22‏/10‏/2009

Les Herbes folles


أحد السادة الكبار في السينما المعاصرة، وبعمر 87 عاما وتحديدا بعد نصف قرن من سقوط قنبلته السينمائية «هيروشيما حبيبتي»، يواصل الأستاذ آلان رينيه تجربته في صناعة الميلودراما المبهجة بعد «أكثر من حرية» – 2006، مقدما مخاوف العالم عبر أقدار أناس بالغين في منتهى السوداوية والأداء الرائع في «عشب بري» الذي عرض في مهرجان نيويورك السينمائي لهذا العام، بإبهار تقني لمدير السينماتوغرافيا إيريك غاوتير الذي سقى بخبرته عشب رينيه الوافر والناضج، المخرج الخبير ذي الرؤية المثيرة والأخطاء النادرة التي مررها لأليكس ريفال ولورنت هيربرت.

سيستند هؤلاء الأساتذة الى رواية الكاتب الفرنسي كريستيان غيلي L'incident (الحادث) الصادرة عام 1996، المنطلقة من حادثة العثور على محفظة في موقف عام، لينسج علاقة حب غير محتمل وغير متبادل، وكما القصة تبدأ، يسير الشريط بتصاعد وسيطرة على السرعة وينتمي شخوصه الى النغمة الخفيفة المظلمة وتتابع العشب الآخذ بالنمو بين سابين آزيما وجورجيس (أندريه دوسولييه) الذي سيفتن مالكة المحفظة بعد أن يفحصها جيدا ويتعرف على أن لصاحبتها رخصة في الطيران، رغم أنه متزوج امرأة رائعة سوزان (آن كوني) وطفلين ساحرين (سارة وفلاديمير) اللذين تجولت حولهما الكاميرا من خلال الطائرات الورقية التي ضربت خطوط فرحهما، كإيذان لصورة متناظرة ستلحقها بانتهاء الساعة الأولى من الشريط، عند مشهد الاستجواب الهستيري لرجل في منتصف العمر يضايق امرأة وحيدة.

معقل الألم
ورغم أن أندريه سيسلم المحفظة المليئة بالمال وبطاقات الائتمان إلى الشرطة حيث يقابل هناك الضابط ماثيو اماريك، فإنه سيستمر بتسجيل المكالمات مباشرة على جهاز التسجيل في شقة سابين الأنيقة جدا، في وقت ينمو فيه هيامه، حتى تُجبر على الاتصال بالشرطة لتشتكي من سلوكه.
بداية سيتصل أندريه لتشكره سابين على أمانته، غير انها لم تهتم باقتراحه في ضرب موعد معه، وبطبيعة الحال كان مسحورا بصورتها وأغضبته لامبالاتها، فيما أزعجها فضوله وعناده الذي بدا كأنه يبحث بيده عن معقل للألم.
وبطرقه الماكرة المعتادة، سيقلب رينيه القصة رأسا على عقب في أحداث غير قابلة للتوضيح، فأندريه بعيدا عن دوره البسيط العام، يلمح بماضٍ شرير لا يستطيع السيطرة على تصرفاته، فيما طبيبة الأسنان سابين مرسومة كامرأة مستقلة، لديها حافة لطيفة مختفية وراء الثقة بالنفس هي لا تعدو كونها حوافز لاستمالة التبريرات، لأنها ستبقى وحيدة وقلقة وعنيفة، وهي أيضا – بشكل ما - العشب الكئيب الذي لا يستطيع إنعاش قصة حب انطلقت ملتوية.


مرض الحب
العديد من المشاهدين، مرة أو آخر مرة، واجهوا «مرض الحب» أو الذي يدعوه عالم النفس دوروثي تينوف limerence الذي ينتاب الأناس الذين يحبون شخصا لا يكترث بهم ورغم ذلك يتجسد في كل رغباتهم وأفكارهم ويتكاثف في عواطفهم.. من يعرف، ربما الجاذبية الجنسية تلعب دورها أيضا في هذا النوع من الحب، وهم واثقون بأنهم لا يستطيعون الوصول إليه لغاية تحول هذا الرفض إلى مصدر للسعادة واليأس الأعظم.
ويمكن تخيل مهمة آلان رينيه في هذا العمر، لتكييف «مرض الحب» وتقديمه بأسلوب يعتز فيه بالبهجة.

نحو الحزن الماهر
لكن من الواضح أن رينيه لم يتخل عن رومانسيته الغريبة، ونهاياته الحتمية المسحوبة نحو الحزن الماهر، المعني بأقدار الأناس المنكوبين، وهو بذلك قوي وينتزع من ممثليه أداء رائعا هو أفضل ما يملكونه، وبالرغم من أن رينيه بدا أكثر مرحا في شيخوخته، فإنه فقد أيضا واحدة من أهم ميزاته: تحدي المشاهد على جميع المستويات ودفعه للعمل نحو اكتشاف أشياء لم تحدث في الفيلم، وبدون هذا الاكتشاف، لن يصل إلى شيء، فاتحا إمكانيات السينما للنمو في كل لحظة.
ستظل تبحث عن «العشب البري» وليس بالضرورة أن تتوج به، ولعلها الوصفة الاستثنائية من الصدف والرغبات التي يقترحها رينيه، في هذا العمر، كما كان في بداياته، ميالا الى التعبير الشخصي وتعقيد ألوانه وتركيزه على الأزرق، لكنه سيبتعد عن هذا اللون حينما يعرض نساءه الرئيسيات في الرواية (سابين وآن)، ليمنحهما سحره، وسحر رينيه هنا، ينحصر في أن بؤرة ما نرى ويرى وما يحصل، ليس سوى تأمل.


تأكيد للحياة ومجدها
هكذا يصور الموهوب اللامع الدنيا عبر محفظة مفقودة، العواطف المحظورة والإحباط والهوس المتبادل بين أولئك المحبين المبهمين، بلا تكلف كالغرام في «هيروشيما حبيبتي» الذي لا تستطيع الحسم من أي الجهات تنظر إليه، هو ذا الخفيف، الرومانسي الحلو الذي يدعنا نكون في حالته، نجد أنفسنا فيها، نحمل الأمنيات اللعوبة، فيما نصادفه من غير الواقعي، أو الكلي في الحقيقة، وهيهات أن ما نحسه وأحيانا نراه، هو الذي حدث فعلا، أليس هذا التشويش المستفز للمشاهد مقتصرا على الأساتذة الكبار فحسب؟
إنه شريط بلا مفاجآت سعيدة، لكنه تأكيد للحياة ومجدها، نقائضها ولا عقلانيتها، ليتابع رينيه رفضنا وترددنا واندفاعنا بحكمة الفنان الذي يحب أشخاصه ويفرح لندوبهم.


لماذا العشب البرّي؟
الحب الفاشل من بدايته، كتلك البذور التي تستفيد إلى أبعد الحدود من الشقوق وتتسلل عبر بلاطات الأرصفة وحفر الشوارع أو التي تنمو من بين حجارة متكسرة في الجدار، هي الأعشاب التي تظهر في أكثر الأماكن غير المتوقعة ولو عبر خرسانة، مزمنة، لكن من يحسم كونها ضارة دائما!
هذه فلسفة الفيلم الفرنسي غير العادي بعيدا عن الأزمات الوجودية في تراث صناعة السينما الفرنسية التي أكدتها الموجة الجديدة للحركة الرائدة لجان لوك غوردار وفرانسوا تروفو والحشد البوهيمي الذي رافقهما المتضمن أغنيس فاردا وآلان رينيه الذي لم يتوقف أبدا أن يكون تلميذا لأندريه بريتون، دوّخ الموجة الجديدة بأنماطه التجريبية وغرابته واستعاراته ومعرفته في ابتكار خدع الأشكال الفنية التقليدية، ليثبت في «العشب البري» أن الموجة الفرنسية الجديدة لم تكبر في السن وما زالت مستمرة، وإن هربت من السريالية بحثا عن أرض أخرى، بتجسيد «العشب البرّي» كنسخة من قلب محطم باحث عن رفيق الروح.


آلان رينيه

المولود عام 1922، بدأ حياته بإخراج أفلام قصيرة عن فان كوخ وغوغان و«التماثيل أيضا تموت» و«ليل وضباب»، ثم سرعان ما قفز إلى العالم بشريطه الفذ «هيروشيما حبيبتي» – 1959 وبعده توالت الأفلام المتماسكة: «العام الماضي في مارينباد» – 1960، «مورييل» – 1963، «انتهت الحرب» – 1965، «أحبك.. أحبك» – 1967، «ستافيسكي» – 1973، «بروفيدانس» 1977، «عمي الذي في أميركا» – 1980، «ميلو» – 1986، «أريد العودة إلى البيت» – 1989، «دخن أو لا تدخن» – 1993، «نفس الأغنية القديمة» – 1997.

ليست هناك تعليقات: