق على دفنه إذا نجح في مهمته. خطط في البداية لجرعة زائدة من الحبوب المنومة لكنه فشل، كما فعل معه جندي كردي يهرب من الخوف ما ان يعرف بخطة السيد، وكذلك الطالب الجامعي الأفغاني الذي حاول إقناعه بقدسية الحياة وأخيرا يجد محنطا تركيا يوافق على مساعدته في الانتحار لأنه يحتاج المال لمعالجة ابنته المريضة. سيتركنا كياروستامي بدون إجابة حول السؤال: لماذا يريد السيد الانتحار وبهذا الإصرار وهل سينفذ خطته بنجاح؟سنرى أنه يحفر حفرة ويضطجع فيها ليرى إن كان سيبقى حيا حتى الصباح، وينتهي الفيلم ما ان يدخل السيد إلى حفرته وتقل الإضاءة حتى السواد التام. الجواب سيكون مبطنا في حواره الغني جدا واستخدامه للمناظر الطبيعية كخلفية والشاعرية التي حملتها العدسة حينما صورت عيني السيد وهي تفتش في الغبار عن وجوه عمال طهران الفقراء وبحثه في الاستعارة عن أسئلة الحياة والموت بتجربة سينمائية – فلسفية وكذلك شخصية، تتطلب فصل المشاهد من الأفكار الشائعة والمتوقعة. النقاد يعلمون بالطبع، مدى تأثير عمالقة مثل أكيرا كوروساوا وجين لوك غودارد في هذا الشريط، لكنهم أعجبوا بالقدرة التجريبية لكياروستامي باستخدامه أساليب جديدة حقا في السينما بتصويره الجمال حينما يكون الأمر بعيدا عنه تماما وشفافية الأناس المتورطين بأحداث في الحياة تمزق ادعاءاتهم للحقيقة والمطلق.
ما بعد رواد الموجة الجديدة
لا بد من الإشارة إلى جهود مخرجين كبار ساهموا في تأسيس أعمدة الموجة الجديدة للسينما الإيرانية ابتداء من داريوش مهرجوي ومسعود كيميائي وناصر ثقفي ومهرام بيزائي وبهرام فرمتارا وفاروخ غافاري وعامر نادري وأبو الفضل جلالي وجعفر بناهي وقائمة ليست قصيرة ممن لم يفتنا ذكرهم، بل أدى تقصيرنا الفادح مع ظروف أخرى الى ضعف اطلاعنا على أعمالهم، مكتفين بتواضع مشاهداتنا للأفلام التي حققت رواجا عالميا في المهرجانات الدولية، الأمر الذي منحنا فرصة مشاهدتها.
وفي هذه المناسبة لابد أن تتاح الفرصة للاحتفاء بنساء السينما الإيرانية اللواتي قدمن منذ أن افتتحت الطريق لهن فاروغ فروخزاد في فيلمها «المنزل المظلم» مطلع التسعينات لتنال من عصرها وتسبقه في رؤية الداء المخيف الذي ينتظر بلدها، لتمر سنوات طويلة حتى تظهر بخشان بني بأعمالها الجريئة «نرجس» – 1991 و«ذات الخمار الأزرق» 1994 و«سيدة أيار» – 1999 لغاية سميرة مخملباف وجيل ما بعد الأيديولوجيا الذي ظهر في القرن الحالي محدثا السحر والصدمة جعل قيمة المهرجانات الدولية في ما تعرضه من أفلام إيرانية.
وسنقدم ثلاثة نماذج باهرة النجاح ممن أذهلوا العالم بأفلامهم ولدوا من الموجة الجديدة للسينما الإيرانية:

