19‏/12‏/2008

.w


افتتح مهرجان دبي الدولي في دورته الخامسة بفيلم W، المنتج بميزانية قليلة لم تتعد الخمس والعشرين مليون دولار تجرأ فيها أوليفر ستون للمرة الثالثة في تقديم سيرة حياة الرئيس الأميركي الحالي جورج دبليو بوش بعد أن قدم البراءة الأميركية في «جي أف كي» - 1991 و فساد السلطة في «نيكسون» - 1995 بشكل معقول. وبدا الأمر وكأن هذا المخرج الذي يمتلك موهبة خاصة، يميل إلى التخصص بالرؤساء الأميركان ولاسيما المثيرين للجدل. وكما أن جورج بوش لم يكن شخصا عاديا وفي سيرته الكثير مما يقال على الشاشة وعلى الورق، فإن ستون غير عادي أيضا باهتماماته سواء الفنية منها أو السياسية. لا نعتقد أن أهداف ستون «الباطنية» تخصنا كثيرا في غضون معالجتنا الشريط من وجهة نظر النقد السينمائي المجرد، كما نجد من الضروري - ومن وجهة نظر النقد الفني فحسب ــ الإشارة إلى إصرار ستون وفريق المنتجين لعرض الفيلم لأول مرة في الولايات المتحدة في 16 أكتوبر 2008. ويمكن تصور حالة الاستعجال التي تملكت فريق الفيلم، لو علمنا أن الكاميرات سجلت اللقطات الأولى في مايو والشريط عرض على الجمهور العام في أكتوبر تفصله أيام عن انتخابات نوفمبر. لأوليفر ستون طاقة كافية لصناعة الأفلام واختار ممثلين معروفين في الأداء المحترف يتقدمهم جوش برولين الذي حمل شخصية جورج بوش الابن، ولكن فترة أقل من خمسة أشهر كتنفيذ لفيلم بهذا الحجم، قد تكون قياسية وخاصة في الجوانب الفنية والتكنيكية. كما أن تقديم الفيلم في صالات العرض في وقت تتدنى فيه شعبية الرئيس الأميركي المغادر وظيفته عن قريب، لم تكن عادلة نسبيا، مادام الشريط أباح لنفسه الهجاء مرة والتقليدية في السرد مرة أخرى، فيما حرص على تقديم أحداث يعرفها الصحافيون المبتدئون. وبذلك افتقد منذ دقائقه الأولى لحس السينما المغرمة بالتشويق والإثارة حتى في تعاملها مع أكثر القضايا جدية ومع أنه يعتبر الفيلم الأول الذي يعرض سيرة رئيس أميركي وهو في السلطة، إلا أن التعامل معه لم يكن رحيما ولا مجاملا، فيما ابتلى مدير الفيلم بكثير من الرجال والنساء المحيطين بالرئيس بوش منذ فتوته، وكان عليه في غضون 130 دقيقة أن يغمر كلا منهم بوافر من موضوعيته.


