07‏/01‏/2010

LOLA

ذهب المخرج والمنتج الفلبيني بيرلانتي ميندوزا الى مهرجان دبي السينمائي ليتسلم المهر الذهبي لأفضل فيلم آسيوي وأفريقي، وهو واثق من أن عجائزه سيرفعنه إلى المنصة مجددا، كما فعلن حينما ظفر بجائزة أفضل مخرج في مهرجان «كان» السينمائي، وتلك الضجة الباهرة التي أحدثها شريطه «لولا» (يعني الجدة بالفلبيني) في مهرجان فينيسيا، وجائزة أفضل مخرج في مهرجان كاتولونيا الدولي الرابع في إسبانيا، وكأنه اختتم العام بحصد الجوائز في كل المهرجانات التي شارك فيها، بقطعته السينمائية النادرة والمثيرة التي عرضت حكاية بسيطة، إلا أنها مثقلة بالعواطف والمعضلات الأخلاقية العميقة.
وميندوزا صنع حتى الآن تسعة أفلام منذ تخرجه من معهد الفنون الجميلة في جامعة سانتو توماس وعرف بقدرته التقنية العالية واتخاذه منحى المدرسة الواقعية الاجتماعية. الحقيقة المظلمة لدينا جدتان فقيرتان جدا وحفيدان صرعا بعضهما بعضا، ليبدأ قتال الجدتين (الممثلتين المسرحيتين المخضرمتين أنيتا ليندا وروستيكا كاربيو) اللتين كسبتا الإطراء في عروض الفيلم عبر العالم، بتجسيدهما المسنّين الذين يعيشون في تلك الأكواخ التي تغرق بعد أن تغرق.
اعتمد ميندوزا على مخطوطة سيناريو كتبتها بعناية ليندا كاسيميرو مع إجراء بعض التعديلات عليها من قبله، ليوجها الجمهور للجانب الكئيب والصادق والمظلم من الحقيقة، الفاقة والظلم والجريمة، الانتقام في أشد العوز للرحمة، اليأس في أقصى نبوغ الأمل، مشكلة الشيخوخة والتعامل مع الأحفاد، وبحسب تعبير ميندوزا: «أردت تصوير الجانب الآخر للحياة، وسأفعل ذلك في كل أعمالي».
Brillante Mendoza


بعيداً عن السائد
لذلك تعامل مع المواضيع الثقيلة، ويحشو أكثر من باعث لينحاز بعيدا عن السائد والمعتاد للجمهور الذي سيشاهد قنوات المياه الزاخرة بالأناس البسطاء الذين تغطيهم القمامة، هناك منذ مئات السنين يرزحون تحت كاهل الأكواخ، يغطي الذباب طعامهم والجرذان تقفز على جسدك وأنت نائم، وتبقى بخير ومتعودا للروائح واختلاط النفايات مع غذائك، حيث تهب الرياح الرطبة والباردة عبر صحائف القصدير والكارتونات والأقمشة المشمعة التي تغطي ما هو محسوب عليك بيت، يلتقط السياح الصور بلا دعوة منك، لكي يعرضوها على أصدقائهم متباهين أنهم كانوا هناك، حيث هؤلاء نزلاء الحياة، المستوطنون في الأرض، حقا؛ أنهم ليسوا سعداء، لكنهم يحترمون ابتساماتنا وسط البؤس، المثيرون للشفقة يذكروننا بوميض عيون من شاهد الكارثة، كوارثهم التي لا تعد؛ السياسية والطبيعية والتاريخية، والأهم كارثة الاختيار.
ماذا يعني أن تعيش أيامك ما بين فيضان وآخر، لنجد أن مترو مانيلا المكان الرئيسي الذي يؤوي الجدات، لولا الصغيرة.. لولا الأكبر.. لولا التي تكاد تنحسر تحت أسمالها، هذه الدفقات الرئيسية التي مجدت الشريط، البصريات المجردة للمكان المنسجم مع الناس المثيرين الذين يرغمون الفيلم على أن يأتي إليهم، لا أن يذهبوا إليه.
هو ذا ميندوزا الذي اثبت أنه فوق التحديات، باختياره الموضوعات الواقعية التي تلائم سوء الحظ، هذا الواقعي الخطير الذي حطم مشاهديه كل دقيقة ولديه إمكانية كسرهم ماسكاً رؤية السنين والريبة وأن يعيدك من جديد إلى الطريق الآمن كي لا تفوت لحظات شريطه الرائعة، تلك المشاهد المقتضبة، التي لا تعوضها أية كاميرا.
معادلة الواقعية
وكم يكون مدهشا للفن لو تقدم عملا وحججك فيه رصينة وصحيحة وثابتة، وماذا سيفعل المشاهد لو وجد نفسه منغمسا بسوء النية التي تمده بالغضب والكآبة، ولكن ماذا لو كان سوء النية هو الحياة؟! انها معادلة الواقعية التي يسميها البعض «القذرة» ــ لمجرد أنها حقيقية ــ ومن أجل أيّ ومتى وكيف؟! كي يسحبك الفن لنظامه التحتي، عالمه السفلي، الحاجة لكي نصنع أذنا للأرض وفما وعينين لكي تنطق، لكي يلمّ الأجزاء على بعضها وهو المراقب الحسن من بين كل الملاحظين للفرضيات والمنتظرين الطعون لحل المشكلة؟
ولعل ميندوزا، أحد أهم الملاحظين الأقوياء في السينما المعاصرة لموضوعة الشيخوخة وأكثرنا كفاءة في تصوير المسنين المسحوقين وتفاصيل كفاحهم..
في الشيخوخة تواجه: القتل.. السرقة.. السجن.... العوز.. عدم الاحترام، وروحيا: الإيمان، الشك، التردد والخوف والأمنيات المعطوبة، وبيئيا: الفيضانات.. الأمطار.. كل الحشرات مجتمعة بفضولها، وسياسيا: الإهمال والظلم والتعسف..
كل هذا يقول عنه ميندوزا عبر السينما، ان ما ترونه حقيقي يا بشر، ما أصوره يحدث كل لحظة ومنذ آلاف السنين، ومصير الجدات هو مصيركم. كما تفعله صوره المقربة عبر الكاميرا المحمولة لأنيتا ليندا وروستيكا كاربيو، كلوحات للحزن اللانهائي، انظروا لتلك الخطوط على وجوههن، تتبعوا مشقات الزمن عبرها وإن استطعتم دققوا في تعبير التعب المنحوت على ملامحهن.