Samira Makhmalbaf

سميرة مخملباف
بعمر 19 سنة وبسيناريو كتبه والدها عن رواية سيمن دانشفار وأشعار فوروغ فروخزاد، تقدم سميرة مخملباف فيلم «التفاحة» – 1998 لتكون أول مخرجة في تاريخ مهرجان كان تنافس في هذا العمر على السعفة الذهبية.
تقدم بنتين مراهقتين زهراء وماسويمي سجنتا في بيتهما من قبل أبيهما لإحدى عشرة سنة منذ ولادتهما، لكونه يعتبرهما كالزهور تذبل ما أن تصيبها الشمس (عيون الأولاد)، ونتيجة ذلك أصبحتا غير مؤهلتين للتعامل مع العالم الخارجي، حتى غير قادرتين على المشي والكلام، كما لو خرجتا من القبر إلى الحياة.
سنوات لم تجز الرقابة الإيرانية هذا الفيلم، لكن سميرة أطلقته على الفيديو، إلى أن أحرق أوراق لجنة التحكيم في كان ومنحته بالإجماع جائزة لجنة التحكيم.
بعد هذا النجاح الذي حققته، قدمت فيلم «السبورة» – 2001 عارضة فيه مغامرات معلمين كل يحمل سبورته ويتجول في الطرق الملتوية والترابية على الحدود العراقية – الإيرانية ليعلموا اللاجئين، وبالرغم من امتلاء الشريط بالصور الاستثنائية، فإن سميرة مخملباف لم تقدم أفكارها ولا حتى نواياها بوضوح.
لسميرة مخملباف أيضا «حصان بساقين» حصلت فيه على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان وكذلك فيلم «في الخامسة عصرا» – 2003 نافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان.
Majid Majidi
ماجد ماجدي
بدأ ماجد ماجدي هذه المهنة في أفلام محسن مخملباف، لكنه كمخرج سرعان ما حقق النجاح التجاري في الولايات المتحدة بشريطه «أطفال السماء» – 1998 الذي يعتبر الفيلم الإيراني الأول الذي يرشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، ويطرح قضية فصل الجنسين أيضا. أعقبه شريطه «لون الجنة» – 2000 الذي ربح تجاريا وأخفق فنيا وكان استعادة ضعيفة لفيلم «الصمت» لمخملباف، مستعيدا بطله الكفيف الذي يصبح عبئا على والده القاسي. وبخلاف أستاذه، يختار ماجدي ميلودراما عالية وحوارات مباشرة تكسب شرائح أوسع من الجمهور. غير أنه أصلح نفسه في فيلمه القادم «باران» – 2002 الذي كان أيضا تقليدا لشريط محسن مخملباف «قندهار»، حول بنت تتخفى بهيئة ولد لتعمل في موقع بناء لمساعدة أهلها اللاجئين الأفغان، لكن المخرج ترك هذه المرة ميوله العاطفية وتقديراته نظرته الواقعية وتمتع بفضاءات كياروستامي الفريدة، مع أخطاء ليست بالقليلة حول الحياة الأفغانية الحقيقية، وميل ماجدي لانتقاد طالبان بالشكل الذي ينتظره المشاهد الغربي.
Profile of Iranian Kurd Director Bahman Ghobadi

بهمن قوبادي
عرف المشاهد الغربي المخرج الإيراني – الكردي بهمن قوبادي في شريط عباس كياروستامي «ستحملنا الريح» – 1999وظهر كأحد المعلمين الحاملين «سبورة» سميرة مخملباف.
لكنه يعتبر مخرج أول فيلم إيراني ناطق بالكردية «زمن الخيول السكرانة» – 2000 موظفا أطفالا غير مدربين في الغالب، ساردا قصة أطفال يمارسون الأعمال الشاقة ليجمعوا المال لمعالجة شقيقهم المعاق.
يتفادى قوبادي العاطفية وسيتأصل أسلوبه هذا في الأفلام اللاحقة التي يكون فيها الأطفال عادة مجاله الدرامي. في عام 2003 قدم شريطا غير عادي «ضائع في العراق» لفرقة موسيقية محلية تتكون من أب وأبنائه يجتازون الريف بحثا عن زوجة الأب السابقة.
وكان هدف قوبادي تحليل آثار حربي الخليج 1991 و 2003 وممارسات النظام العراقي الوحشية في تدمير القرى الكردية، وفي خضم هذه الأحداث سيعثر على مطرب كردي عجوز يقلق بشأن مصير زوجته السابقة وشريكته في الغناء التي تركها لأكثر من عقدين ليحاول الدخول سرا إلى كردستان من أجل العثور عليها.
سنجد المشاحنات الكوميدية التي يتعرض لها من أولاده والظروف غير العادية التي يمرون فيها، وصور الخراب الذي خلفته القنابل الأميركية وأعمال النظام العراقي الانتقامية الدموية، لكنهم يعثرون على لحظات من الجمال تحت المصائب التي شاهدها جمهور مهرجان كان بتأثر.