قفزات صحافية
وإذا كان السيناريو اعتمد كليا على تقارير كتبها مئات الصحافيين على حد قول أوليفر ستون في أكثر من مقابلة، فإن الشريط نفسه اعتمد فنيا على قفزات الريبورتاج الصحافي، أكثر منه على السرد الروائي. وثمة أحداث تلهت فيها الصحافة الأميركية لفترة من الزمن وتركتها بعد أن أصابت القراء بالملل، كالمشاحنات المستمرة بين بوش الأب والابن ومعاناة الوالد من ولده الذي لا ينفع لشيء سوى معاقرة الخمر والتسكع في الحانات والأبرشية الغريبة التي انضم إليها، مهددا سمعة آل بوش، بل ومقوّضها، في وقت يقدم فيه الشريط بوش الأب (جيمس كرومويل) كأرستقراطي متزن يملك الحكمة والعمق والهدوء والبصيرة يواجه ابنا منفلتا بالعبارة: «هل تعتقد بأنك كندي؟» لغاية وصول النقاش الليلي بينهما مرة أن يحاول الابن الاعتداء على والده بالضرب لولا تدخل اللحظة الأخيرة من الأم باربرة بوش ( إلين برستون).
الأحداث تهرول
لم ينجح الشريط في إنجاز التاريخ النفسي للأحداث ولم يمهل السيناريو فرصة الدخول في أعماق الشخصيات وكانت الأحداث تهرول مع الزمن لكثرتها وتشابكها وأعطى التدفق السريع لها الانطباع وكأن أحدا لم يكتبها، وهذه مشكلة عامة لأي فيلم نصفه روائي والنصف الآخر وثائقي وعلى المشاهد متابعة الشخصية الرئيسية من دون منحه فرصة لالتقاط الأنفاس: التسكع في الحانات، النشاط في الأبرشية، العلاقة العاطفية الأولى، العراك المستمر والليلي مع الأبوين اللذين لا ينامان أبدا، العمل في حقول النفط، الدخول في كلية الأعمال في هارفرد، الترشح إلى الكونغرس، بدء العلاقة العاطفية مع لورا (اليزابيث بانكس) السيدة المهذبة والمثقفة والتي تعيش مع الكتب أكثر مما ترى الناس والتي أدركت نواقص الرجل الذي تودد لها منذ اللقاء الأول، فقررت دعمه والسير معه حتى النهاية.



Oliver Stone On "W"

حذف المراحل
ولكن أحدا من المشاهدين لم يستوعب المبرر الذي جعل بوش الشاب يستبدل وعلى نحو مفاجئ القنينة بالمسيح بعد بلوغه الأربعين، هذا الشاب الذي لم تستوعب أمه باربرة الخبر الذي جاءها من زوجها، لتهتف بشكل هستيري: «حاكم تكساس؟! أنت بالتأكيد تنكت». لقد حذف الشريط بالكامل كل المرحلة ما بين بوش السكير والمنفلت وبوش حاكم الولاية والمسيحي التقي، لم نشاهد حملات انتخابية ولا تحالفات سياسية ولا إعداد شخصية للمرشح ولا أي سمات تقنعنا في تبدل الشخصية من شاب يسكن في الحانات لرجل يحكم ولاية النفط. إننا أمام تهور وثائقي صريح لا يملك حسن النية ولا مهارة وربما انحرافا في الحكم على إنسان تفاداه كتاب سيرته وأجلسوه مباشرة من أقبية الحانات إلى كرسي الحاكم بطريقة بدت كأنها كاريكاتيرية. فماذا عن صبره الكبير في هارفرد ومعاناته في ترك الإدمان وصعوبة القرار التي اتخذه في التحول من شخصية إلى أخرى وماذا عن دور لورا في هذا التغيير الساحر في شخصيته، بما لا يقبل الشك، كان لهذه المرأة دورا فريدا في تكوين الشخصية الجديدة لبوش الذي ظهر مجروحا بالرفض وتفضيل والديه أخاه الأصغر جيب عليه في المقارنات اليومية لكونه فعل كل شيء لتلطيخ تراث العائلة.

الشريط اعتمد على قفزات الريبورتاج الصحافي أكثر منه على السرد الروائي

رئيس بلا مقدمات
إن السينما الجادة تحسب كل ميليمتر في أشرطتها، إلا أن سحب الممثلين ومعهم المشاهدين بهذه السرعة، تخرجهم عن التاريخ وقواعده وما كانت الشاعرية سترهق الفيلم لو وضعت بطريقة ما وربما كانت استمالت مع التاريخ المرتب بمهل وأعطت الشريط وزنه الحقيقي. لقد وصل بوش إلى البيت الأبيض من خلال الشريط بحس إيحائه الخاص الذي مهده بالقول إن الله دعاه ليكون رئيسا في وقت كانت أكبر أحلامه أن يكون لاعبا للبيسبول، عدا مشهد قصير لعبه شخص مركب نظراته مخيفة (ستايس كيش) الذي كان يوعظ بوش وساعده في استقامته الدينية وبعدها مباشرة هبط عليه الإيحاء الرباني المذكور.
الفريق الشهير
ولدينا سؤال غريب: هل كان فعلا الرئيس جورج دبليو بوش لا يكلم نائبه ديك تشيني (ريتشارد دروفوس) إلا عندما يتناول طعامه؟! وهل كان رئيس الولايات المتحدة بشعا بالفعل حينما يتناول طعامه بحيث ينظف يديه في طبقه الذي يأكل فيه، ولا يغسلهما حتى بعد تبوله ! هل كان بوش يتعامل مع فريقه بطريقة فتيان الحانات وخاصة مع تشيني (واضح احتقار ستون لهذا الشخص وإبرازه كشخصية استحواذية وتآمرية وماكرة) وكولن باول (جيفري رايت) ودونالد رامسفيلد (سكوت جلين) حتى والجميع يناقش قضية خطيرة كالتعامل مع القاعدة والمعتقلين واستراتيجية الخروج من العراق؟ لا نعرف بالتحديد مغزى اللعبة التي مارسها ستون في تصوير الجلسات الخاصة في مناقشة ومتابعة عملية احتلال العراق من قبل بوش وفريقه وإن كان قصد المخرج هجوهم أو أن المشاهد كانت ناتجا عرضيا للقطات لم تنظم جيدا. الملاحظة الفطنة من ستون أنه لم يظهر بوش كدمية لفريقه ولاسيما تشيني حيث قال له مرة بشكل سلس: «يدفعك غرورك أحيانا إلى أن تنسى بأنني الرئيس».من جانب آخر، ألم يكن واضحا امتزاج الفن التلفزيوني بالسينمائي الذي أصابه الضرر، فأغلب مشاهد المكتب البيضاوي واجتماع مجلس الوزراء كانت تؤدى حسب قواعد التصوير التلفزيوني وليس السينمائي.

تهور وثائقي صريح لا يملك حسن النية ولا مهارة وربما انحراف في الحكم على إنسان تفاداه كتاب سيرته

الانتصارات والكوارث
تم تحميل الشريط أيديولوجيا، وهو رأي المخرج أوليفر ستون بجورج بوش الذي قاله صراحة في كلمته في افتتاح مهرجان دبي السينمائي ولم يفاجئ أحدا من الجمهور. لكن الذي يكتب التاريخ يعرض انتصاراته وكوارثه بإنصاف ومطلوب الرمزية أحيانا لدعم العمل الفني، فالكتابة الصحافية شيء والسينما فن آخر مختلف تماما. ولا يوجد من المشاهدين من يجد متعة في النط ّ من تكساس إلى بغداد ويتابع البيت الأبيض كأنه في سفرة سياحية. ولعل ستون ذهب إلى المناطق السهلة في بوش ليقدمها على الشاشة بواقعية متلفزة ولباقة من يملك فريق تمثيل قوي وقلص المسافة الجمالية، بل قطعها أكثر من مرة. ويتكئ الفيلم أكثر على الكوميديا من المأساة حتى وهو يعرض صور الجرحى والقتلى العراقيين بطريقة الحشو، وهي كوميديا الأخطاء التي أدخلت على الشريط بقصد ويحق لنا أن نسأل السيد ستون إن كان يملك الحق في حشر الموتى واستغلالهم في فيلم تجاري، ومن الواضح أن المخرج لا يستطيع بلوغ غاياته من دونهم.
الحقائق والفن
ويبدو أن مدير الفيلم مسرور بـ «الحقائق الواقعية» نظرا إلى إصراره على البقاء فيها لمساحة عريضة في الشريط وهو لا يجد نفسه بحاجة إلى التنقيب في أعماق «الحقائق»، بل فضل إبقاءها وإبقاءنا معها معلقين. وهو راغب في عرض كونداليزا رايس (تاندي نيوتن) تحافظ على ابتسامتها في وقت كان بوش يملأ المكان بالضجيج ورامسفيلد متكبرا ومحتقرا سلطة الرئيس بتهذيب وكولن باول كيـّسا ومقتصدا الكلمات وباربرة بوش تهوى عض أصابعها في وقت تحتاج فيه إلى استخدام دماغها وكأن المخرج وبطله خرجا من مرحلة ضبط النفس حينما تصل القرارات إلى إغراق العالم: سواء في الفيلم الواضح أو الواقع المروع.

ستون ذهب إلى المناطق السهلة في بوش ليقدمها على الشاشة بواقعية متلفزة ولباقة من يملك فريق تمثيل قوي

أسوأ الرؤساء
إجمالا؛ يظهر ستون رئيس الولايات المتحدة الثالث والأربعون كشخص خامل وفقير المعلومات وسطحي وضحل وغبي ولا يحترم أبويه وطريقة كلامه تقترب من التهريج أكثر من الحديث وغير قابل على التطور وكما يظهر السيناريو تحريضيا بطريقة غير عادلة - حتى فنيا - وهو استنتاج سياسي في محاكمة بوش سينمائيا لدعم الفكرة القائلة إنه أسوأ الرؤساء الأميركان على الإطلاق وهو أسهل المخارج في تبني هذه الشخصية. ألا يدفع الفيلم المواطن الأميركي إلى التساؤل عن سبب إنتاجه عشية الانتخابات، وكيف استطاع العيش ثماني سنوات برئاسة هذا الرجل الأخرق؟ والذي شاهد فيلم «نيكسون» سيشعر أن ستون افتقد تلك المغامرة ورفعة التصوير والنسيج الموثق تاريخيا بشكل جيد المنسجم مع مخيلة موفقة. ففي الشريط الراهن هناك لخبطة وتشوش وغياب التوثيق بالقضايا التي جرت خلف الكواليس والأحداث ينبغي أن تقع في سياقها التاريخي وتقديمها بهذا الشكل سيكرسها لدى الكثير من المشاهدين كحقيقة واقعة. أما الكلمات المهمة التي كان يقولها بوش، فدعاها ستون تطرح عرضا كالتهام الرئيس السندويتشات في نقطة ما أثناء الحديث، ناهيك عن إساءة استخدام الألفاظ.
العناصر الفنية
لم يهتم ستون بالبصريات أبدا وسيطرت عليه الصورة المقربة المشوهة والهامشية مع الإضاءة الغامضة والتكلف في الصوت واختيار الموسيقى (وضعها بول كانتيلون) وكأنها للسخرية لا لتثبيت الموقف الدرامي. وعلى الرغم من الأداء الرائع لجوش برولين، فإنه لم يتفاد التشنج اللاإرادي لمحاكاة جورج بوش وهو لم يساعد جيمس كرومويل الذي لم يكن مقنعا بدور بوش الأب.

حذف الشريط بالكامل كل المرحلة ما بين بوش السكير والمنفلت وبوش حاكم الولاية والمسيحي التقي

عناصر السقوط
ما الذي حصلنا عليه من هذا الفيلم: إن بوش سيئ وتشيني مراوغ وباول جيد والرجل غير المناسب في المكان الخاطئ وأن الولايات المتحدة قدر لها أن يحكمها رجل أكبر أحلامه كانت أن يضمه فريق للبيسبول يركض فيه بالمجان.إن كارثة الفيلم سببها تأثره بالحساسية الغريبة لأوليفر ستون من جورج بوش علاوة على السرعة في الإنتاج وهذان العنصران قد يقودان إلى توضيح بنائه المبعثر الذي تخبط على أرض غريبة في الفن يسمونها: منتصف الطريق. وتبقى مشكلة فيلم W الرئيسية أنه حسب المثل الروسي: «لا سمك ولا لحم»؛ فهو ليس هجاء ولا عملا وثائقيا ولا روائيا ولا سياسيا ولا إيديولوجيا ولا إعلان سياسيا لتشويه السمعة ولا كوميديا ولا يحمل مفاجآت ولا يحمل صبغة خيالية؛ هو لا نار ولا ثلج ولعله في النتيجة بلا طعم ولا رائحة.