07‏/01‏/2010

LOLA

ذهب المخرج والمنتج الفلبيني بيرلانتي ميندوزا الى مهرجان دبي السينمائي ليتسلم المهر الذهبي لأفضل فيلم آسيوي وأفريقي، وهو واثق من أن عجائزه سيرفعنه إلى المنصة مجددا، كما فعلن حينما ظفر بجائزة أفضل مخرج في مهرجان «كان» السينمائي، وتلك الضجة الباهرة التي أحدثها شريطه «لولا» (يعني الجدة بالفلبيني) في مهرجان فينيسيا، وجائزة أفضل مخرج في مهرجان كاتولونيا الدولي الرابع في إسبانيا، وكأنه اختتم العام بحصد الجوائز في كل المهرجانات التي شارك فيها، بقطعته السينمائية النادرة والمثيرة التي عرضت حكاية بسيطة، إلا أنها مثقلة بالعواطف والمعضلات الأخلاقية العميقة.
وميندوزا صنع حتى الآن تسعة أفلام منذ تخرجه من معهد الفنون الجميلة في جامعة سانتو توماس وعرف بقدرته التقنية العالية واتخاذه منحى المدرسة الواقعية الاجتماعية. الحقيقة المظلمة لدينا جدتان فقيرتان جدا وحفيدان صرعا بعضهما بعضا، ليبدأ قتال الجدتين (الممثلتين المسرحيتين المخضرمتين أنيتا ليندا وروستيكا كاربيو) اللتين كسبتا الإطراء في عروض الفيلم عبر العالم، بتجسيدهما المسنّين الذين يعيشون في تلك الأكواخ التي تغرق بعد أن تغرق.
اعتمد ميندوزا على مخطوطة سيناريو كتبتها بعناية ليندا كاسيميرو مع إجراء بعض التعديلات عليها من قبله، ليوجها الجمهور للجانب الكئيب والصادق والمظلم من الحقيقة، الفاقة والظلم والجريمة، الانتقام في أشد العوز للرحمة، اليأس في أقصى نبوغ الأمل، مشكلة الشيخوخة والتعامل مع الأحفاد، وبحسب تعبير ميندوزا: «أردت تصوير الجانب الآخر للحياة، وسأفعل ذلك في كل أعمالي».
Brillante Mendoza


بعيداً عن السائد
لذلك تعامل مع المواضيع الثقيلة، ويحشو أكثر من باعث لينحاز بعيدا عن السائد والمعتاد للجمهور الذي سيشاهد قنوات المياه الزاخرة بالأناس البسطاء الذين تغطيهم القمامة، هناك منذ مئات السنين يرزحون تحت كاهل الأكواخ، يغطي الذباب طعامهم والجرذان تقفز على جسدك وأنت نائم، وتبقى بخير ومتعودا للروائح واختلاط النفايات مع غذائك، حيث تهب الرياح الرطبة والباردة عبر صحائف القصدير والكارتونات والأقمشة المشمعة التي تغطي ما هو محسوب عليك بيت، يلتقط السياح الصور بلا دعوة منك، لكي يعرضوها على أصدقائهم متباهين أنهم كانوا هناك، حيث هؤلاء نزلاء الحياة، المستوطنون في الأرض، حقا؛ أنهم ليسوا سعداء، لكنهم يحترمون ابتساماتنا وسط البؤس، المثيرون للشفقة يذكروننا بوميض عيون من شاهد الكارثة، كوارثهم التي لا تعد؛ السياسية والطبيعية والتاريخية، والأهم كارثة الاختيار.
ماذا يعني أن تعيش أيامك ما بين فيضان وآخر، لنجد أن مترو مانيلا المكان الرئيسي الذي يؤوي الجدات، لولا الصغيرة.. لولا الأكبر.. لولا التي تكاد تنحسر تحت أسمالها، هذه الدفقات الرئيسية التي مجدت الشريط، البصريات المجردة للمكان المنسجم مع الناس المثيرين الذين يرغمون الفيلم على أن يأتي إليهم، لا أن يذهبوا إليه.
هو ذا ميندوزا الذي اثبت أنه فوق التحديات، باختياره الموضوعات الواقعية التي تلائم سوء الحظ، هذا الواقعي الخطير الذي حطم مشاهديه كل دقيقة ولديه إمكانية كسرهم ماسكاً رؤية السنين والريبة وأن يعيدك من جديد إلى الطريق الآمن كي لا تفوت لحظات شريطه الرائعة، تلك المشاهد المقتضبة، التي لا تعوضها أية كاميرا.
معادلة الواقعية
وكم يكون مدهشا للفن لو تقدم عملا وحججك فيه رصينة وصحيحة وثابتة، وماذا سيفعل المشاهد لو وجد نفسه منغمسا بسوء النية التي تمده بالغضب والكآبة، ولكن ماذا لو كان سوء النية هو الحياة؟! انها معادلة الواقعية التي يسميها البعض «القذرة» ــ لمجرد أنها حقيقية ــ ومن أجل أيّ ومتى وكيف؟! كي يسحبك الفن لنظامه التحتي، عالمه السفلي، الحاجة لكي نصنع أذنا للأرض وفما وعينين لكي تنطق، لكي يلمّ الأجزاء على بعضها وهو المراقب الحسن من بين كل الملاحظين للفرضيات والمنتظرين الطعون لحل المشكلة؟
ولعل ميندوزا، أحد أهم الملاحظين الأقوياء في السينما المعاصرة لموضوعة الشيخوخة وأكثرنا كفاءة في تصوير المسنين المسحوقين وتفاصيل كفاحهم..
في الشيخوخة تواجه: القتل.. السرقة.. السجن.... العوز.. عدم الاحترام، وروحيا: الإيمان، الشك، التردد والخوف والأمنيات المعطوبة، وبيئيا: الفيضانات.. الأمطار.. كل الحشرات مجتمعة بفضولها، وسياسيا: الإهمال والظلم والتعسف..
كل هذا يقول عنه ميندوزا عبر السينما، ان ما ترونه حقيقي يا بشر، ما أصوره يحدث كل لحظة ومنذ آلاف السنين، ومصير الجدات هو مصيركم. كما تفعله صوره المقربة عبر الكاميرا المحمولة لأنيتا ليندا وروستيكا كاربيو، كلوحات للحزن اللانهائي، انظروا لتلك الخطوط على وجوههن، تتبعوا مشقات الزمن عبرها وإن استطعتم دققوا في تعبير التعب المنحوت على ملامحهن.

سينما لا تنتهي
لنتوقف عند المشهد الذي تمشي فيه ليندا في ممر صغير مغمور بصياح حفيدها الكبير، صرخة تحولت إلى جثة، كسلب وقح لعاديات القدر، ولندع الكاميرا تعمل بالضوء نفسه في الموكب الجنائزي، فكيف تمكنت ليندا منحنا نفس الشعور في الممر تجاه الموت، وفي العودة منه بعد التشييع؟ مثل هذا الإنجاز الفني الفظيع لهذا المشهد، ما كان ليتحقق بلا عظمة الخبرة المسرحية التي تحملها أنيتا ليندا والمهارة التقنية الكافية لميندوزا، والغرابة الموفقة لموسيقى تيريزا باروزو، لاسيما في مشهد صيد الأسماك في الكوخ الغارق.
ألا تعطي هذه المشاهد الأسباب الكافية لأن تبقى مثل هذه الأفلام سنوات طويلة دون أن تنتهي، وإن اختلفت التقديرات عما يسمونه «أفلام المهرجانات» وتميزها بكسب «ألفة» الجمهور الأجنبي الميال للعواطف بغض النظر عما إذا كانت الموضوعات التي تعرض عليه، شخصية، ثقافية أو فردية.
وثمة من يعترض على بناة الأفلام الذين يحملون الحقائق في حقائبهم ليثيروا المزيد من النقاش حولها، لكن جدات ميندوزا وفقن في إنجاز الحقيقة، ووفق ذلك نعدها ضربة الفيلم في تقديمه: الوجه الآخر للمرونة الإنسانية. أناس صبورون أو أسوأ من ذلك، لكنهم لا يشكون، بالمعنى الفني؛ لا يحمّلون المشاهد الذنب، ويجبرونه وهو في وضع الاسترخاء على التصفيق.

التلميح الباهر
وقد تترك بعض المشاهد المتمددة شعورا بالملل، إلا أنها تمهيد لسلسلة من الصدمات القادمة، فلو نتمشى مع ليندا وحفيدها في شوارع مانيلا ونعبر الكنيسة نحو الجسر الفولاذي القديم، حيث تضيء هناك شمعة بالرغم من الريح القوية، ستشير لنا الى مصير الحفيد المأساوي، كما مقابلتها ابنتها في صالة التشييع وتلهف صاحبها في عرض التوابيت الغالية، سنعلم – دون أن يخبرنا السيناريو – بأنها تحتاج إلى المال لدفع نفقات الجنازة.
إذن، المشاهد الافتراضية تختفي خلف المعروضة، كما يلمح كل منها للسفر اللانهائي والتغييرات العرضية، فالحفيد المسجى في المشرحة، كشف ألما مكبوتا عند الجدة، وجسدته ليندا (تصوروا تمثيلا!): من طراز الألم المتعذر كبته عادة.
سيستمر ميندوزا بتعمد كاشفا حكايته بأناة عندما تصل الجدة إلى مدير عمل حفيدها لاستجداء المال لدفنه، ستخبرنا ملامحها أنه لم يمت بشكل طبيعي (لا شيء في السيناريو ولا حوار حول هذا الأمر)، ثمة شمعة تضيء ونظرة فيها عذاب مشوش في عيون ليندا.
إن كل هذا الإغراء الفني، لكي يخبرنا أن حفيدها قتل بينما يحاول إيقاف اللص ماتيو الذي اختطف موبايل حفيد البائعة على الرصيف روستيكا كاربيو. وستتحول الكاميرا من ليندا إلى كاربيو، باستمرار هطول الأمطار الغزيرة في الليل، كما لو كان الإيحاء وصل: الجدة الأولى تحاول تدبير قبر لحفيدها لكي لا تتعفن جثته، والثانية ستناضل من أجل تخليص حفيدها من عفونة السجن.
الثقل الفني
هؤلاء المنتهكون المهانون.. الجدتان، اللتان قضتا العمر كله في الكدّ، تصعقان في شيخوختهما بفاقة الموت وفاقة الحياة (أنت ميت فقير.. أنت حي مدقع)، لا ملاذ من الظلم، لا مناص لتنظيم اليأس بمشهد التقاط النقود المبعثرة على الشارع المتسخ في غضون مطاردة الشرطة لباعة الأرصفة، وفجأة تنقلنا الكاميرا للجدة الثانية التي تشحذ ثمن النعش.
هي السلسلة الدرامية الوثيقة الصلة والمحمّلة بثقل فني ثر وغير مزيّن بالحيل الروائية، ولأنك تريد تصوير أناس غير ملحوظين في الحياة، لم ينتبه إليهم أحد، بل لم يرهم حتى الزمن، ولأنك تريد صناعة فيلم، مشعله إنساني في عالم لا إنساني.
أما إصرار «لولا» للانتقال نحو المحكمة في بحثها العقيم عن الحل، ما هي إلا إشارة ساخرة لرمز الحضارة التي ينبغي أن تزود الإنسان – افتراضيا - بالعدالة.
علينا أن نفكر في منظور ميندوزا من هذا الجانب، عبر سخريته المؤلمة مثل استنتاجات تيرادور في شريط «مصيادة» – 2007 ومانورو في فيلم «المعلم» – 2006 حينما قدما أشخاصا مطيعين للقانون ومتحضرين، لكن العدالة تنبذهم وفق الشروط «الإنسانية» لعيوبها التي تدير بواسطتها هذا العالم غير القابل للتصديق.

عودة كاميرون ملبيا ثأره ومؤكدا أعجوبته


في سياق الخيال العلمي، يعود المخضرم جيمس كاميرون في أول عمل بعد «تيتانيك» موجها حلم محاربه زوي سالدانا طوال 166 دقيقة متضمنا عدة عقود من الخيال وأربع سنوات من الواقع.
ساهمت في الإنتاج برامج عديدة حاولت اكتشاف العالم المخفي حيث استندت إلى بعض كتب التاريخ كخبطة موفقة لإنعاش شباك التذاكر، لاسيما ان ميزانية الفيلم فاقت 230 مليون دولار، ذلك لإرضاء طموحات كاميرون ودفعه للعودة لأفلام الأساطير والخيال العلمي والذي أثبت بدوره، أنه قادر على قيادة دفة الإنتاج الكبير.
مجال حركة الحكاية واضح وبسيط، سنكون في سفينة فضائية عام 2154 بصحبة جندي المارينز المشلول جايك (سام ورذينجتن) سينزلق عبر الفضاء اللامع وفي ظروف انعدام الجاذبية على كوكب بعيد ومسكون. ولا بد من تسجيل فضل جيمس كاميرون في ابتكار ودفع هذا الطراز من الأفلام وهو واحد من أهم صناع سينما الخيال العلمي التي تهوى تقديم البطل المنقذ بلا مشاعر عميقة، كون الرحلات غير العادية التي يقوم بها، لا تفسح المجال لمثل هذه التفاصيل الدرامية.
كائنات وعوالم
ويبدو أن المخرج أشرف على تصميم أبطاله من رأسهم حتى أقدامهم، وأراد أن يكونوا كبقية الزوار البشر إلى معسكر باندورا، على أن يشبهوا «المواطنين» هناك، لنمسك بالحبكة الأولى والرئيسية للفيلم الذي يخصص الجزء الأول منه لرحلة جايك ومغامرته مع كائنات كاميرون الزرقاء والمألوفة بعيونها المميلة وآذانها المضطربة كالقطط والأشرطة المقوسة التي تخطط جلدهم الملون كالغسق.
ولجايك أفاتاره الذي يعلق فيه من خلال المحسسات التي تمنحه قدرة على الجري السريع والقفز وتحرير جسده من القيود، رغم أنه يتلقى الأوامر من العقيد ميليس كوارتيش كرمز للقوة العسكرية الأميركية.
التقنيات تشتغل
ويلاحظ أن كاميرون يفضل الصور المتحركة لتأمين أساسيات قصته لغاية إمساكه بالتفاصيل من خلال حوار سطحي لم يتدبره كاتب نثر موهوب، حتى عندما اجتمع جايك مع أنثاه التي تكررت في كل أفلام كاميرون تقريبا.
وهي أفكار المخرج نفسه منذ منتصف التسعينات، غير أن التقنيات وقتها لم تسعفه لتجسيدها، لم يستطع تحويل أفكاره إلى صور كما نجح في «أفاتار»، ولوقت قريب كان يعاني التقنيات الرقمية الجديدة لكي يحصل على أدواته الضرورية.
لا يهمنا إن كان ملك العالم يضع نصب عينيه خلق عالم آخر أو أي فكرة بليدة أخرى، فالذي يحرضنا في «أفاتار» جيمس كاميرون نفسه الذي حرض السينما منذ فترة طويلة لإدخالها في العوالم الغريبة والمشاهد المدهشة والمناظر الفريدة.
ومجددا، كتب كاميرون المخطوطة كاملة لـ«أفاتار» قبل 15 عاما، لكنه آثر الانتظار حتى تتطور تقنيات التأثيرات البصرية لكي تصنع عالمه المتخيل بثقة.
من هذه الزاوية ننظر إلى شريطه الجديد، وعلى هذا المستوى نحصي نقاط انتصاره، لافتين الانتباه إلى أن توظيفه للأبعاد الثلاثية لم يكن لضرورات فنية، بل لتحسين الرؤية، فبدونها سيبقى عمله البصري مغريا.
وماذا يمكن القول عن الأداء لو كانت الصور مولدة من الحاسوب الذي تولى قيادة دورة المخلوقات الغريبة، بتموجها وطيرانها ووخزها وإظهارها كما لو كانت حية برعدها وصراخها ولمعان أسنانها.
وينبغي الاعتراف بأن الشريط توج انتصار التقنية التي تصنع عالم العجائب بنباتاته وحيواناته، بمخلوقاته الوردية وزهوره.
كوكب متكامل
لقد قدمت التقنيات كوكبا متكاملا مجسدة حلم جون سميث في «العالم الجديد» أو الروايات التي بحثت عن «جنة عدن»، لكن أبعاد كاميرون الثلاثية ضربت افتراضات العين وضخمت تجربة ما يمكن أن نطلق عليها: سينما المنظر، وبدلا من أن يسحبك الفيلم بالخدع المألوفة للـ widescreen، فان صورة الـ Imax مليئة بالعمل الكبير لـ D 3، وبذلك تم إغلاق الفضاء.
بمعنى آخر: جلب تقنيو كاميرون الفيلم إليك. ولم يتكىء كاميرون على طرافة الأجسام والصور المتحركة بالأبعاد الثلاثية فحسب، بل أجاد اللعب بالأدوات التكنولوجية، لأنه منتج أفلام قديم ولا يريد من مشاهده رؤية صور رآها من قبل، طموحه أن نضيع في عالمه، وإذا نفقد فيه، فذاك أفضل المراد. هذه جرأة جيمس كاميرون التي أرضت السينما والجمهور على حد سواء، كونه مخترعا منذ تجاربه السينمائية الأولى، ومحبا للحكايات السحرية (الأكبر من الحياة الواقعية)، ومحترفا في إعادتنا إلى العالم المفترض – المفقود – الخيالي، فهو يسلينا مرة، وينورنا مرات وأحيانا يكتسحنا برهبته، وهو بهذا الشريط، أثبت أنه – بعد غياب 12 عاما من هوليوود – عاد إلى الشاشة ملبيا ثأره، مؤكدا اعجوبته.