18‏/06‏/2009

Tetro

Tetro: Official Trailer


في فبراير 2007 أعلن المخرج والمنتج فرانسيز فورد كوبولا أنه سينتج ويخرج فيلم «تيترو». السيناريو كتبه بنفسه كما يفعل غالبا، وحدد بدء التصوير في بوينس آيرس، بحلول مارس 2008 بعد انضمام فنسينت غالو وماريبيل فيردو إلى فريق الممثلين وساهم في إنتاج الفيلم بالإضافة إلى الأرجنتين ثلاث من أعرق الدول في صناعة السينما: الولايات المتحدة وأسبانيا وإيطاليا، بميزانية بسيطة لم تتجاوز 15 مليون دولار.
كوبولا عرف الأرجنتين في فترة ابتعاده عن السينما وأحب الأجواء الثقافية فيها وكان يتردد دائما على المسرحيات الموسيقية التي تعرض في بوينس آيرس والتي ألهمته وساندت أفكار «تيترو» وأمدته بالعناصر الموهوبة جدا المتمرسة في المسرح الأرجنتيني الذين وافقوا على العمل في الفيلم دون معرفتهم بأجورهم. كحال كوبولا الذي صرف حياته وأمواله الخاصة (مبتعدا عن هوليوود) من أجل صناعة أفلامه المستقلة حقا.
PDF

قصة كوبولا
هذه المقدمة وجدنا ضرورتها في تلمس الظروف التي يقدم فيها الناس الفن الحقيقي، ولعلها الصورة التي نفهمها من المحادثة الطويلة بين الأخوين في الشريط اللذين حملا الحزن والإحباط الذي لم يبتعد كثيرا عن موضوعته الرئيسية في ثلاثية «الأب الروحي» التي صنع من روايتها القاسية أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما، متناولا مرة أخرى قضايا الحب والولاء والاختيار والقوة والإغراء والخيانة والجراح والدماء.

The First 3 Minutes

عرض للمرة الأولى في افتتاح الدورة 62 لمهرجان كان، ولأن أسلوب كوبولا يختلف جدا هذه المرة، بإدخالنا بسرعة في الحكاية التي صورها بالأسود والأبيض باحتفاظه مع بعض البقع الملونة والظلال الرمادية، تلك البقع التي كان يريد لها أن تلوّن الماضي (من الصعب التكهن بمقاصده في تلوين الاسترجاعات، ربما كان يريد أن يقول لنا ان ماضيه كان مبهجا وملونا وحاضره أسود). وبالرغم من تصميمه الشريط بالكامل على أساس ألعاب المسرح التجريبي، فإنه تعمد صعوبة غير ضرورية في طرحه للأسئلة وليله الصامت الطويل وحزم الملابس التي كانت كتقويم يؤشر للزمن الفائت، كالمشهد الذي فاوضت فيه صديقة تيترو، ميراندا (ماريبيل فيردو) بعبارات مؤلمة وأداء من الصعب مشاهدة مثيل له، من أجل عودة الأخوة إلى بعض وتعرفهم على الشخص الذي يحملونه حتى يبدأوا مجددا.
Alden Ehrenreich
الإنارة الجريئة
وما رأيناه كانت إنارة مسرح وليس سينما، ستسلط الإضاءة العلوية على تيترو بالتدريج، تزحف نحوه بسرعة كلماته: يتباطأ الحوار، تخف الأنوار... وهكذا، كان الضوء على جسده أو وجهه يتناسب مع ما يقول، مع الأحداث السيئة التي يرويها، مع كومة الفضلات التي وجد نفسه فيها، مع مصير كل شخص حمله وسيكونه يوما ما. وكأن الأسرار العائلية مخبأة في صندوق للطماطم كلما مر عليها الزمن تفسد أكثر، وإن كنا وفقنا، فيمكننا القول إن هذا سرّ الفيلم – المسرحية: عمل غير منتهٍ كالذكريات.
كان الجميع محتجزا في مرآته، وهذه الصعوبة غير الضرورية التي أشرنا إليها، فقد كتب كوبولا الرائع هذه القصة قبل ثلاثة عقود (تحديدا بدأ بها عام 1974) وحطمها كثيرا بقلمه الرصاص وطوال هذه السنوات خرجت الحكاية ممزقة جدا من الصعوبة، فكم كان شيخ السينما يسمو فنيا طوال هذه السنين؟ كم من الأفكار الجديدة تطورت لديه؟ وإذا أصاب أبطال فيلمه «القيامة الآن» بكل الأمراض النفسية والرعب والإحباط والقهر خلال التصوير وبعده، فما الذي سيفعله في حكايته الخاصة؟
لقد مال إلى الألفة المضجرة، للتنكر خلف الإنارة حاجبا كل شيء باللونين الأسود والأبيض، استفزازي كما هو دائما، ومع ذلك، كنا نتمنى أن نرى الأكثر منه، على الأقل الهروب من تراثه الكبير.
و«تيترو» هو أفضل من شريطه الذاتي جدا «شاب بدون شاب» - 2007، ملازم لفوضاه وخيبة آماله، رافض بشدة، بالتأكيد كان كوبولا يريد من «تيترو» أن يعيده إلى بلاده، ماضيه، الماضي الذي يكون عادة جميلا. ولكوبولا تاريخ في تصوير التضاد العاطفي الحاد بين الأخوة، كما في الجزأين الأولين في «الأب الروحي» وشريطه الذاتي «همهمة السمكة» - 1982 (لا ندري إن كانت ترجمتنا موفقة للعنوان) الذي خصصه لسيرة شقيقه الأكبر وذكرياته معه حينما كان عمره 17 عاما. ومن يستطيع إغفال ظلال تروفو وحتى فيلليني على أعماله؟
Vincent Gallo
بعد رفع الستارة
أنجيلو الذي اعتاد بمناداته «تيترو» كاسم مختصر لتيتروسيني الذي اختاره بعد اختفائه من عائلته (فنسينت غالو) أحد بوهيميي بوينس آيرس، شاعر وكاتب مسرحي، يتمتع بالإحباط أكثر من السعي وموافق على مصيره والهارب من قسوة الأب العبقري الذي يقود فرقة موسيقية مهارته تسيل دموع من يسمعه، بينما أخوه الأصغر «بني» (ألدن إيرنيرش) ممثل واعد جدا، سيحبه عشاق ليوناردو دي كابريو لأنه يبدو كما لو كان شقيقه الأصغر وابتسامته ونظرته التي تحمل الاستدعاء فيها الكثير من جاك نيكلسون والشكل العام يشبه مات دامون، لذلك كان حضوره على الشاشة مثبتا كليا وتنتظره أدوار مثيرة، مهمته في الفيلم تعقُّب أخيه «تيترو» حيث كان رضيعا حينما غادر العائلة.
و«بني» هو أيضا هارب، ولكن من الخدمة العسكرية بعد أن زوّر عمره وحصل على عمل كنادل في سفينة، وعندما ترسو في بوينس آيرس لتصليح محركاتها، يفلت منها بهدف البحث عن أخيه لغاية عثوره عليه في الشقة التي يتقاسمها مع صديقته ميراندا لا بوسا.
ونظن أن فنسينت غالو كان اختيارا مثيرا لأن يحمل عنوان الفيلم، فهو ممثل قوي الإرادة يميل إلى الاحتراق من أجل إيصال أحاسيسه.
Francis Ford Coppola introduces "Tetro"

صراع العباقرة
وتيترو متذمر بطريقة تثير الاستياء، تحاول القصة إلقاء اللوم في غضبه المزمن على معاملة الأب كارلو (كارلوس ماريا براندوير) وتمنحه بعض الهدنة في تدخلات ميراندا التي تحاول أن تقلل من المفاجآت التي تحملها عملية استرجاع الأسرار العائلية مع شقيقه والمركزة على الأب كارلو كنموذج للأناني المطلق الذي يستطيع بكل هدوء أن يخاطب ابنه: «هناك غرفة واحدة لعبقري واحد في هذه العائلة».
وإذا كان والده قد شيد نفسه بقيادته فرقة موسيقية مشهورة عالميا، فان تيترو كان عبقريا بلا إنجازات. أما ميراندا، فإنها ستساعد أخاه «بني» سرا من أجل أن ينهي تيترو مسرحيته وإرسالها إلى ناقد مشهور (كارمن مورا).
Maribel Verdú - Acting from Within

الأبعاد المتعددة
هنا ستشحن الحكاية بالفرويدية مشكلة المنطقة الفاصلة لتوضيح أسباب وشروط تيترو للهروب من العائلة، في وقت لا وجود لخلفية تدعم هذه الرغبة في الهرب رغم أنها استمرت لسنوات طويلة.
لا تبرير لحالة عدم الاستقرار لحياة تيترو السابقة واللاحقة، وسيكون على كوبلا في غضون 127 دقيقة اماطة اللثام وإزاحة الغطاء المثير والمأخوذ من المآسي الشكسبيرية وبدرجة محسوسة: هاملت والملك لير وعمل فرانز كافكا المذهل «رسالة إلى الأب» وأعمال بيرانديللو وتينيسي وليامز ويوجين أونيل والمآسي اليونانية الكلاسيكية.
شخصيا، أحب هذه المواد الثقيلة ذات الأبعاد المتعددة لكن بشرط أن ترنّ بالمعاني، لأن بواسطتها ترتفع وتمنح المشاهد الكبيرة حتى لو كانت غير مرضية.
Osvaldo Golijov - Music Born from the Film

الإمساك بالسمات
وهذه كانت مهمة والتر مورش، لكونه محرر قصة ومخطوطة كوبولا، فقد كان عليه أن يبحث في التأثير الكامل للقصة وأن يساعد تيترو في الإمساك بسماته البوهيمية الطبيعية ويعزز تجهمه من المجتمع لا أن يكون تجهمه لتزيين الشكل الدرامي للحكاية وإظهاره كمدّع ؛ بكلمة أخرى، أن ينزل في أعماقه ويفكك كتلته الداخلية إيحائيا أولا، وهنا يلعب التمثيل والملامح دورها، وثانيا في هيكله الخارجي وما يتفوه به لسانه، أي الحوار ( جرى بالأسبانية والإنكليزية).
لذلك لم يتم اكتشاف تيترو كصوت الرفض في العائلة، الرفض المدوي تجاه العالم، لأنه لم يكن سوى هارب من وطنه ومنشغل بقصائد المقاهي في ميناء لابوكا، محاطا بالملونين والمتع الجنسية المتاحة ومن ثم الحضور الدافئ لصديقته المقربة ميراندا التي كانت تلعب دور أمه التي ماتت بحادثة.
على عكس ذلك كانت المهمة أسهل مع الأخ المراهق «بني» الذي كان مشعلا للتفاؤل والسعي لرفع الآخر، فيما كانت موسيقى أوسفالدو غوليوف تتسكع في اللحظات غير المرغوبة لفيلم طبيعي (حديثنا يجري عن شريط تجريبي).
لكن هذا لا يعني أبدا أن الموسيقار الأرجنتيني لم يزودنا بالطاقة الحسية الوفيرة المنسجمة للغاية مع وصلات الأغاني الإسبانية – الأرجنتينية الحزينة والسعيدة كتكملة للطاقم الأسود والأبيض الذي اختاره كوبولا بالجمال البصري والأبيض اللامع بانفجارات الألوان التي نجح فيها مدير التصوير ميهاي مالماري معبرة عن التوترات الكئيبة بين الأخوة التي تحيلنا إلى كوابيس «العراب»، وملاحقة الماضي منحت كوبولا فرصة دمج وصلات الأوبرا المفضلة لديه ورقصات آنا ماريا ستيكلمان.
Francis Ford Coppola On Location in La Boca, Argentina


مطاردة الماضي
إن كوبولا كان يطارد ماضيه، كما كان كارلو يطارد أبناءه، كالصوت الذي يمنح الإحساس للمشاهد بأنه يراقب حلم شخص آخر أو كابوسه. بينما كان لتيترو قواعده المزعجة للإجابة عن أسئلة أخيه الأصغر، هو لا يريد الإجابة عن أسئلة «بني» عن الماضي، رغم أن الصغير يحمل العشرات منها، كذلك لا يريد التحدث عن والدهما أو عائلتهم ( لديهم أمهات مختلفات).
هكذا تجري أمور «بني» في الأسبوع الأول له على اليابسة (كرمز للأرضية المشتركة التي يحاول العثور عليها مع أخيه)، ولكي لا يمنح أسرار الصراع، يتفادى كوبولا تقليد شريطه «شاب بدون شاب»، ليركز بدلا من المشاجرات بين الأب والابن والأخوين، على الحافز الذي يدفع الفنان الى فهم حياته الخاصة. وهنا يتطلب منه أن يبطئ ليقشر جلد القصة بواسطة «بني» المغرم بتفاصيل الماضي، بينما تشده أجنحته في طريق المشاعر الصادقة تجاه أخيه الكبير، تلك المشاعر التي جسدت «الواقعية السحرية الأميركية» التي ثبتت العودة المظفرة لكوبولا كأحد رموز السينما المفقودين

10‏/06‏/2009

The Kite Runner


لا يمكن الهروب من الذكريات المخزية، هناك متسع في الحياة لتصحيحها فحسب. هذا ما يريد خالد حسيني قوله في روايته (The Kite Runner) الناجحة توزيعا وانتشارا ومبيعا في الولايات المتحدة وأوربا والتي حولتها إلى السينما مخطوطة سيناريو لديفيد بينيوف وأدار فريق الفيلم وأخرجه مارك فوريستر. يعتبر الندم أحد أقوى المواضيع في الأدب منذ ظهوره في الإنسانية، كل البشر من الممكن أن يقترفوا ما يتوبون عليه بتقدم العمر، لاسيما تلك الأخطاء المريعة والفاصلة التي يحملونها بقية حياتهم لغاية امتلاكهم القدرة على المستوى العقلي والعاطفي لتعويض الذنوب، لا مسحها.


PDF

هذا الفيلم يضعنا في مواجهة الوجه الإنساني للحرب، انه شريط يحاول تسجيل قهر الضحايا الأبرياء انطلاقا من كابول عشية التدخل السوفيتي ولغاية سان فرانسيسكو مطلع القرن الجديد، حاملا مثالب الحرب نفسها وطارحا أزمة الكتاب المغتربين الذين يؤلفون الروايات عن بلدانهم عبر السماع والأنباء ووجهات النظر المسبقة وما تبقى لديهم من إرث خلَّفه لهم الآباء الذين حملوهم أطفالا، كما جرى لخالد حسيني الذي ترك الطب، ليتفرغ للكتابة عن أفغانستان التي غادرها طفلا عام 1978، وهو العام الذي تبدأ فيه أحداث الشريط.



تورط المخرج الناجح
مارك فوريستر غير مبتدئ في إدارة الأفلام الطويلة التي تناقش ما يمكن أن نسميه «الأسئلة الكبرى»، فقد عرف في فيلمه «كرة الوحش» الذي جلب لهالي بيري أوسكار أفضل ممثلة و«حارس الغابة» الذي جلب له مديحا نقديا وإقبالا لافتا على شباك التذاكر.
ولفهم «عداء الطائرات الورقية»، لابد من مشاهدة هذين الفيلمين للتعرف على أسلوب فوريستر في معالجة المشاهد المركبة والمؤلمة عاطفيا وتعامله الصحيح مع الأطفال.
وهو مخرج طموح للغاية في التعامل مع الروايات ومجهز بالأدوات كافة للعودة إلى الماضي والإمساك بمحاور القصة دون الاستعانة بالتقنية والأرشيف والخدع وكان دائما ينال هدفه، غير أنه في هذا الشريط وجد رواية حسيني مرتبة جدا، كما لو كتبها خصيصا للسينما، بميزتها المتحركة وإثارتها النفسية وحتى في ظلامها وتناولها وبدا أن مهمة بينيوف جرت بسلاسة، لكونه لم يجد صعوبة في الانتقال ما بين زمنين: أفغانستان قبل الاجتياح السوفيتي وفي أيامه الأولى، ومن ثم في غضون حكم طالبان، ووضع الجالية الأفغانية في أميركا، وهكذا لا يوجد أكثر من هذا الترتيب للشروع في تصوير فيلم. ولكن هل كان الطريق متاحا أمام هذا المخرج الناجح، دون التورط في طرح قضية كانت أكبر من الكاتب نفسه؟

أفغانستان بعين طفل
كما أنه من أندر الأفلام التي سلطت الضوء على المجتمع الارستقراطي الأفغاني أوقات الملكية، ووضع الروائي اهتمامه بالأطفال أكثر من البالغين (لكونه البطل الحقيقي ورأى أفغانستان بعين طفل)، وهو أمير (زكريا إبراهيم) الذي أدى دوره بشكل استثنائي وصديقه حسن (أحمد خان) الذي كان يعمل خادما مع والده عند قصر والد أمير (هامايون إرشادي) الذي فقد زوجته في ولادة أمير الذي أصبح منطويا ، تلبى رغباته بدون ضغوط، لا يقوى على الدفاع عن نفسه بمواجهة أطفال المدينة الشرسين والعدوانيين، وكانت مهمة حمايته موكلة لحسن الذي حمل صفات الرجولة عوضا عنه، رغم أنه كان أصغر منه سنا وأضعف بنية. ولم يكن رجلا فحسب، بل أفضل من يقود الطائرات الورقية في كابول واستطاع في مشهد سينمائي، أن يسقط كل الطائرات الورقية المتنافسة، في اللعبة الشعبية المعروفة في العاصمة الأفغانية، حينما يبدأ المتنافسون بإدارة طائراتهم وإسقاط طائرات المنافسين بربط أجنحة زجاجية تتكفل في قطع الخيوط.


الثبات والتخاذل
إن حسن، كان رمزا للروح الأفغانية، بثباتها وقوتها ومهارتها، المدافع عن صديقه الارستقراطي الذي تخاذل عن مساعدته حينما حوصر من مجموعة مراهقين في شارع ضيق واغتصبوه، وتوارى كأنه لم ير هذا الاعتداء، ليحمل جبنه معه في المنفى.
وولع حسن بالطائرات، عشقه للحرية والاندفاع والطيران وبأس المحارب، وهي الصفات التي أراد أمير تعويضها في الدراسة، وحينما رفع أبوه النخب في حانة أميركية تحية للدكتور أمير الذي حصل اليوم على الشهادة الجامعية ( أدى دور أمير البالغ خالد عبدالله)، تضايق من هذا اللقب العلمي ليجد نفسه بائعا في «بازار» شعبي ترتاده الجالية الأفغانية.
هو مصير خالد حسيني نفسه الذي ترك الطب وأحنى جبهته للموضوع الأفغاني ليعالجه في روايات كانت هذه الأولى التي أصدرها. وهي أزمة الهوية التي أراد إثباتها وطمس عاره في السكوت والخنوع حينما تم اغتصاب صديقه أمام مرآه وتخاذل في عمل شيء، بل افتعل حادثة سرقة ساعته متهما حسن بذلك، ليغادر الخادمان قصر والده حاملين ذنوب أمير التي تحتاج إلى قدرة هائلة لكي تغتفر.
لذلك حينما تزوج أمير من ابنة صاحبة البازار اللطيفة التي تحمل كل سمات الفتاة الشرقية المحافظة حتى في جمالها، لم يكن لديه خيار في إنجاب الأطفال، لا يريد أن يقدم جبانا جديدا إلى العالم، لم يكن أمامه سوى حسن لكي يعيده إلى ترابه، منبعه، قوته، شجاعته المفقودة، ورجولته.


انهيار الجميع
إن خروج حسن بهذه الطريقة المهينة من حياة أمير، كان فاتحة لانهيار البلاد باختلاط مفرقعات الحفلة الارستقراطية لعيد ميلاد أمير مع الاجتياح السوفيتي، في الوقت نفسه، سيحمل والد أمير الحقائب نفسها لخادمه الذي غادر القصر ظلما، ويتوجه إلى بيشاور الباكستانية هربا من النظام الجديد الذي يخطط السوفيت في إقامته، وقبل أن يحشر مع أمير في خزان للوقود لكي يعبرا الحدود يأخذ بأصابعه حفنة من التراب الأفغاني ويضعها في حافظة ساعته، ليشمها قبل لفظ أنفاسه الأخيرة في سان فرانسيسكو بعد عقدين.
في الطريق إلى باكستان، ستوقفهم نقطة تفتيش للجيش الغازي، ويبدأ الاستجواب، ولا نعرف هل من الواقعي أن يقف إرشادي ليبدأ خطبة إرشادية عن الضمير على مسمع الجندي السوفيتي الذي يجيبه ماصا لفافة السجائر: «إنها الحرب ، عن أي ضمير تحدثني أيها العم».
صورة أفغانية خاصة للمتلقي الغربي وفقا للمراسم الدعائية التي اعتادها

خصيصا للمتلقي الغربي
لقد كانت للسذاجة السياسية لخالد حسيني وآرائه المكتوبة للمتلقي الغربي أثرها على سيناريو بينيوف الذي لم يخرج عن المراسم الدعائية للرواية، وكأن الحفاظ على الأصالة الأفغانية للجالية في أميركا لا تتم إلا بزيارة سوق الدجاج والبحث عن الذبح الحلال والرقص الشعبي عند توزيع الحلويات الوطنية. وحينما عاد أمير إلى كابول عبر بيشاور، شدد حسيني والسيناريو والمخرج على إظهار طالبان كوحوش، ولكي يفزعوا المشاهد الغربي لابد لأمير أن يكون في ملعب لكرة القدم حيث يُرجم الزناة في المشهد الذي كررته القنوات الإخبارية مئات المرات.
وهذا الأميركي الأفغاني لابد وأن يكون المنقذ، سيجتاز بلحية مستعارة الحدود وسيخترق ضيعة قائد ميداني طالباني كان قد أضاف إلى غلمانه أبن حسن – سهراب ( علي دينيش) ، كتكرار لمأساة والده الذي قتل في الحرب دون التوقف بمزيد من التفاصيل واكتفى من في الفيلم برسالة كان حسن قد أودعها عند العم رحيم خان (شاون توب) الذي كان يهتم بالصبيين، وفي اللحظة التي كان ينهال فيها قائد طالبان على أمير بالضرب، سينقذه سهراب كما فعلها والده حسن في الطفولة بالمصيادة ، وسيهربان من بين كل القوات الموجودة بلمح البصر.



بطولة وهمية
وبطبيعة الحال، كان مشهدا هوليوديا رخيصا بامتياز ولا يصلح لهذا النوع من الأفلام، فكيف يمكن لأمير الضعيف الهرب بالصبي سهراب من كابول حتى قندهار ومن ثم يعبر الحدود إلى بيشاور بهذه البساطة ، هذا في حالة إذا تغافلنا البطولات الوهمية التي حدثت في مقر قائد طالبان.
والذي يعرف الوضع في أفغانستان أوقات حكم طالبان، يدرك قوتهم التنظيمية في مجال الأمن، بحيث لا يمكن لعجلة جيب اختراق ثلاثة أرباع البلاد، بعد اعتداء أفرادها على قائد لهم، بهذه البساطة، لذلك حصلنا على أحداث ملفقة إلى حد بعيد، كافية لأن تسقط الفيلم برمته.

تلقى الفيلم هزيمة فنية بسبب رزم آلام الآخرين للعن الخصوم ببهرجة السينما التجارية

السقوط في الفخ
في الروايات قد تأتي حوارات ومواقف خرقاء، لكن لماذا حافظ عليها سيناريو بينيوف وفوق ذلك سار فوريستر على نهج المخطوطة، فالعداء للشيوعيين وطالبان لا يكون بهذه الصورة، فماذا يعني أن يعالج والد أمير في الولايات المتحدة على يد طبيب وخلال عملية الفحص، يعرف أنه من أصول روسية فيدفعه ويذهب إلى طبيب أفغاني يستكمل عنده العلاج، أو وصفه للملالي على أنه قرود في لحظة شفطه للكحول. ما المغزى في هذه اللقطات التافهة؟ وإذا كان فوريستر راغبا في تفادي السياسة، فلماذا يسقط في فخ أكثر خطورة: السطحية التي هي ألد أعداء الفن. إن بطل رواية إيان ميكويان «تكفير» طفل أيضا، وحمل ذنوبه وكوابيس الحرب في بلاده إلى المنفى، لكن التطهير الذي حصل عليه، بعد معاناة ومشقة جاءت منطقية وواقعية، وكذلك شريط «طعم الكرز» لعباس كيروستامي الذي لا تجد فيه أي ادعاء، وعبقرية ترجمة الإيقاعات الطبيعية للحياة وللمؤدين غير المهنيين على الشاشة وقابليته على تعبئة المشاهد بالمشاكل الحقيقية، خلافا لنص حسيني، التي باقتباسها «رامبويات» هوليوود، جعلتنا نشك حتى في رغبته للتوبة.

المؤلف خالد حسيني والمخرج مارك فوريستر

هزيمة الفن
لقد تلقى حسيني وفوريستر في «عداء الطائرات الورقية» هزيمة فنية، لأنهم لم يمتلكوا أدنى حق في رزم آلام الآخرين ليلعنوا خصومهم ببهرجة السينما التجارية. غير أن هزيمة الفيلم لم تكن منكرة، فقد أنقذها كاتب الموسيقى المخضرم ألبيرتو إيغلسيس.وعناصر الإنقاذ الأخرى كانت الأداء المتميز للأطفال والممثل خالد عبدالله الذي نعده مفاجأة حقيقية بتمثيله المحترف ومدير التصوير روبيرتو شيفر الذي أجهد نفسه بالتصوير الجوي لمعارك الطائرات الورقية، وتلفيق أغلب المشاهد، كما لو صورت في كابول فعلا، فالذي يعرف العاصمة الأفغانية سرعان ما يفاجأ بفداحة أخطاء المخرج وفريقه الذين كانوا جاهلين تماما حتى في فارق الأزياء ما بين البشتون الذين هم أغلبية سكان كابول والأوزبيك والطاجيك الذين يسكنون في جلال اباد ومزار شريف على التوالي. وفي كل الأحوال ان المشاهد السريعة بينت أن الفيلم تم تصويره في بيشاور وبعض القرى الباكستانية ذات الغالبية الأفغانية، ودخلت كاميرا منفردة إلى أفغانستان لتصور بعض المناطق التي لم يظهر فيها ممثل واحد بحوار.