سينما لا تنتهي
لنتوقف عند المشهد الذي تمشي فيه ليندا في ممر صغير مغمور بصياح حفيدها الكبير، صرخة تحولت إلى جثة، كسلب وقح لعاديات القدر، ولندع الكاميرا تعمل بالضوء نفسه في الموكب الجنائزي، فكيف تمكنت ليندا منحنا نفس الشعور في الممر تجاه الموت، وفي العودة منه بعد التشييع؟ مثل هذا الإنجاز الفني الفظيع لهذا المشهد، ما كان ليتحقق بلا عظمة الخبرة المسرحية التي تحملها أنيتا ليندا والمهارة التقنية الكافية لميندوزا، والغرابة الموفقة لموسيقى تيريزا باروزو، لاسيما في مشهد صيد الأسماك في الكوخ الغارق.
ألا تعطي هذه المشاهد الأسباب الكافية لأن تبقى مثل هذه الأفلام سنوات طويلة دون أن تنتهي، وإن اختلفت التقديرات عما يسمونه «أفلام المهرجانات» وتميزها بكسب «ألفة» الجمهور الأجنبي الميال للعواطف بغض النظر عما إذا كانت الموضوعات التي تعرض عليه، شخصية، ثقافية أو فردية.
وثمة من يعترض على بناة الأفلام الذين يحملون الحقائق في حقائبهم ليثيروا المزيد من النقاش حولها، لكن جدات ميندوزا وفقن في إنجاز الحقيقة، ووفق ذلك نعدها ضربة الفيلم في تقديمه: الوجه الآخر للمرونة الإنسانية. أناس صبورون أو أسوأ من ذلك، لكنهم لا يشكون، بالمعنى الفني؛ لا يحمّلون المشاهد الذنب، ويجبرونه وهو في وضع الاسترخاء على التصفيق.

التلميح الباهر
وقد تترك بعض المشاهد المتمددة شعورا بالملل، إلا أنها تمهيد لسلسلة من الصدمات القادمة، فلو نتمشى مع ليندا وحفيدها في شوارع مانيلا ونعبر الكنيسة نحو الجسر الفولاذي القديم، حيث تضيء هناك شمعة بالرغم من الريح القوية، ستشير لنا الى مصير الحفيد المأساوي، كما مقابلتها ابنتها في صالة التشييع وتلهف صاحبها في عرض التوابيت الغالية، سنعلم – دون أن يخبرنا السيناريو – بأنها تحتاج إلى المال لدفع نفقات الجنازة.
إذن، المشاهد الافتراضية تختفي خلف المعروضة، كما يلمح كل منها للسفر اللانهائي والتغييرات العرضية، فالحفيد المسجى في المشرحة، كشف ألما مكبوتا عند الجدة، وجسدته ليندا (تصوروا تمثيلا!): من طراز الألم المتعذر كبته عادة.
سيستمر ميندوزا بتعمد كاشفا حكايته بأناة عندما تصل الجدة إلى مدير عمل حفيدها لاستجداء المال لدفنه، ستخبرنا ملامحها أنه لم يمت بشكل طبيعي (لا شيء في السيناريو ولا حوار حول هذا الأمر)، ثمة شمعة تضيء ونظرة فيها عذاب مشوش في عيون ليندا.
إن كل هذا الإغراء الفني، لكي يخبرنا أن حفيدها قتل بينما يحاول إيقاف اللص ماتيو الذي اختطف موبايل حفيد البائعة على الرصيف روستيكا كاربيو. وستتحول الكاميرا من ليندا إلى كاربيو، باستمرار هطول الأمطار الغزيرة في الليل، كما لو كان الإيحاء وصل: الجدة الأولى تحاول تدبير قبر لحفيدها لكي لا تتعفن جثته، والثانية ستناضل من أجل تخليص حفيدها من عفونة السجن.
الثقل الفني
هؤلاء المنتهكون المهانون.. الجدتان، اللتان قضتا العمر كله في الكدّ، تصعقان في شيخوختهما بفاقة الموت وفاقة الحياة (أنت ميت فقير.. أنت حي مدقع)، لا ملاذ من الظلم، لا مناص لتنظيم اليأس بمشهد التقاط النقود المبعثرة على الشارع المتسخ في غضون مطاردة الشرطة لباعة الأرصفة، وفجأة تنقلنا الكاميرا للجدة الثانية التي تشحذ ثمن النعش.
هي السلسلة الدرامية الوثيقة الصلة والمحمّلة بثقل فني ثر وغير مزيّن بالحيل الروائية، ولأنك تريد تصوير أناس غير ملحوظين في الحياة، لم ينتبه إليهم أحد، بل لم يرهم حتى الزمن، ولأنك تريد صناعة فيلم، مشعله إنساني في عالم لا إنساني.
أما إصرار «لولا» للانتقال نحو المحكمة في بحثها العقيم عن الحل، ما هي إلا إشارة ساخرة لرمز الحضارة التي ينبغي أن تزود الإنسان – افتراضيا - بالعدالة.
علينا أن نفكر في منظور ميندوزا من هذا الجانب، عبر سخريته المؤلمة مثل استنتاجات تيرادور في شريط «مصيادة» – 2007 ومانورو في فيلم «المعلم» – 2006 حينما قدما أشخاصا مطيعين للقانون ومتحضرين، لكن العدالة تنبذهم وفق الشروط «الإنسانية» لعيوبها التي تدير بواسطتها هذا العالم غير القابل للتصديق.

عودة كاميرون ملبيا ثأره ومؤكدا أعجوبته


في سياق الخيال العلمي، يعود المخضرم جيمس كاميرون في أول عمل بعد «تيتانيك» موجها حلم محاربه زوي سالدانا طوال 166 دقيقة متضمنا عدة عقود من الخيال وأربع سنوات من الواقع.
ساهمت في الإنتاج برامج عديدة حاولت اكتشاف العالم المخفي حيث استندت إلى بعض كتب التاريخ كخبطة موفقة لإنعاش شباك التذاكر، لاسيما ان ميزانية الفيلم فاقت 230 مليون دولار، ذلك لإرضاء طموحات كاميرون ودفعه للعودة لأفلام الأساطير والخيال العلمي والذي أثبت بدوره، أنه قادر على قيادة دفة الإنتاج الكبير.
مجال حركة الحكاية واضح وبسيط، سنكون في سفينة فضائية عام 2154 بصحبة جندي المارينز المشلول جايك (سام ورذينجتن) سينزلق عبر الفضاء اللامع وفي ظروف انعدام الجاذبية على كوكب بعيد ومسكون. ولا بد من تسجيل فضل جيمس كاميرون في ابتكار ودفع هذا الطراز من الأفلام وهو واحد من أهم صناع سينما الخيال العلمي التي تهوى تقديم البطل المنقذ بلا مشاعر عميقة، كون الرحلات غير العادية التي يقوم بها، لا تفسح المجال لمثل هذه التفاصيل الدرامية.
كائنات وعوالم
ويبدو أن المخرج أشرف على تصميم أبطاله من رأسهم حتى أقدامهم، وأراد أن يكونوا كبقية الزوار البشر إلى معسكر باندورا، على أن يشبهوا «المواطنين» هناك، لنمسك بالحبكة الأولى والرئيسية للفيلم الذي يخصص الجزء الأول منه لرحلة جايك ومغامرته مع كائنات كاميرون الزرقاء والمألوفة بعيونها المميلة وآذانها المضطربة كالقطط والأشرطة المقوسة التي تخطط جلدهم الملون كالغسق.
ولجايك أفاتاره الذي يعلق فيه من خلال المحسسات التي تمنحه قدرة على الجري السريع والقفز وتحرير جسده من القيود، رغم أنه يتلقى الأوامر من العقيد ميليس كوارتيش كرمز للقوة العسكرية الأميركية.
التقنيات تشتغل
ويلاحظ أن كاميرون يفضل الصور المتحركة لتأمين أساسيات قصته لغاية إمساكه بالتفاصيل من خلال حوار سطحي لم يتدبره كاتب نثر موهوب، حتى عندما اجتمع جايك مع أنثاه التي تكررت في كل أفلام كاميرون تقريبا.
وهي أفكار المخرج نفسه منذ منتصف التسعينات، غير أن التقنيات وقتها لم تسعفه لتجسيدها، لم يستطع تحويل أفكاره إلى صور كما نجح في «أفاتار»، ولوقت قريب كان يعاني التقنيات الرقمية الجديدة لكي يحصل على أدواته الضرورية.
لا يهمنا إن كان ملك العالم يضع نصب عينيه خلق عالم آخر أو أي فكرة بليدة أخرى، فالذي يحرضنا في «أفاتار» جيمس كاميرون نفسه الذي حرض السينما منذ فترة طويلة لإدخالها في العوالم الغريبة والمشاهد المدهشة والمناظر الفريدة.
ومجددا، كتب كاميرون المخطوطة كاملة لـ«أفاتار» قبل 15 عاما، لكنه آثر الانتظار حتى تتطور تقنيات التأثيرات البصرية لكي تصنع عالمه المتخيل بثقة.
من هذه الزاوية ننظر إلى شريطه الجديد، وعلى هذا المستوى نحصي نقاط انتصاره، لافتين الانتباه إلى أن توظيفه للأبعاد الثلاثية لم يكن لضرورات فنية، بل لتحسين الرؤية، فبدونها سيبقى عمله البصري مغريا.
وماذا يمكن القول عن الأداء لو كانت الصور مولدة من الحاسوب الذي تولى قيادة دورة المخلوقات الغريبة، بتموجها وطيرانها ووخزها وإظهارها كما لو كانت حية برعدها وصراخها ولمعان أسنانها.
وينبغي الاعتراف بأن الشريط توج انتصار التقنية التي تصنع عالم العجائب بنباتاته وحيواناته، بمخلوقاته الوردية وزهوره.
كوكب متكامل
لقد قدمت التقنيات كوكبا متكاملا مجسدة حلم جون سميث في «العالم الجديد» أو الروايات التي بحثت عن «جنة عدن»، لكن أبعاد كاميرون الثلاثية ضربت افتراضات العين وضخمت تجربة ما يمكن أن نطلق عليها: سينما المنظر، وبدلا من أن يسحبك الفيلم بالخدع المألوفة للـ widescreen، فان صورة الـ Imax مليئة بالعمل الكبير لـ D 3، وبذلك تم إغلاق الفضاء.
بمعنى آخر: جلب تقنيو كاميرون الفيلم إليك. ولم يتكىء كاميرون على طرافة الأجسام والصور المتحركة بالأبعاد الثلاثية فحسب، بل أجاد اللعب بالأدوات التكنولوجية، لأنه منتج أفلام قديم ولا يريد من مشاهده رؤية صور رآها من قبل، طموحه أن نضيع في عالمه، وإذا نفقد فيه، فذاك أفضل المراد. هذه جرأة جيمس كاميرون التي أرضت السينما والجمهور على حد سواء، كونه مخترعا منذ تجاربه السينمائية الأولى، ومحبا للحكايات السحرية (الأكبر من الحياة الواقعية)، ومحترفا في إعادتنا إلى العالم المفترض – المفقود – الخيالي، فهو يسلينا مرة، وينورنا مرات وأحيانا يكتسحنا برهبته، وهو بهذا الشريط، أثبت أنه – بعد غياب 12 عاما من هوليوود – عاد إلى الشاشة ملبيا ثأره، مؤكدا اعجوبته.

29‏/11‏/2009

Love Happens


شخصيا لا استطيع إحصاء عدد الأفلام التي حملت مفردة الحب في عنوانها، لكنني أشهد أن أفلام الحب العميقة، لم تظهر من هوليوود ولا من كتابها ومخرجيها وشركاتها.
وعندما تنشأ هكذا، وأنت شبه متيقن، أن هوليوود لا تستطيع – لأسباب لسنا في محل مجادلتها – إنتاج سينما مدهشة يكون الحب موضوعها، وحينما تفشل في تحويل أعظم روايات الحب في الإنسانية إلى السينما (كما حصل على سبيل المثال، في بارقة غابريل ماركيز «الحب في زمن الكوليرا» وتم تحليل شريطه في هذا المكان)، فمن الصعب أن ترسلك هواجسك إلى ما هو أبعد من مشاهدة «قصة حب»، تنمو مع عناصر سينما هوليوود الأساسية، حكاية مبرمجة ينفذها نجمان معروفان وفريق محترف تقنيا يضمن لك تقديم صورة لطيفة، وفي النتيجة لم تصدم هوليوود افتراءنا القديم، ونفذته بلا مفاجأة تكدر مسلماتنا.


تسكع في الغموض
صحيح أن واحدة من أهم مهام السينما، إبعاد النوم والإغفاء عن الجمهور في صالاتها، إلا أن المخرج براندون كامب وكاتب السيناريو مايك طومسون سلكا الطريق السهل في «الحب يحدث»، باستمالتهما النجمين آرون إيكهارت وجنيفر أنيستون لأن يكون الأول أرملا بما تحمله الكلمة من كرب والثانية امرأة وحيدة من سياتل تحمل ما تعنيه مفردة «الأمل»، وعليها أن تفرج عن مسلسل أحزان، لا يملك المشاهد إزاءها، غير الانفجار بالبكاء وتجفيفه دموعه ببقايا تذكرة الفيلم.
وبيرك (إيكهارت) الكاتب الذي وفق في أن يتصدر كتابه المبيعات ويتسلق فوقه ليلقي المحاضرات ويعلم الناس مغزى الحياة، فيما يصبح علامة تجارية في عالم النشر، وهو بذلك، وعناصر أخرى مختلفة، مزيج فاتر لشخصية تكدس عباراتها الأنيقة في حلقات النخبة، غير أنه يستخدم لغة الإشارة لو تطلب الأمر مغازلة في ممرات فندق، وكذلك لا يعيقه استرجاع وفاة زوجته قبل ثلاث سنوات في حادث سير، في الوقت الذي يرغب السيناريو فيه، كإشارة إلى «الشفاء العاطفي» الذي كان يدعي حضور ندواته إليه، محذرا إياهم من «المشي على الجمر» وبعض الهراء الآخر.
المثير أن كامب وطومسون، لم يقدما الكاتب الذي تحدثا عنه، لأن بيرك بدا شخصا افتقر إلى البصيرة وخلا من الكاريزما، ممل الغايات وألاعيبه بسيطة
ينظم ندوات جماهيرية لمساعدة الناس على تحمل الفراق، لكنه يركل حزنه بجبن بلا محاولة لفحص مشاعره، وفي النتيجة، سيدفعنا ذلك إلى التساؤل: لماذا كان الجمهور يستمع إلى نصائحه بتأثر ويصدقها!


مقاولة حب
وهذا السؤال لم نطرحه على الهامش، لكونه جوهر «حدوث الحب»، لأن إلويس (أنيستون)، التي كانت تمثل بلا عينين حيث اختفى بصيصها القديم، واحدة من هؤلاء الذين جلسوا يتعلمون فن الحياة من الكاتب الأكثر رواجا والذي يعلمهم كيفية مواجهة العالم مع فقدان الأحباء، ولديها هواية حمقاء وهي كتابة الكلمات العشوائية على الجدران وخلف اللوحات، عند انتهاء عملها كبائعة للزهور.
ومن الصعب الفهم، أن شريطا يستند الى الحب ويجعله عنوانا له، يضع المشاعر في آخر اهتماماته، كأن المخرج وكاتب المخطوطة، كانا مقاولين أخذا على عاتقهما إتمام صفقة الحب، لذلك وقعا في أسوأ أنواع العلاقات، وهي في اعتقادنا: الحب المخطط له، وأهملا: اللحظة، الشرارة، الطوفان، البرق وذلك الدفق اللانهائي الذي يغدق على المحبين بهجة وتعثرا وإلهاما ونشوة وحرارة وسموا، ليجدا أن خيارهما هو الأصدق وأنهما صبرا على الدنيا بانتظار هذه اللحظة.
هذه جبال يحتاج إليها ممثلون كبار لحملها أولا ومن ثم تصديرها للمشاهد، فماذا كان يتوقع فريق الفيلم من أنيستون العادية وإيكهارت البعيد عن الفضول، ومن سيناريو اختصر الذنب تجاه الزوجة الراحلة باحتساء الفودكا.
أدرك أنها «لعنة شكسبير»، لكونه أغلق هذه الموضوعات، لكن المبدع الحقيقي هو الذي يتسلل مكتشفا أعماق الكبار، لا شيء من هذا يحدث في حب كامب وطومسون، ويكفي مراجعة المشاهد التي خططوا لكي تكون «مؤثرة» بين إيكهارت ومارتن شين، هناك سيخبرنا السيناريو عن كل شيء، فاضحا أهم أسس الدراما: التلبية.
والحديث ليس عن تلبية متطلبات الإنتاج وما خطط له سكوت ستوبر وماري بارينت، لأن هذه الأسماء موجودة في أفلام كثيرة، بل عن شريط لوثوا اسمه بمفردة «الحب» في لعبة دعائية شائعة، علاوة على السطحية التي باغتتنا طوال الساعة الأولى من الفيلم (109 دقائق) والإصرار على أن القرف هو ميزة رومانسية لغاية التهيئة للنهاية المتوقعة والخادعة، وغير مصدقين أن التخطيط في مثل هذه الموضوعات، هو غش في حقيقة الأمر. فماذا يعني أن تضع المشاهدين في حافلة يسافرون فيها مع الممثل الرئيسي في طريق الشفاء من الحزن، وفي أول محطة سيعثر على أنيستون المضغوطة لتبدأ الرومانسية العاجزة والمتخلفة، التي توفر كل الأسباب لتضع الحب بعيدا.
إنك لا تستطيع «تسويق الحب» بأحداث واردة في كل زمان ومكان، كخاتمة وذروة، وأن البكاء الذي عوّل عليه السيناريو يستدعي ضحك هواة المسرحيات الهزلية، لأنه أحرج الكوميديا التي لا تبنى على الأعراض الجانبية.
في النتيجة، ان هذا الشريط، أهان «سينما الحب» – المهددة بالانقراض - لافتقاره الجرأة والعمق والصدق ولإثارته الضيقة في أن يكون مفهوما وفي متناول الجمهور.
وهو إهانة للحزن لأنه قدمه واضحا، وللأسى لأنه اختبأ خلفه، وللخسارة لأنه عبأها بالحلوى، وللتوبة لأنه لم يبرك في واحة الذنوب، وللفن لأنه لم يستخدمه.

11‏/11‏/2009

Capitalism: A Love Story

فيلم لمايكل مور بالكامل، كتبه وأخرجه وصوّره وكذلك أنتجه، وساعده المنتجون الفنيون كاتلين جيلين وبوب وهارفي وينستين وجون هارديستي، الذين لم تكن الرأسمالية هدف صورتهم، قدر توجهها نحو المجتمع المالي الذي شهد الهزة العالمية المعروفة، أو كان بطلها الرئيسي.
لكنه في الوقت نفسه، ليس شريطا يعرض (أو يعالج) أزمة، وهو لا يمثل تلك المباراة المزعجة لليمينيين في «فهرنهايت 11 - 9 «وحزمة الرسائل التي كان يوزعها على السياسيين الذين يكرههم والتي انتزعت تصفيق أعدائهم المنبهرين بالمفاجأة الكبرى للإقناع اليساري المباغت الذي حصل عليه في أوروبا على وجه الخصوص.
ومايكل مور عرف بإطلاق رسائله الإعلامية قبل أفلامه، وقد يصاب بالضجر لو جلس في مكتبه يوما من دون أن يبشر الصحافة بخبر خام يفسح المجال لسخرية النقاش، وقد يكون مجديا في وقت يصارع فيه الرئيس باراك أوباما الكونغرس والشيوخ لانتزاع ثلاثة مليارات لتأمين 36 مليون أميركي صحيا، عثرت عليهم سجلات الرئيس الاستثنائي بلا حماية صحية.
والشريط ليس الجزء الثاني لـ«فهرنهايت 11 - 9» ، بل مجهر مواز لشريطه «Sicko» و«أنا وروجر» و«بولنغ»، بالأسلوب ذاته الذي تجد فيه الريبورتاج الصحافي والمقابلة والجدل والانفعال والشغل الأرشيفي المنهك.
سيزور الطفل ذو النظرتين، او الرأسين، معقل الرأسمالية في وول ستريت ليتعرف على مزاياها بحضور مرئي جدا للمنغمسين في الملذات، وأولئك الذين أصابهم الضرر في صناعة السيارات الأميركية، ليصبح الدور المركزي لـ «أنا وروجر» (عن روجر سميث الرئيس التنفيذي لجنرال موتورز)، كاقتطاف عمل متحرك حينما يزور الأب وابنه منطقة المصنع الساكنة.

الأرض المقنعة
ان أكثر ما يغيظ في السينما الوثائقية، تسوّل عواطف المشاهدين بانتقاء مشاهد من دون أخرى مع بعض الحلوى الموسيقية، وهي الوسيلة الدعائية التي تعتمد عادة في الحروب النفسية (ضد أو مع) التي تجر الفن الى أهدافها لتجعله رخيصا كالسياسة.
ولسوء الحظ، لم يقف مور على الأرض المقنعة عند عرضه «الحقائق السيئة» كما يراها، أو يفضلها، ولأن كاتب أي قصة بإمكانه ترويع القارئ وكسب مشاعره، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك سلاحه الرئيسي.
لا جديد في اعتصام العمال المطالبين بصرف مستحقاتهم المتأخرة أو إرسال المزيد من المجرمين إلى السجون، أو النداءات المتكررة للتخفيف من الضرائب، إلا أن مشكلة مايكل مور أنه يعرّف الرأسمالية بمناشيتات مناوئيها، فهل سيكون الشريط ناقصا لو حذفنا منه مناقشات الكاتب هيلمر الشبيه بقطعة زجاج مع حراس الأمن، أو ارتجال الحوار مع مدير الشركة التنفيذي كممثل للمؤسسة المالية الناجية مع الهلاك والمستمر في «مص دماء الشعب».

مهمة الفن
من يستطيع الجزم أن مهمة الفن توجيه النصائح والتوضيح والتعريف والاشتقاق والتنديد والشجب، وما الذي سيحصل لو يكون ذلك على حساب الوميض الذي يصيّر نور الفيلم.. حياة؟
مور لم يحترم هذا الأمر، فهو القائل «أرفض العيش في بلاد مثل هذه»، غير انه لا يتركها، وفي الوقت الذي يشاكس منتقديه اليمينيين، ليس لديه أجوبة لرفاقه اليساريين.
إنه يخفق فنيا وفلسفيا، وكانت حججه لتهشيم الرأسمالية ضعيفة مثل ماركس وأنجلز، فمن قال أن انتقاد الرأسمالية ينبغي أن يكون بالبحث في أخطاء المنظومة الأميركية (الأكثر شناعة في رأيه)!
وماذا عن عناصر السينما الأخرى التي أنتجت 117 دقيقة من الصور المهزوزة ( أدار التصوير دان ماريكانو وجايم روي)؟ والصوت لم يمر بفحص على الأرجح، لعله استعجل إصدار الشريط للمشاركة في مهرجاني فينيسيا وتورنتو.
أما النص، فيصلح لأن يكون عناوين بارزة للصحف، مقاطع لخطب سياسية، نصوصا للبلوغرز، برامج حوارية، نقاشا في جلسات تناول الشاي، ضجر ملايين العاطلين الذين يكسرونه ببعض النكات السياسية، وهكذا، فإن نيران الامتعاض إن صبت في الفن تحرقه، كإجراء عملية زرع القلب ووضعه في المكان الخاطئ، هذه باختصار ليست مهمة الفن.

في الأخلاقيات
إنك تريد أن تنزل أميركا إلى الحضيض، فتعرض ما فعله نيرون بروما كرمز مناوب دهنته الآداب قبل مور حتى صار قصاصات بعثرها التاريخ الأدبي في أعمال بلا رؤوس، لا يفيد معها الإنعاش، فما الفائدة من عرض الحرب الفيتنامية كلما أردنا شتم أميركا؟ وما القدر الأخلاقي الذي بحوزتنا، عندما نستخدم البشر كدعائم لأعمالنا الفنية (دون علمهم في كثير من الأعمال الوثائقية والروائية)؟
إن العالم كله وفي مقدمته المنظومة الاشتراكية وليست أميركا وحدها، مليء بانتهاكات أرباب العمل والفساد والتزوير. هناك شركات التأمين التي تمتصك حتى وأنت في الموت (نموذج مور تأمين الفلاح الميت)، ثمة الجريمة السائرة نحو التفاقم. إن الظلم لم يكن أبدا في التاريخ الإنساني نتاج الرأسمالية الأميركية المعاصرة، لكونه ممتد منذ الخليقة وعبر الكوكب.
فأي إيمان سيزعزع مايكل مور ولأي ّ سيصل نداؤه في التغيير الذي يبدو مستحقا مع اختيار أوباما كأول نتاج للائحة الثانية لحقوق الإنسان التي أصدرها روزفلت ( الذي أخرجه الشريط من القبر عدة مرات) مناشدا الضمير الجماعي الأميركي ومخططا لمستقبل أميركا بلا مراوغة.
إن الجياع الذين عرضهم مور، هم ضحايا الأنظمة الدكتاتورية الذين يبنون شرعيتهم من تعسف الاشتراكية وجفافها، وليس المواطن الأميركي الذي يولد ومعه صوته.
لقد فشل مور فنيا حينما اختار دور الواعظ بغطاء وثائقي تقليدي، ثم أعقب هذا الفشل بآخر فكري باستئجاره جحافل الشعارات التي كانت المنظومة المضادة تضخها بخرافها.
ساعتان يقدمهما الشريط مهمتهما الرئيسية تبليد العقول وإعادة أزمنة القطيع، فما أسهل الحكم بخيانة «الرأسمالية» لمبادئها وطمعها المفسد للمال ولأنها تجعل الفقير أفقر والغني أغنى (الاشتراكية أفضل في أنها تجعل الجميع فقراء) وأموال الضرائب لإنقاذ البنوك والشركات التي هوت بسبب إداراتها السيئة ومقامراتها التي تواطأت معها الحكومة، والرأسمالية تخالف تعليمات السيد المسيح.
هذه العناصر ليست سهلة فنيا وفكريا فحسب، بل رخيصة للغاية في حالة استخدامها كوسيلة لبناء عمل يصدم الجمهور. وقصة الحب التي أرادها مور كشافا لعيوب الرأسمالية لم يكن لها صوتها الخاص وذكاؤها الواسع، وكأن هذا المخرج المشوش القضايا، صحا فجأة وأدرك أنه الوحيد الذي اكتشف الظلم وأوقف المفرمة المبيدة للبشر.

28‏/10‏/2009

Genova


شارك هذا الفيلم البريطاني الذي تدور أحداثه في إيطاليا، في مهرجانين سينمائيين في سان سيباستيان وتورنتو. وعلى الرغم من فريقه الرصين بإدارة التصوير لمارسيل زوسكند وموسيقى ميليسا بارمنتر وإنتاج مارك ديغبي وتأثيرات بصرية لمارك كنبتون، فإنه خرج بدون جوائز.
في الفيلم نحصل على أسلوب أوروبي وصورة قوية يقدمها المخرج مايكل وينتربوتوم، حكاية الخسارة في الحزن، الذي شارك في كتابة السيناريو مع لورنس كوريت.


الدقائق الـ 93 صورت جميعها في الصيف، نتتبع من خلالها مسيرة المراهقة كيلي (ويلا هولاند) التي تحاول أن تخلق الحواجز مع أبيها، والطفلة ماري (بيرلا جاردن) المضطربة برؤى أمها الميتة حديثا، والأرمل الإنكليزي المستجد جو (كولن فايرث) الروائي وخريج هارفارد، والأب المتحمس لجلب طفلتيه (كيلي وماري) لحضور الحفل السنوي لجامعته بدعوة من زميلته بربارة (كاترين كينر). وستتضمن العلاقة العاطفية بين الأستاذ الزائر والطالبة الساخنة جدا والمستعدة لتقبل الغزل روزا التي تبدع في اختيار اللحظات التي تكون فيها جريئة.

المتاهة المضاعفة ربما ساعدت كاترين كينر - أو هكذا جرى تقليد هذا الطراز من المخطوطات السينمائية في أن تكون الأم البديلة لماري التي لا تتركها أمها الحقيقية بعيدة عن الهلوسة، لكن ما حصل أن دروس البيانو التي أعدت للطفلتين وترك كيلي لوحدها رغم أنها لم تتجاوز السابعة عشرة، جعل طموحاتها الجنسية تأخذ جرعتها من البيئة الأوروبية الجديدة ومتاهتها المليئة بالعجائب والأخطار خلال تجوالها المستمر في الشوارع المزدحمة والفوضوية. ومن الصعب الحكم على تميز ما في السيناريو في رصد هذا «السباق العاطفي»، خاصة بعد دخول كيلي العاصية التي تحاول أن تبقى دوما خارج هذه الدائرة، ورحلة الدراجة وطيف الأم الذي تحول إلى هاجس يومي وغفران البنت التي لعبت دورا ما في تحطم العائلة، والقمع العاطفي الذي بدأ بالسقوط الواضح في غضون ضياع ماري في هذه الدوامة.

وفي الوقت الذي كان هدف رحلتهم إلى إيطاليا، التغلب على ذكريات موت الأم، نجد كيلي تنحدر مع المراهقين السيئين في متاهة الشوارع وعبثها وتقود السيارة بتهور وتقترب من إدمان الهيرويين، وتسير في طريق أن تصبح مومسا رسمية رغم مطاردات صديقها المراهق، فيما أبوها جو يقلب أيامه بعيدا عن ابنتيه بعلاقة مع إحدى طالباته، رافضا زميلته بربارة التي كانت اليد الوحيدة التي يمكنها أن تلتقطه. وفي النتيجة تترك البنت الصغرى ماري ضحية إهمال قاس، بداية من الموت الذي غيّب أمها، ووصولا إلى أبيها وشقيقتها.
وهكذا، لم يكن انسحاب جو نحو نفسه نوعا من العزاء ولا تهكمه مما يحصل نوعا من الغضب، وماذا عن العطف تجاه المراهقين المجروحين ونظرات كيلي المدهشة إلى شقيقتها الموجوعة ماري وتفاعل جو مع موقف كهذا بأن يحاول التحدث مع ماري ليبدو ضعيفا مجددا، هذا الأرمل لم يجاهد كما ينبغي للتمسك بابنتيه.

قصص الأشباح
ولتكن مواضيع الشريط أقوى خلال التلميح، ولتنظم مزاجها المتحرك بمعالجة وينتربوتوم المدرجة بدقة القصة الاستطرادية الطليقة التي تجهد في إظهار ميول البنت الحزينة والانهزامية أيضا.
وبدون جهد نتذكر الفيلم الكلاسيكي «المملكة المتحدة» (1973) لجولي كرستي ودونالد سوثرلند عن زوجين عاشقين جدا تصيبهما فاجعة موت ابنهما، فيقرران زيارة فينيسيا لتبدأ «قصص الأشباح» معهما هناك.
المقارنة بين الفيلمين صحيحة وبدلا من الأب ماتت الأم، واستبدلت جنوا بفينيسيا، وقنوات الأشباح والتعلق بالحزن في أغلبها مأخوذة من تنويهات العبقري روسيلليني في «رحلة بحرية بارعة إلى إيطاليا»(1953) ووزنه الثقيل في استخدام التقنية الصلبة، والتحرر السريع من اللقطة كي لا تطابق المعقول، خصوصا في المشاهد المتوترة كاقتراب صورة ماريان بالتأثير الوراثي المثير برغبة الطفلة ماري المفجعة لإبقاء روح أمها حية.


الشطر الوثائقي
ستتدخل تأثيرات السينما الإيطالية في عرض جاذبية المدن وطرقها قديمة المعالم، ولكون مايكل وينتربوتوم أحد الدعاة الأوائل لأسلوب السينما الوثائقية (صور من قبل أفلام عن سيراييفو وكراتشي)، فهو يـُحسن تقنيته في هذا الجانب، بينما يترك لفريق الممثلين إنجاز الشطر الواقعي المطلوب منه، بينما يتولى مارسيل زوسكند تصوير اللقطات الآسرة من على ظهر دراجة بخارية، مفضلا استخدام الكاميرا المحمولة في معظم المشاهد، مستخدما الصور المقربة والضيقة لكسب الألفة.
الحكاية أبسط من الفكرة
ولكن لغاية وصولنا إلى هذا المنعطف، بدا الشخوص مفصولين عن الحكاية وسطحيين، حتى لم نتعرف جيدا على اللاعب الرئيسي الأستاذ جو، من كان وسيكون، الكثير من الأحداث التي شارك فيها روتينية. اطلاعه على رسوم ماري ومطاردة أمها لها لغاية صرخاتها الليلية، غير كافية لأن يتجسد حزن هذه العائلة، ان ما حصل لم يكن مقنعا كليا.
إن إرث مايكل وينتربوتوم جعله بالكاد يعرفنا بأناسه، وتقديم حكاية عائلية بسيطة، لا يوجد مسعى من أحد ليفاجئنا بعمق حزن الأرمل جو وطريقته في إدارة بناته، وسفرهم إلى إيطاليا بعد موت أمهم، لتعديل الأجواء وتغييرها، جعل القصة خالية من الفكرة: مواجهة الحزن والتغلب عليه أو السماح بالتعود عليه.
ومن الصعب التكهن إن كانت جنوا حقا هي المدينة الملائمة لأن نقتل فيها أحزاننا ونطرد فيها كوابيسنا، ولم نفهم الدافع الذي يجعل عائلة تترك بيتها في شيكاغو لتستعيد «الأمل» في إيطاليا!
وبدلا من «الأمل» لم يكسب الثلاثة المفجوعون (الأب وابنتاه) غير أرواحهم التائهة التي يطاردها شبح الأم الغائبة التي لا نعرف عنها غير وفاتها بحادثة سيارة، كما تعودنا في «أفلام الحزن» وذهولهم العاطفي والعلاقات التي أصبحت ملتوية بين جو وبناته، وكأن الذنب الرئيسي في كل ما يحصل أن الأم ماتت، يا له من لغز خارق!


سينما الحزن والموت
تصوير أناس مسلوبي الحياة ومنغمسين جدا في الحزن، يتطلب خدعا فنية مثمرة، لا ترك الكاميرا تتجول على بعد شاسع عنهم لترينا كتلا معمارية عن التاريخ أو مداخلة جو التعيسة عن تأثير اليورو على الثقافة الإيطالية، ومنها سنستمع بدون إذن درامي لإحدى سونيتات شكسبير وعبارات كاثوليكية تقدم كإعلانات دينية.
ثم هناك الرؤى واعتراض الأشباح كذريعة فنية وحيدة للتعامل مع الموت، وكأن مدى الموت والألم المطلق منحصرين في العوم والانغماس في الرؤى، كأن الحياة لا تستمر إلا بالتدفق نحو فهمنا (نحن الأحياء) لماهية الموت بدون الضلوع أو محاولة العثور على «المفتاح البسيط» لانحسار هذه المشاجرة غير المشذبة لفيلمنا القصير في الحياة، المشاجرة المحببة للحزن.


هذا يسمونه في الفن ضعف وتردد ومجانية ووهن كبير وجوهري، فالدنيا منذ وجودها كانت مصفاة للحزن وللأطفال الذين فقدوا أمهاتهم والأمهات اللواتي فقدن أطفالهن، لكن لتقديم ذلك في شريط سينمائي لابد أن يكون هناك فضاء استثنائي ومستمر ينير الجمهور ويبصره بما لا يتوقعه أو حتى يطيقه، سلسلة توهم التدفق المنطقي للأحداث وتقتل الوضوح لكي يتعافى العمل باختيار الزوايا الأشد ضيقا والمرور عبرها.
ينبغي عليك وأنت تقدم فيلما عن الموت والحزن، ألا تستغرق بالنوبات الهستيرية والخطابات المثيرة والأداء الذي يحبونه في الأوسكار، فالحزن العميق هو الحزن الهادئ، الذي لا يبحث عن أسباب وجوده، فأكثر الحزينين في الدنيا لا يعرفون أسباب حزنهم، لأن الحزن الحقيقي غير قابل للإدراك.
وهكذا، فإن حسن النوايا لا ينفع في الفن وبدوره لا يتعامل معها، ولا انتظار ردود الأفعال لأي مأساة لكي نبحث عن طرق لبناء حياة جديدة في مدينة ما، وعندها سندرك أن الأمر ليس بهذه البساطة وأن التعافي من الحزن قد يكون أصعب حتى من الحزن نفسه.

22‏/10‏/2009

Les Herbes folles


أحد السادة الكبار في السينما المعاصرة، وبعمر 87 عاما وتحديدا بعد نصف قرن من سقوط قنبلته السينمائية «هيروشيما حبيبتي»، يواصل الأستاذ آلان رينيه تجربته في صناعة الميلودراما المبهجة بعد «أكثر من حرية» – 2006، مقدما مخاوف العالم عبر أقدار أناس بالغين في منتهى السوداوية والأداء الرائع في «عشب بري» الذي عرض في مهرجان نيويورك السينمائي لهذا العام، بإبهار تقني لمدير السينماتوغرافيا إيريك غاوتير الذي سقى بخبرته عشب رينيه الوافر والناضج، المخرج الخبير ذي الرؤية المثيرة والأخطاء النادرة التي مررها لأليكس ريفال ولورنت هيربرت.

سيستند هؤلاء الأساتذة الى رواية الكاتب الفرنسي كريستيان غيلي L'incident (الحادث) الصادرة عام 1996، المنطلقة من حادثة العثور على محفظة في موقف عام، لينسج علاقة حب غير محتمل وغير متبادل، وكما القصة تبدأ، يسير الشريط بتصاعد وسيطرة على السرعة وينتمي شخوصه الى النغمة الخفيفة المظلمة وتتابع العشب الآخذ بالنمو بين سابين آزيما وجورجيس (أندريه دوسولييه) الذي سيفتن مالكة المحفظة بعد أن يفحصها جيدا ويتعرف على أن لصاحبتها رخصة في الطيران، رغم أنه متزوج امرأة رائعة سوزان (آن كوني) وطفلين ساحرين (سارة وفلاديمير) اللذين تجولت حولهما الكاميرا من خلال الطائرات الورقية التي ضربت خطوط فرحهما، كإيذان لصورة متناظرة ستلحقها بانتهاء الساعة الأولى من الشريط، عند مشهد الاستجواب الهستيري لرجل في منتصف العمر يضايق امرأة وحيدة.

معقل الألم
ورغم أن أندريه سيسلم المحفظة المليئة بالمال وبطاقات الائتمان إلى الشرطة حيث يقابل هناك الضابط ماثيو اماريك، فإنه سيستمر بتسجيل المكالمات مباشرة على جهاز التسجيل في شقة سابين الأنيقة جدا، في وقت ينمو فيه هيامه، حتى تُجبر على الاتصال بالشرطة لتشتكي من سلوكه.
بداية سيتصل أندريه لتشكره سابين على أمانته، غير انها لم تهتم باقتراحه في ضرب موعد معه، وبطبيعة الحال كان مسحورا بصورتها وأغضبته لامبالاتها، فيما أزعجها فضوله وعناده الذي بدا كأنه يبحث بيده عن معقل للألم.
وبطرقه الماكرة المعتادة، سيقلب رينيه القصة رأسا على عقب في أحداث غير قابلة للتوضيح، فأندريه بعيدا عن دوره البسيط العام، يلمح بماضٍ شرير لا يستطيع السيطرة على تصرفاته، فيما طبيبة الأسنان سابين مرسومة كامرأة مستقلة، لديها حافة لطيفة مختفية وراء الثقة بالنفس هي لا تعدو كونها حوافز لاستمالة التبريرات، لأنها ستبقى وحيدة وقلقة وعنيفة، وهي أيضا – بشكل ما - العشب الكئيب الذي لا يستطيع إنعاش قصة حب انطلقت ملتوية.


مرض الحب
العديد من المشاهدين، مرة أو آخر مرة، واجهوا «مرض الحب» أو الذي يدعوه عالم النفس دوروثي تينوف limerence الذي ينتاب الأناس الذين يحبون شخصا لا يكترث بهم ورغم ذلك يتجسد في كل رغباتهم وأفكارهم ويتكاثف في عواطفهم.. من يعرف، ربما الجاذبية الجنسية تلعب دورها أيضا في هذا النوع من الحب، وهم واثقون بأنهم لا يستطيعون الوصول إليه لغاية تحول هذا الرفض إلى مصدر للسعادة واليأس الأعظم.
ويمكن تخيل مهمة آلان رينيه في هذا العمر، لتكييف «مرض الحب» وتقديمه بأسلوب يعتز فيه بالبهجة.

نحو الحزن الماهر
لكن من الواضح أن رينيه لم يتخل عن رومانسيته الغريبة، ونهاياته الحتمية المسحوبة نحو الحزن الماهر، المعني بأقدار الأناس المنكوبين، وهو بذلك قوي وينتزع من ممثليه أداء رائعا هو أفضل ما يملكونه، وبالرغم من أن رينيه بدا أكثر مرحا في شيخوخته، فإنه فقد أيضا واحدة من أهم ميزاته: تحدي المشاهد على جميع المستويات ودفعه للعمل نحو اكتشاف أشياء لم تحدث في الفيلم، وبدون هذا الاكتشاف، لن يصل إلى شيء، فاتحا إمكانيات السينما للنمو في كل لحظة.
ستظل تبحث عن «العشب البري» وليس بالضرورة أن تتوج به، ولعلها الوصفة الاستثنائية من الصدف والرغبات التي يقترحها رينيه، في هذا العمر، كما كان في بداياته، ميالا الى التعبير الشخصي وتعقيد ألوانه وتركيزه على الأزرق، لكنه سيبتعد عن هذا اللون حينما يعرض نساءه الرئيسيات في الرواية (سابين وآن)، ليمنحهما سحره، وسحر رينيه هنا، ينحصر في أن بؤرة ما نرى ويرى وما يحصل، ليس سوى تأمل.


تأكيد للحياة ومجدها
هكذا يصور الموهوب اللامع الدنيا عبر محفظة مفقودة، العواطف المحظورة والإحباط والهوس المتبادل بين أولئك المحبين المبهمين، بلا تكلف كالغرام في «هيروشيما حبيبتي» الذي لا تستطيع الحسم من أي الجهات تنظر إليه، هو ذا الخفيف، الرومانسي الحلو الذي يدعنا نكون في حالته، نجد أنفسنا فيها، نحمل الأمنيات اللعوبة، فيما نصادفه من غير الواقعي، أو الكلي في الحقيقة، وهيهات أن ما نحسه وأحيانا نراه، هو الذي حدث فعلا، أليس هذا التشويش المستفز للمشاهد مقتصرا على الأساتذة الكبار فحسب؟
إنه شريط بلا مفاجآت سعيدة، لكنه تأكيد للحياة ومجدها، نقائضها ولا عقلانيتها، ليتابع رينيه رفضنا وترددنا واندفاعنا بحكمة الفنان الذي يحب أشخاصه ويفرح لندوبهم.


لماذا العشب البرّي؟
الحب الفاشل من بدايته، كتلك البذور التي تستفيد إلى أبعد الحدود من الشقوق وتتسلل عبر بلاطات الأرصفة وحفر الشوارع أو التي تنمو من بين حجارة متكسرة في الجدار، هي الأعشاب التي تظهر في أكثر الأماكن غير المتوقعة ولو عبر خرسانة، مزمنة، لكن من يحسم كونها ضارة دائما!
هذه فلسفة الفيلم الفرنسي غير العادي بعيدا عن الأزمات الوجودية في تراث صناعة السينما الفرنسية التي أكدتها الموجة الجديدة للحركة الرائدة لجان لوك غوردار وفرانسوا تروفو والحشد البوهيمي الذي رافقهما المتضمن أغنيس فاردا وآلان رينيه الذي لم يتوقف أبدا أن يكون تلميذا لأندريه بريتون، دوّخ الموجة الجديدة بأنماطه التجريبية وغرابته واستعاراته ومعرفته في ابتكار خدع الأشكال الفنية التقليدية، ليثبت في «العشب البري» أن الموجة الفرنسية الجديدة لم تكبر في السن وما زالت مستمرة، وإن هربت من السريالية بحثا عن أرض أخرى، بتجسيد «العشب البرّي» كنسخة من قلب محطم باحث عن رفيق الروح.


آلان رينيه

المولود عام 1922، بدأ حياته بإخراج أفلام قصيرة عن فان كوخ وغوغان و«التماثيل أيضا تموت» و«ليل وضباب»، ثم سرعان ما قفز إلى العالم بشريطه الفذ «هيروشيما حبيبتي» – 1959 وبعده توالت الأفلام المتماسكة: «العام الماضي في مارينباد» – 1960، «مورييل» – 1963، «انتهت الحرب» – 1965، «أحبك.. أحبك» – 1967، «ستافيسكي» – 1973، «بروفيدانس» 1977، «عمي الذي في أميركا» – 1980، «ميلو» – 1986، «أريد العودة إلى البيت» – 1989، «دخن أو لا تدخن» – 1993، «نفس الأغنية القديمة» – 1997.

My Sister's Keeper

ينجح مخرج فيلم «نوت بوك» مجددا مع الأخوة وارنر، ولكن هذه المرة مع كاميرون دياز بالرغم من البكاء الوافر الذي سيغفره المشاهدون، لكونه يطرح مشكلة أخلاقية تنحصر في محاولة فتاة في السيطرة على جسدها وعدم المضي قدما لمنح الوهن للوكيميا شقيقتها الأكبر.
قصة صبورة تتمحور حول اللحظات الحاسمة لأختين: كايت (صوفيا فاسيلفا) المراهقة التي شخصوا إصابتها باللوكيميا في عمر مبكر وقضت سنواتها الأولى بالرواح والمجيء والعيش في المستشفيات وآنا فيزجيرالد (أبيجيل بريلسن) بعمر 11 سنة تجد نفسها في مباراة وراثية بإعلانها «الانعتاق الطبي» لغرض التبرع بكلية يمكن أن تنقذ حياة شقيقتها كايت.
والدهما براين (جيسن باتريك) يستقبل التطورات أفضل من الأم سارة (كاميرون دياز) التي أهدرت رفاهية كايت بالعنف والعجرفة وفي أغلب الأحيان إهمال زوجها.
المخرج نيك غاسافيتس ومشاركه في السيناريو جيرمي ليفين سيحتفظان بتقنية رواية الحكاية بتقنية الاسترجاع من وجهات نظر متعددة وهذا ما يمنح المشاهد فرصة التعرف على اعترافات الجميع.
وعلى عكس «نوت بوك»، فان غاستافيتس سيجد نفسه أمام انضباط ميلودرامي مختلف فيه الكثير من جوانب الأخلاق الطبية ويضطر إلى نقل الحوار في قاعات المحاكم وينبغي عليه أيضا التبصر في الذنوب العائلية وخليطها غير المستقر.

إلا أنه نجح في الارتجاع المحزن لحالة كايت من خلال حلم زميلها توماس ديكر واستعارته الصورة الجميلة من الماضي، وهو ذلك الإحساس المحسوب على المراوغة المثيرة لضعف كايت وإشعاع دموعها الملائكية، حينما تخاطب الموت بأسلوب مفتوح وصادق ولا يطاق، وحتما ان الكثير ممن سيشاهد هذه اللقطات سيبذل جهدا كبيرا في البكاء، دون التمرغ بالعاطفية أو التلاعب بمشاعر الجمهور، لكون الفيلم يحتفظ بشروطه للقبول لا الإسراف، حاملا المشاهد إلى المزاج التأملي، لا الشعور المتلهف لرفع الإيرادات.
ان غاستافيس وليفين نجحا في صنع مناجاة داخلية منضبطة وقصة شاشة آسرة في جوهرها، بالإضافة إلى الأداء القوي والعناصر المتماسكة الأخرى في الشريط.