أي نجاح نتحدث عنه لاحقا، سيحسب بلا شك للمخرج الشاب عمر نعيم وداهية التمثيل روبن وليامز، اللذين قدما واحدا من أهم وأروع أفلام الخيال العلمي الممعنة في الإنسانية.
بداية، لا نعلم سبب تأخير عرض الشريط على الشاشات المحلية، لأنه أنتج قبل خمس سنوات، لكن هذا لا يعنينا بأكثر من الإشارة إلى تاريخ تصويره والانتهاء منه، قدر تعلق الأمر بالمسائل الفنية الخاصة بتطور السينما خلال هذه الأعوام.
عموما، يستطيع روبن وليامز اختراق أجيال قادمة في أدائه الذي يجسد فيه الشخصية السرية والمخفية، ويستولي على أي دور يمنح له منذ «الاستحواذ على اليوم» 1986 و «الوكيل السري» 1996و«صورة ساعة واحدة» 2002 و«أرق» 2002، هو وليامز الشاذ الذي اقترب من التجاوز على التمثيل نفسه.
تحرير الذكريات
الحكاية لا تنحصر بالرقائق التي تزرع في الدماغ وتخلد الذكريات، بقدر ما كانت مهمة لوليامز للتحرر من هذه الذكريات، الذنوب والحسنات، الوثبات والاندحارات، للعالم والمتعلم، للجاني والمجني عليه، الزوغان منها، محاكمتها والانتصار عليها، وفي كل الأحوال خضّها لتدوم كما كانت.
يعيش وليامز وحده منفقا جلّ وقته في غرفة مكائنه الجارحة، في حين صديقته (ميرا سورفينو) يمزقها اليأس ما أن تخاطبه: «أنت ساحر.. كاهن .. أو محنط» (الاثنان حصلا على الأوسكار).
وهو محنط حقا في مومياء ذكرياته، محاولا إزالة آثار التعفن منها، نحن لا نعرف كم يتطلب ذلك من أداء فظيع لشخص يتلصص على ذكرياته!وهكذا، فما الغرابة إن بدا حزينا ومرهقا، بل محطما، كالملاك الذي جسده في «أجنحة الرغبة» على المسرح، كيف عليه تخطي الضعف والشر في حياة لا يشعر أنها ملكه، ان وجوده منحصر كونه حامل ذكريات حياة أخرى.
إن أي حبكة تسيّر الفيلم لا تكون مهمة، مقارنة بفكرته الكبرى، فلن يشغلنا الغني المسيء للأطفال والفاسد تشارلز بانيستر الذي خلف وراءه أرملة ثرية (ستيفاني رومانوف) تستأجر ألن هاكمان بأموالها ليعيد لها ذكريات زوجها التي سجلها منذ ولادته على شريحة خاصة، كإشارة لانسحاق البشر في أقصى درجات الاستغلال، وهذه المرة ليس الجسد، بل عبودية الأفكار، فلا يوجد أقسى من أن يشتري أحد ما دماغك.
تذكر لي
يلعب جون فليتشر (جيم كافزيل) دور زعيم مجموعة تعارض الـ Rememories أو أولئك الذين يستأجرون أحدا ما «ليتذكر لهم»، مستندين على التعاليم الكاثوليكية في أن الله هو الذي يراقبنا دائما وليست الملفات الرقمية.
والشريط الذي استقبل في خانة «الخيال العلمي»، هو مأساة معالجة بطريقة حسنة للغاية ودراما مرضية، بفضل وليامز الذي حقق نجاحا استثنائيا في تقديم شخصيتين في لحظة واحدة، والتحول من واحدة إلى أخرى بطريقة لا تصدق في تلك الاختلاجات التي يحدثها داخل فمه وخارجه، واهتزازات ذقنه، وقدح عينيه. وقد أشعرنا أن حتى شعره يمثل. فيما تمكن عمر نعيم من إعادة الدراما الحيوية والكوميديا الحزينة إلى السينما الأميركية التي تميزت بالجفاف وشغفها بالإثارة، فلا وجود لبهرجة. وتاريخ نعيم السابق في إنتاج الأفلام الوثائقية جعله يعتمد على تقنيات بسيطة تكفي لتصوير مسرحية. وخلافا لأفلام الخيال العلمي، ليس هناك روبوتات ولا مركبات فضائية ولا طائرات، ففي الشريط رمزية عالية وأفكار ثقيلة.
حوافز درامية
استرجاع صحيح لألن الطفل المتورط في موت عرضي لولد آخر، ما يتسبب في ملاحقته طوال السنوات الأربعين اللاحقة من حياته مطاردا بذنبه القديم وحاملا الذنوب الكبيرة لميت جديد.
إنه لأمر ممتع، أن نجد سينما باطنية يقدمها روبن وليامز بثبات كمعلم للفن الشاق، عائم في كآبته السعيدة ما بين المحيطين، أولئك المنكمشون السابقون، القتلة، المجانين، المجرمون الكتومون، حملة الأحلام التي لن تجيء أبدا والأسرار القذرة والذنوب التي لا تغتفر. هو المهووس الدائم للسينما المعاصرة بشخصيته الحقيقية اللطيفة، الغريبة، الأشد غرابة حتى من العبقري أنطوني هوبكنز.
لقد وجد وليامز أجواءه المثالية في قصة مثيرة نفسيا وسوداوية وفيها قليل من الرنين، مقنعة ومتفوقة الشعور بالأسى والأوهام، عديمة الرحمة.
المخرج عمر نعيم
إنه الفيلم الروائي الطويل الأول لعمر نعيم، وكل من شاهده لابد أن يحمل الشوق نفسه لمعرفة ماذا سيكون العمل التالي لهذا المنتج والمخرج الموهوب الذي فاجأ الجمهور بفكرته المثيرة. ولد في لبنان عام 1977 وهو ابن المبدعة الكبيرة نضال الأشقر رئيسة ومؤسسة «مسرح المدينة». قدم الكثير من الأفلام الوثائقية الطموحة وأنتج أغلبها، وعمل مع كبار السينمائيين في العالم مثل مارتن سكورزيسي وودي آلن وأوليفر ستون وغيرهم.
درس السينما في كلية ايمرسون في بوسطن وأخرج فيلمه القصير الأول «حكاية بيروت» عام 1999 كاطروحة تخرج. وفي غضون 28 دقيقة سلط الضوء فيها على مسرح بيروت الذي هشمته الحرب الأهلية، ونال عدة جوائز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق