28‏/10‏/2009

Genova


شارك هذا الفيلم البريطاني الذي تدور أحداثه في إيطاليا، في مهرجانين سينمائيين في سان سيباستيان وتورنتو. وعلى الرغم من فريقه الرصين بإدارة التصوير لمارسيل زوسكند وموسيقى ميليسا بارمنتر وإنتاج مارك ديغبي وتأثيرات بصرية لمارك كنبتون، فإنه خرج بدون جوائز.
في الفيلم نحصل على أسلوب أوروبي وصورة قوية يقدمها المخرج مايكل وينتربوتوم، حكاية الخسارة في الحزن، الذي شارك في كتابة السيناريو مع لورنس كوريت.


الدقائق الـ 93 صورت جميعها في الصيف، نتتبع من خلالها مسيرة المراهقة كيلي (ويلا هولاند) التي تحاول أن تخلق الحواجز مع أبيها، والطفلة ماري (بيرلا جاردن) المضطربة برؤى أمها الميتة حديثا، والأرمل الإنكليزي المستجد جو (كولن فايرث) الروائي وخريج هارفارد، والأب المتحمس لجلب طفلتيه (كيلي وماري) لحضور الحفل السنوي لجامعته بدعوة من زميلته بربارة (كاترين كينر). وستتضمن العلاقة العاطفية بين الأستاذ الزائر والطالبة الساخنة جدا والمستعدة لتقبل الغزل روزا التي تبدع في اختيار اللحظات التي تكون فيها جريئة.

المتاهة المضاعفة ربما ساعدت كاترين كينر - أو هكذا جرى تقليد هذا الطراز من المخطوطات السينمائية في أن تكون الأم البديلة لماري التي لا تتركها أمها الحقيقية بعيدة عن الهلوسة، لكن ما حصل أن دروس البيانو التي أعدت للطفلتين وترك كيلي لوحدها رغم أنها لم تتجاوز السابعة عشرة، جعل طموحاتها الجنسية تأخذ جرعتها من البيئة الأوروبية الجديدة ومتاهتها المليئة بالعجائب والأخطار خلال تجوالها المستمر في الشوارع المزدحمة والفوضوية. ومن الصعب الحكم على تميز ما في السيناريو في رصد هذا «السباق العاطفي»، خاصة بعد دخول كيلي العاصية التي تحاول أن تبقى دوما خارج هذه الدائرة، ورحلة الدراجة وطيف الأم الذي تحول إلى هاجس يومي وغفران البنت التي لعبت دورا ما في تحطم العائلة، والقمع العاطفي الذي بدأ بالسقوط الواضح في غضون ضياع ماري في هذه الدوامة.

وفي الوقت الذي كان هدف رحلتهم إلى إيطاليا، التغلب على ذكريات موت الأم، نجد كيلي تنحدر مع المراهقين السيئين في متاهة الشوارع وعبثها وتقود السيارة بتهور وتقترب من إدمان الهيرويين، وتسير في طريق أن تصبح مومسا رسمية رغم مطاردات صديقها المراهق، فيما أبوها جو يقلب أيامه بعيدا عن ابنتيه بعلاقة مع إحدى طالباته، رافضا زميلته بربارة التي كانت اليد الوحيدة التي يمكنها أن تلتقطه. وفي النتيجة تترك البنت الصغرى ماري ضحية إهمال قاس، بداية من الموت الذي غيّب أمها، ووصولا إلى أبيها وشقيقتها.
وهكذا، لم يكن انسحاب جو نحو نفسه نوعا من العزاء ولا تهكمه مما يحصل نوعا من الغضب، وماذا عن العطف تجاه المراهقين المجروحين ونظرات كيلي المدهشة إلى شقيقتها الموجوعة ماري وتفاعل جو مع موقف كهذا بأن يحاول التحدث مع ماري ليبدو ضعيفا مجددا، هذا الأرمل لم يجاهد كما ينبغي للتمسك بابنتيه.

قصص الأشباح
ولتكن مواضيع الشريط أقوى خلال التلميح، ولتنظم مزاجها المتحرك بمعالجة وينتربوتوم المدرجة بدقة القصة الاستطرادية الطليقة التي تجهد في إظهار ميول البنت الحزينة والانهزامية أيضا.
وبدون جهد نتذكر الفيلم الكلاسيكي «المملكة المتحدة» (1973) لجولي كرستي ودونالد سوثرلند عن زوجين عاشقين جدا تصيبهما فاجعة موت ابنهما، فيقرران زيارة فينيسيا لتبدأ «قصص الأشباح» معهما هناك.
المقارنة بين الفيلمين صحيحة وبدلا من الأب ماتت الأم، واستبدلت جنوا بفينيسيا، وقنوات الأشباح والتعلق بالحزن في أغلبها مأخوذة من تنويهات العبقري روسيلليني في «رحلة بحرية بارعة إلى إيطاليا»(1953) ووزنه الثقيل في استخدام التقنية الصلبة، والتحرر السريع من اللقطة كي لا تطابق المعقول، خصوصا في المشاهد المتوترة كاقتراب صورة ماريان بالتأثير الوراثي المثير برغبة الطفلة ماري المفجعة لإبقاء روح أمها حية.


الشطر الوثائقي
ستتدخل تأثيرات السينما الإيطالية في عرض جاذبية المدن وطرقها قديمة المعالم، ولكون مايكل وينتربوتوم أحد الدعاة الأوائل لأسلوب السينما الوثائقية (صور من قبل أفلام عن سيراييفو وكراتشي)، فهو يـُحسن تقنيته في هذا الجانب، بينما يترك لفريق الممثلين إنجاز الشطر الواقعي المطلوب منه، بينما يتولى مارسيل زوسكند تصوير اللقطات الآسرة من على ظهر دراجة بخارية، مفضلا استخدام الكاميرا المحمولة في معظم المشاهد، مستخدما الصور المقربة والضيقة لكسب الألفة.
الحكاية أبسط من الفكرة
ولكن لغاية وصولنا إلى هذا المنعطف، بدا الشخوص مفصولين عن الحكاية وسطحيين، حتى لم نتعرف جيدا على اللاعب الرئيسي الأستاذ جو، من كان وسيكون، الكثير من الأحداث التي شارك فيها روتينية. اطلاعه على رسوم ماري ومطاردة أمها لها لغاية صرخاتها الليلية، غير كافية لأن يتجسد حزن هذه العائلة، ان ما حصل لم يكن مقنعا كليا.
إن إرث مايكل وينتربوتوم جعله بالكاد يعرفنا بأناسه، وتقديم حكاية عائلية بسيطة، لا يوجد مسعى من أحد ليفاجئنا بعمق حزن الأرمل جو وطريقته في إدارة بناته، وسفرهم إلى إيطاليا بعد موت أمهم، لتعديل الأجواء وتغييرها، جعل القصة خالية من الفكرة: مواجهة الحزن والتغلب عليه أو السماح بالتعود عليه.
ومن الصعب التكهن إن كانت جنوا حقا هي المدينة الملائمة لأن نقتل فيها أحزاننا ونطرد فيها كوابيسنا، ولم نفهم الدافع الذي يجعل عائلة تترك بيتها في شيكاغو لتستعيد «الأمل» في إيطاليا!
وبدلا من «الأمل» لم يكسب الثلاثة المفجوعون (الأب وابنتاه) غير أرواحهم التائهة التي يطاردها شبح الأم الغائبة التي لا نعرف عنها غير وفاتها بحادثة سيارة، كما تعودنا في «أفلام الحزن» وذهولهم العاطفي والعلاقات التي أصبحت ملتوية بين جو وبناته، وكأن الذنب الرئيسي في كل ما يحصل أن الأم ماتت، يا له من لغز خارق!


سينما الحزن والموت
تصوير أناس مسلوبي الحياة ومنغمسين جدا في الحزن، يتطلب خدعا فنية مثمرة، لا ترك الكاميرا تتجول على بعد شاسع عنهم لترينا كتلا معمارية عن التاريخ أو مداخلة جو التعيسة عن تأثير اليورو على الثقافة الإيطالية، ومنها سنستمع بدون إذن درامي لإحدى سونيتات شكسبير وعبارات كاثوليكية تقدم كإعلانات دينية.
ثم هناك الرؤى واعتراض الأشباح كذريعة فنية وحيدة للتعامل مع الموت، وكأن مدى الموت والألم المطلق منحصرين في العوم والانغماس في الرؤى، كأن الحياة لا تستمر إلا بالتدفق نحو فهمنا (نحن الأحياء) لماهية الموت بدون الضلوع أو محاولة العثور على «المفتاح البسيط» لانحسار هذه المشاجرة غير المشذبة لفيلمنا القصير في الحياة، المشاجرة المحببة للحزن.


هذا يسمونه في الفن ضعف وتردد ومجانية ووهن كبير وجوهري، فالدنيا منذ وجودها كانت مصفاة للحزن وللأطفال الذين فقدوا أمهاتهم والأمهات اللواتي فقدن أطفالهن، لكن لتقديم ذلك في شريط سينمائي لابد أن يكون هناك فضاء استثنائي ومستمر ينير الجمهور ويبصره بما لا يتوقعه أو حتى يطيقه، سلسلة توهم التدفق المنطقي للأحداث وتقتل الوضوح لكي يتعافى العمل باختيار الزوايا الأشد ضيقا والمرور عبرها.
ينبغي عليك وأنت تقدم فيلما عن الموت والحزن، ألا تستغرق بالنوبات الهستيرية والخطابات المثيرة والأداء الذي يحبونه في الأوسكار، فالحزن العميق هو الحزن الهادئ، الذي لا يبحث عن أسباب وجوده، فأكثر الحزينين في الدنيا لا يعرفون أسباب حزنهم، لأن الحزن الحقيقي غير قابل للإدراك.
وهكذا، فإن حسن النوايا لا ينفع في الفن وبدوره لا يتعامل معها، ولا انتظار ردود الأفعال لأي مأساة لكي نبحث عن طرق لبناء حياة جديدة في مدينة ما، وعندها سندرك أن الأمر ليس بهذه البساطة وأن التعافي من الحزن قد يكون أصعب حتى من الحزن نفسه.

ليست هناك تعليقات: