19‏/12‏/2008

.w


افتتح مهرجان دبي الدولي في دورته الخامسة بفيلم W، المنتج بميزانية قليلة لم تتعد الخمس والعشرين مليون دولار تجرأ فيها أوليفر ستون للمرة الثالثة في تقديم سيرة حياة الرئيس الأميركي الحالي جورج دبليو بوش بعد أن قدم البراءة الأميركية في «جي أف كي» - 1991 و فساد السلطة في «نيكسون» - 1995 بشكل معقول. وبدا الأمر وكأن هذا المخرج الذي يمتلك موهبة خاصة، يميل إلى التخصص بالرؤساء الأميركان ولاسيما المثيرين للجدل. وكما أن جورج بوش لم يكن شخصا عاديا وفي سيرته الكثير مما يقال على الشاشة وعلى الورق، فإن ستون غير عادي أيضا باهتماماته سواء الفنية منها أو السياسية. لا نعتقد أن أهداف ستون «الباطنية» تخصنا كثيرا في غضون معالجتنا الشريط من وجهة نظر النقد السينمائي المجرد، كما نجد من الضروري - ومن وجهة نظر النقد الفني فحسب ــ الإشارة إلى إصرار ستون وفريق المنتجين لعرض الفيلم لأول مرة في الولايات المتحدة في 16 أكتوبر 2008. ويمكن تصور حالة الاستعجال التي تملكت فريق الفيلم، لو علمنا أن الكاميرات سجلت اللقطات الأولى في مايو والشريط عرض على الجمهور العام في أكتوبر تفصله أيام عن انتخابات نوفمبر. لأوليفر ستون طاقة كافية لصناعة الأفلام واختار ممثلين معروفين في الأداء المحترف يتقدمهم جوش برولين الذي حمل شخصية جورج بوش الابن، ولكن فترة أقل من خمسة أشهر كتنفيذ لفيلم بهذا الحجم، قد تكون قياسية وخاصة في الجوانب الفنية والتكنيكية. كما أن تقديم الفيلم في صالات العرض في وقت تتدنى فيه شعبية الرئيس الأميركي المغادر وظيفته عن قريب، لم تكن عادلة نسبيا، مادام الشريط أباح لنفسه الهجاء مرة والتقليدية في السرد مرة أخرى، فيما حرص على تقديم أحداث يعرفها الصحافيون المبتدئون. وبذلك افتقد منذ دقائقه الأولى لحس السينما المغرمة بالتشويق والإثارة حتى في تعاملها مع أكثر القضايا جدية ومع أنه يعتبر الفيلم الأول الذي يعرض سيرة رئيس أميركي وهو في السلطة، إلا أن التعامل معه لم يكن رحيما ولا مجاملا، فيما ابتلى مدير الفيلم بكثير من الرجال والنساء المحيطين بالرئيس بوش منذ فتوته، وكان عليه في غضون 130 دقيقة أن يغمر كلا منهم بوافر من موضوعيته.


قفزات صحافية
وإذا كان السيناريو اعتمد كليا على تقارير كتبها مئات الصحافيين على حد قول أوليفر ستون في أكثر من مقابلة، فإن الشريط نفسه اعتمد فنيا على قفزات الريبورتاج الصحافي، أكثر منه على السرد الروائي. وثمة أحداث تلهت فيها الصحافة الأميركية لفترة من الزمن وتركتها بعد أن أصابت القراء بالملل، كالمشاحنات المستمرة بين بوش الأب والابن ومعاناة الوالد من ولده الذي لا ينفع لشيء سوى معاقرة الخمر والتسكع في الحانات والأبرشية الغريبة التي انضم إليها، مهددا سمعة آل بوش، بل ومقوّضها، في وقت يقدم فيه الشريط بوش الأب (جيمس كرومويل) كأرستقراطي متزن يملك الحكمة والعمق والهدوء والبصيرة يواجه ابنا منفلتا بالعبارة: «هل تعتقد بأنك كندي؟» لغاية وصول النقاش الليلي بينهما مرة أن يحاول الابن الاعتداء على والده بالضرب لولا تدخل اللحظة الأخيرة من الأم باربرة بوش ( إلين برستون).
الأحداث تهرول
لم ينجح الشريط في إنجاز التاريخ النفسي للأحداث ولم يمهل السيناريو فرصة الدخول في أعماق الشخصيات وكانت الأحداث تهرول مع الزمن لكثرتها وتشابكها وأعطى التدفق السريع لها الانطباع وكأن أحدا لم يكتبها، وهذه مشكلة عامة لأي فيلم نصفه روائي والنصف الآخر وثائقي وعلى المشاهد متابعة الشخصية الرئيسية من دون منحه فرصة لالتقاط الأنفاس: التسكع في الحانات، النشاط في الأبرشية، العلاقة العاطفية الأولى، العراك المستمر والليلي مع الأبوين اللذين لا ينامان أبدا، العمل في حقول النفط، الدخول في كلية الأعمال في هارفرد، الترشح إلى الكونغرس، بدء العلاقة العاطفية مع لورا (اليزابيث بانكس) السيدة المهذبة والمثقفة والتي تعيش مع الكتب أكثر مما ترى الناس والتي أدركت نواقص الرجل الذي تودد لها منذ اللقاء الأول، فقررت دعمه والسير معه حتى النهاية.



Oliver Stone On "W"

حذف المراحل
ولكن أحدا من المشاهدين لم يستوعب المبرر الذي جعل بوش الشاب يستبدل وعلى نحو مفاجئ القنينة بالمسيح بعد بلوغه الأربعين، هذا الشاب الذي لم تستوعب أمه باربرة الخبر الذي جاءها من زوجها، لتهتف بشكل هستيري: «حاكم تكساس؟! أنت بالتأكيد تنكت». لقد حذف الشريط بالكامل كل المرحلة ما بين بوش السكير والمنفلت وبوش حاكم الولاية والمسيحي التقي، لم نشاهد حملات انتخابية ولا تحالفات سياسية ولا إعداد شخصية للمرشح ولا أي سمات تقنعنا في تبدل الشخصية من شاب يسكن في الحانات لرجل يحكم ولاية النفط. إننا أمام تهور وثائقي صريح لا يملك حسن النية ولا مهارة وربما انحرافا في الحكم على إنسان تفاداه كتاب سيرته وأجلسوه مباشرة من أقبية الحانات إلى كرسي الحاكم بطريقة بدت كأنها كاريكاتيرية. فماذا عن صبره الكبير في هارفرد ومعاناته في ترك الإدمان وصعوبة القرار التي اتخذه في التحول من شخصية إلى أخرى وماذا عن دور لورا في هذا التغيير الساحر في شخصيته، بما لا يقبل الشك، كان لهذه المرأة دورا فريدا في تكوين الشخصية الجديدة لبوش الذي ظهر مجروحا بالرفض وتفضيل والديه أخاه الأصغر جيب عليه في المقارنات اليومية لكونه فعل كل شيء لتلطيخ تراث العائلة.

الشريط اعتمد على قفزات الريبورتاج الصحافي أكثر منه على السرد الروائي

رئيس بلا مقدمات
إن السينما الجادة تحسب كل ميليمتر في أشرطتها، إلا أن سحب الممثلين ومعهم المشاهدين بهذه السرعة، تخرجهم عن التاريخ وقواعده وما كانت الشاعرية سترهق الفيلم لو وضعت بطريقة ما وربما كانت استمالت مع التاريخ المرتب بمهل وأعطت الشريط وزنه الحقيقي. لقد وصل بوش إلى البيت الأبيض من خلال الشريط بحس إيحائه الخاص الذي مهده بالقول إن الله دعاه ليكون رئيسا في وقت كانت أكبر أحلامه أن يكون لاعبا للبيسبول، عدا مشهد قصير لعبه شخص مركب نظراته مخيفة (ستايس كيش) الذي كان يوعظ بوش وساعده في استقامته الدينية وبعدها مباشرة هبط عليه الإيحاء الرباني المذكور.
الفريق الشهير
ولدينا سؤال غريب: هل كان فعلا الرئيس جورج دبليو بوش لا يكلم نائبه ديك تشيني (ريتشارد دروفوس) إلا عندما يتناول طعامه؟! وهل كان رئيس الولايات المتحدة بشعا بالفعل حينما يتناول طعامه بحيث ينظف يديه في طبقه الذي يأكل فيه، ولا يغسلهما حتى بعد تبوله ! هل كان بوش يتعامل مع فريقه بطريقة فتيان الحانات وخاصة مع تشيني (واضح احتقار ستون لهذا الشخص وإبرازه كشخصية استحواذية وتآمرية وماكرة) وكولن باول (جيفري رايت) ودونالد رامسفيلد (سكوت جلين) حتى والجميع يناقش قضية خطيرة كالتعامل مع القاعدة والمعتقلين واستراتيجية الخروج من العراق؟ لا نعرف بالتحديد مغزى اللعبة التي مارسها ستون في تصوير الجلسات الخاصة في مناقشة ومتابعة عملية احتلال العراق من قبل بوش وفريقه وإن كان قصد المخرج هجوهم أو أن المشاهد كانت ناتجا عرضيا للقطات لم تنظم جيدا. الملاحظة الفطنة من ستون أنه لم يظهر بوش كدمية لفريقه ولاسيما تشيني حيث قال له مرة بشكل سلس: «يدفعك غرورك أحيانا إلى أن تنسى بأنني الرئيس».من جانب آخر، ألم يكن واضحا امتزاج الفن التلفزيوني بالسينمائي الذي أصابه الضرر، فأغلب مشاهد المكتب البيضاوي واجتماع مجلس الوزراء كانت تؤدى حسب قواعد التصوير التلفزيوني وليس السينمائي.

تهور وثائقي صريح لا يملك حسن النية ولا مهارة وربما انحراف في الحكم على إنسان تفاداه كتاب سيرته

الانتصارات والكوارث
تم تحميل الشريط أيديولوجيا، وهو رأي المخرج أوليفر ستون بجورج بوش الذي قاله صراحة في كلمته في افتتاح مهرجان دبي السينمائي ولم يفاجئ أحدا من الجمهور. لكن الذي يكتب التاريخ يعرض انتصاراته وكوارثه بإنصاف ومطلوب الرمزية أحيانا لدعم العمل الفني، فالكتابة الصحافية شيء والسينما فن آخر مختلف تماما. ولا يوجد من المشاهدين من يجد متعة في النط ّ من تكساس إلى بغداد ويتابع البيت الأبيض كأنه في سفرة سياحية. ولعل ستون ذهب إلى المناطق السهلة في بوش ليقدمها على الشاشة بواقعية متلفزة ولباقة من يملك فريق تمثيل قوي وقلص المسافة الجمالية، بل قطعها أكثر من مرة. ويتكئ الفيلم أكثر على الكوميديا من المأساة حتى وهو يعرض صور الجرحى والقتلى العراقيين بطريقة الحشو، وهي كوميديا الأخطاء التي أدخلت على الشريط بقصد ويحق لنا أن نسأل السيد ستون إن كان يملك الحق في حشر الموتى واستغلالهم في فيلم تجاري، ومن الواضح أن المخرج لا يستطيع بلوغ غاياته من دونهم.
الحقائق والفن
ويبدو أن مدير الفيلم مسرور بـ «الحقائق الواقعية» نظرا إلى إصراره على البقاء فيها لمساحة عريضة في الشريط وهو لا يجد نفسه بحاجة إلى التنقيب في أعماق «الحقائق»، بل فضل إبقاءها وإبقاءنا معها معلقين. وهو راغب في عرض كونداليزا رايس (تاندي نيوتن) تحافظ على ابتسامتها في وقت كان بوش يملأ المكان بالضجيج ورامسفيلد متكبرا ومحتقرا سلطة الرئيس بتهذيب وكولن باول كيـّسا ومقتصدا الكلمات وباربرة بوش تهوى عض أصابعها في وقت تحتاج فيه إلى استخدام دماغها وكأن المخرج وبطله خرجا من مرحلة ضبط النفس حينما تصل القرارات إلى إغراق العالم: سواء في الفيلم الواضح أو الواقع المروع.

ستون ذهب إلى المناطق السهلة في بوش ليقدمها على الشاشة بواقعية متلفزة ولباقة من يملك فريق تمثيل قوي

أسوأ الرؤساء
إجمالا؛ يظهر ستون رئيس الولايات المتحدة الثالث والأربعون كشخص خامل وفقير المعلومات وسطحي وضحل وغبي ولا يحترم أبويه وطريقة كلامه تقترب من التهريج أكثر من الحديث وغير قابل على التطور وكما يظهر السيناريو تحريضيا بطريقة غير عادلة - حتى فنيا - وهو استنتاج سياسي في محاكمة بوش سينمائيا لدعم الفكرة القائلة إنه أسوأ الرؤساء الأميركان على الإطلاق وهو أسهل المخارج في تبني هذه الشخصية. ألا يدفع الفيلم المواطن الأميركي إلى التساؤل عن سبب إنتاجه عشية الانتخابات، وكيف استطاع العيش ثماني سنوات برئاسة هذا الرجل الأخرق؟ والذي شاهد فيلم «نيكسون» سيشعر أن ستون افتقد تلك المغامرة ورفعة التصوير والنسيج الموثق تاريخيا بشكل جيد المنسجم مع مخيلة موفقة. ففي الشريط الراهن هناك لخبطة وتشوش وغياب التوثيق بالقضايا التي جرت خلف الكواليس والأحداث ينبغي أن تقع في سياقها التاريخي وتقديمها بهذا الشكل سيكرسها لدى الكثير من المشاهدين كحقيقة واقعة. أما الكلمات المهمة التي كان يقولها بوش، فدعاها ستون تطرح عرضا كالتهام الرئيس السندويتشات في نقطة ما أثناء الحديث، ناهيك عن إساءة استخدام الألفاظ.
العناصر الفنية
لم يهتم ستون بالبصريات أبدا وسيطرت عليه الصورة المقربة المشوهة والهامشية مع الإضاءة الغامضة والتكلف في الصوت واختيار الموسيقى (وضعها بول كانتيلون) وكأنها للسخرية لا لتثبيت الموقف الدرامي. وعلى الرغم من الأداء الرائع لجوش برولين، فإنه لم يتفاد التشنج اللاإرادي لمحاكاة جورج بوش وهو لم يساعد جيمس كرومويل الذي لم يكن مقنعا بدور بوش الأب.

حذف الشريط بالكامل كل المرحلة ما بين بوش السكير والمنفلت وبوش حاكم الولاية والمسيحي التقي

عناصر السقوط
ما الذي حصلنا عليه من هذا الفيلم: إن بوش سيئ وتشيني مراوغ وباول جيد والرجل غير المناسب في المكان الخاطئ وأن الولايات المتحدة قدر لها أن يحكمها رجل أكبر أحلامه كانت أن يضمه فريق للبيسبول يركض فيه بالمجان.إن كارثة الفيلم سببها تأثره بالحساسية الغريبة لأوليفر ستون من جورج بوش علاوة على السرعة في الإنتاج وهذان العنصران قد يقودان إلى توضيح بنائه المبعثر الذي تخبط على أرض غريبة في الفن يسمونها: منتصف الطريق. وتبقى مشكلة فيلم W الرئيسية أنه حسب المثل الروسي: «لا سمك ولا لحم»؛ فهو ليس هجاء ولا عملا وثائقيا ولا روائيا ولا سياسيا ولا إيديولوجيا ولا إعلان سياسيا لتشويه السمعة ولا كوميديا ولا يحمل مفاجآت ولا يحمل صبغة خيالية؛ هو لا نار ولا ثلج ولعله في النتيجة بلا طعم ولا رائحة.

13‏/10‏/2008

Intimacy

لا شيء ساحر كالحب، لسوء الحظ..
يأخذنا حنيف قريشي في روايته «حميمية» – 1998 التي استند اليها فيلم يحمل الاسم نفسه عام 2001 فاز بجائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين وأداره الفرنسي باترايس شيراو. ولا تعوزنا كلمات قريشي: «لو كان بوسع الكتاب في الماضي أن يروا جميع القصص المكتوبة ستترجم مستقبلا إلى الشاشة لوفروا الكثير من وقتهم لأناس مثلي» للتبصر في منهل هذا السحر الذي تسرع في الإنجاز لينقلب على الساحر، ولسوء الحظ حدث هذا التوقع.
التسرع في مواجهة الحب الحقيقي، استهلاك داء الفصام العاطفي للخيانة، الزواج كمنظومة مشكوك فيها للمحافظة على الحب هي عناصر حنيف قريشي الذي قبل التحدي في «بوذا الضواحي» 1990 (جائزة وايتبريد)، «الألبوم الأسود» 1995، «السيناريوهات الكاملة» 2002، «الجسد» 2003، «الأم» 2003، «الاذن على قلبه» 2004 و«الكلمة والقنبلة» 2005 بالإضافة إلى العديد من القصص والمسرحيات والسيناريوهات التي كان أشهرها ترشيحه للأوسكار كأفضل نص سينمائي «مغسلتي الجميلة» 1984.

البحث عن الحب بإنتاج الإحساس

خطط قريشي لملء هذه التضاريس الموحلة في رواية قصيرة ساحبا شخوصه بعجالة لأداء مهامهم بطوق من الراوي غاي الذي سيقضي ليلة طويلة من التردد والتوبة واسترجاع الذنوب مسجلا الرقم القياسي في القلق. وكحال والد كريم في «بوذا الضواحي» الذي يفعلها في يوم مضيء، يصل اختناق غاي من زوجته سوزان مداه الكافي بعد ست سنوات من تعذيب النفس وتحمل آخر «عديم الطعم» حتى لو كان الثمن ترك طفلين دون إيقاظهما فجأة من الحلم معتقدا: "أن ترك شخص ليس أسوأ شيء يمكنك أن تفعله له".ولديه الخداع ضروري لتهويل عذاب النفس المصطدمة بقيم الواجب والرغبة معتقدا أنه اكتشف المفتاح في «نينا» ( غيروا اسمها في الفيلم ) التي قد تحتمله أو يحتملها على أقل تقدير. وإن بدا غاي لبقا، إلا أنه مزيج متنقل من التناقضات يجعل من الصعب العثور على شخص يتعاطف معه، باديا كأكثر من يحتاج إلى الشفقة من بين كل المخلوقات رغم أنه زير نساء تقليدي لم يفكر بالتوبة أبدا.
إنتاج الإحساس
وعاشق قريشي يحاول إنتاج الإحساس بالحميمية المنبعثة بالأساس من يأس إيحائي والبحث عن مشاعر أصيلة كالحب الحقيقي ضمن الزاوية التي يرسمها: «بعد عمر معين لا يتبقى سوى أناس محددين، في ظروف معينة، نسمح لهم بأن يحب أحدهم الآخر»، والظرف قد ينسجم معه بالطريقة نفسها التي يرفضها: "كم يسعى حتى أولئك الأكثر إثارة للمشاكل على التمسك بتقاليد صارمة ينبغي الهروب منها مادام العمر وصل منتصفه".
الخيارات تضيق كرواية «مفكرة» لبريجيت جون التي نافست حنيف قريشي في طليعة الكتب الشعبية حيث الزوجان يطحنهما الغضب من بعضهما ويفكر كل منهما في الهرب من الآخر. والهروب لم يكن في الساعات الأربع والعشرين التي حددها قريشي لغاي كي يترك زوجته وأطفاله، لكنه فعلها مرهونا بخريطة الرواية، على العكس من سالنجر الذي اضطر لوصف حياة بطله كلها كتحضير للهروب، سواء كان جديا أم حلما في التغيير، وهكذا يتحول صوت الراوي مثل بوح لجزيئات العلاقات الغرامية السرية ولعله الشعور نفسه الذي يلطم كل رجال العالم الذين تركوا زوجاتهم بسبب السأم والحاجة إلى التغيير.


سؤال العدالة
وماذا بالنسبة للعلاقة بين القارئ – المشاهد والرجل الذي رسخته حتى الآداب المتقدمة كصاحب القرار وكأن الملل والاختناق يصيبان الرجال فحسب في منظومة الزواج؟ ولماذا في كل مرة نرهن الهروب من الزوجات بملحقات عاطفية ومقبلات جنسية كأنها الوازع الأول في تبني الأفكار والمشاعر وكما لو لم يكن ثمة خيار لتغيير الحياة وترك الآخر المرتبط معه بوثيقة عهد، ولا سبب يدفع الى ذلك غير الجنس؟ (حتى المناجاة الداخلية التي ميزت الرواية تركها الشريط ليعوضها بالجنس).
هل يتحرك الحب بعد أن يترك الرجل زوجته وأطفاله؟ ألا يوجد غير الجنس في السينما لتصوير الحب؟ هل اكتفت الكاميرا ولم ينشط السيناريو من تقديم الحب إلا في إطار اللقاءات الغرامية الأسبوعية؟
وهذا الرجل الذي ترك زوجته لحظة ولادتها طفله الأول لينهي هذه الليلة مع خليلة طارئة، هو الذي يقرر بعد سنوات أنه كان مخنوقا وعمره يمضي ببلادة رمي أكياس الزبالة وتقشير البطاطا، ولماذا لم تكن متوالية الضجر من مؤسسة الزواج عادلة بالنسبة لامرأة تقضي يومها في الكدح من أجل توفير هذه البطاطا؟
واللجوء إلى أساسيات الحبكة في عرض نموذج آخر يعيش حياة عائلية مستقرة، بل ورائعة بدور الرقيب والناصح، يظهر كتحقيق توازن مفروض على الشخصية الذكورية ونظرتها إلى مؤسسة الحياة. مثل هذه الروايات أو الأفلام تزعم تقديمها المفاجآت في وقت لا عناصر للمفاجأة فيها. ويمارس الكاتب ضغوطه على القارئ ويكشف له بعض المبررات ويستبدل قلقه في كل مرة في مقولة تبرر الصورة المثيرة اللاحقة التي قرر تقديمها له ولكن عن أي طريق جديد للتغيير علينا الاقتناع، مادامت هي النهاية نفسها التي تعودنا عليها!
عناصر التصديق
إن قريشي أجهد نفسه بشكل واضح لتصوير الشعور بالعزلة لدى غاي، لكنه لم يفعل الأمر نفسه لبسط ضحالة بوصلته الأخلاقية، ذلك أن كل البشر يشعرون بالإحباط بتقدم العمر والرجال منهم يـُذلـَون بالضعف الجنسي، وهو مصير قريشي الذي تبناه غاي الذي عاش زهو شبابه في لندن السبعينات وقسوة الثمانينات وخمول التسعينات معيدا كل الاتهامات السياسية الى جيله، الأخير المدافع عن اليسار المشوش والمتراجع نحو السياسة الجنسية وكأنه المصل الذي غذى شرايين حزب العمال ووعود الترف والمروج الوحيد للعمل اللانهائي.
وفي الرواية كما في السينما، حين تريد التخطيط لعبور شخصيتك من حالة إلى أخرى ( سياسية أو اجتماعية أو عاطفية) لا تكفي المناجاة وحدها لتحقيق هذه الحيلة الفنية، ويتطلب من الكاتب، صناعة بحر من العناصر القابلة للتصديق كمعادل درامي مطلوب ولا فرق هنا بين الكلمة المكتوبة والإطار المُصَور.
وفي الحقيقة إن روايات قريشي تميل إلى العوم في الكوكتيل اللغوي والبصري المتضمن المرح والجدية والنابعة بحس سليم ما بين الثقافة العالية والبسيطة مع وثبات من الجنس الخام لأناس يرغبون جدا في عيش حياتهم.
هتاف قريشي
وبالمقارنة غير الايديولوجية بين بريطانيا الستينات والتسعينات، فأن الحركة السياسية الشخصية التي قدمها قريشي كانت سياسة من «الخارج» إلى «الداخل» (ميزت كل أعماله) وكأنه يريد أن يخبر الناس أنكم بحاجة إلى الحب والحميمية (داخل) لذلك ابتعدوا عن شوارع لندن، المحلات، الحانات، النوادي الليلية، العمارات السكنية، الوجوه المحدقة بعضها ببعض بتشنج، الأماكن المكتظة (الخارج)،، انكم فاقدون إلى «الألفة الإنسانية» (نميل إلى فهم Intimacy بهذا الوصف) وان بيئتكم الحضارية صارت مجردة تماما من الرومانسية.
Hanif Kureishi


الأبيض والأسود
كما أن قضية " الأسود" أو " غير الأبيض" ذات معاني متعددة عند قريشي ولعلها ملتبسة، فلا نعرف أيها يقصد في التمييز بين ألوان البشر، وإن كان تعريفا سياسيا وثقافيا أو مجموعة متنوعة من الميراث الآسيوي والفريقي والكاريبي غارق في حقل الاعتراضات، وربما يقصد مرة الذات الحيوية وأخرى الكتل العرقية وهل كان يصنف شخوصه لكي نحكم عليهم بشكل "اثني مطلق" لاسيما في مروره العرضي وبناءه الاستطرادي غير الثابت لتحويل الهوية الذاتية إلى عرقية كفضاء مقترح مع إشارات من هنا وهناك للاختلافات الآنية التي يؤجلها الراوي دائما أو يرجئ حسم معناها النهائي.
النظرية الذكورية
وكما في «بوذا الضواحي» نجد نساء قريشي يستمتعن بقهر إزاحتهن المريبة من الرجال، كما حصل لجميلة الثورية المحترفة التي ترتضي الزواج بقريبها دون أن تراه لتتصدر بعدها قائمة الخيانات وتشوش ثقافتها بين تطرف اليسار الستيني – السبعيني والخلفية الإسلامية والثقافة الاستهلاكية والتعصب الأبوي والقيم الغربية وفلسفة الحياة الجديدة والمجابهات الحادة التي لا تفضي إلى الحب والحميمية التي تبقى تذرع المعادلة السقيمة.
ونكاد نصدق في أن أي امرأة كانت تجلس في صالة العرض يمكنها التنبؤ في أن من كتب الفيلم وأخرجه رجال دون الحاجة إلى مراجعة الدليل، فالرؤية الذكورية للحب والجنس هي الطاغية ومن المستحيل تلمس رؤى أنثوية لمعالجة قضية مشابهة كما فعلت مثلا ليزي بوردن في «العاملات».
كما أن شجاعة الفيلم الظاهرية لا تنقذ خلوه من الإدراك، فمعالجة الوحدة لرجل أربعيني مثلا، لا تتم بالانتقام من النساء، ولمَ يتحمل الشريك عدم رضاه عن شذوذه الجنسي الذي يجبره للبحث عن شركاء بدائل ليخرج من الصنارة التي أوقع نفسه فيها، فضحاياه لا يستطيعون تأدية دور الملجأ الآمن للتخلص من العزلة الذاتية بتأثير الحاضر في الفيلم تنسي وليامز، لأن المحبط غير مؤهل في الأساس لأن يمنح الآخر أي شيء ناهيك عن تشييد الحميمية.
يحق لأي كاتب أو مخرج المحاولة، لكنه سيقدم في النتيجة حميمية بلا شكل وروح. والمثير في حكايات قريشي أنها لن تنتهي، ليس لأن الراوي جعلها مفتوحة، بل لأنها حقا لا تمسّ كالهوّة المتزايدة بين الشرق والغرب، الولاء الإسلامي والأرضية الغربية، البحث عن انسجام لا يخلف وراءه أزمات متزايدة وأن تحقق الإنجازات الذاتية دون إيذاء الآخرين.
وفي حقيقة الأمر لم يرو قريشي سيرة ذاتية لأنه يهوى ذلك، كان يحاول تطوير نظرياته الغاضبة الخاصة بالحب، وبالتأكيد الحب الذي كان لزاما عليه أن يكون كبيرا ومعنوياته عالية، وابتدأ في كسر المنظومة العائلية، متحاشيا الألوان مؤقتا ( مهما كانت المرأة بيضاء أم سوداء، فمصيرها محتوم)، لكن عثرته الكبرى أن عملية الكسر دائما يشرع في تنفيذها الذكور الشرقيون المهاجرون الذين لم يتقبلهم المجتمع الإنكليزي بالكامل، فيما كانت الهند –كنموذج للشرق– غير مكتملة الصورة أو «مُتخيـَلة»، يعيد اختراعها مما علق منها من الأسلاف الآباء المرتطمون في صراع بين الإرث والأرض الجديدة.
الأزمات المكعبة
إن كل الأزواج لدى قريشي «متورطون» (كل رواياته على الإطلاق: تطلب من الزوج الذي بلغ عامه الخامسة والستين تغيير جسده بالكامل لكي يجرب جسدا شابا لمدة ستة أشهر كما في رواية «الجسد» وفي «بوذا الضواح» يصارح الأب أبنه بعد عشرين سنة من الزواج بأنه الآن فحسب يشعر بأنه لا يحمل عواطف تجاه زوجته). كانت الزيجات مرتبة لفشل لا يمكن تفاديه، سواء كان مرتبطا بالمؤسسة العائلية أو أزمة التسلط الأبوي ومن الصعب العثور على أي من شخوصه ممتن للثقافة السائدة – تعليمه – علاقته مع الأقربين – توازنه مع المدينة وتناقضاتها، الغربية بعطور شرقية.
لا يوجد في الأدب أسهل من إيلاج القارئ في مجموعة الأحداث المبنية على الاختلافات الطبقية والقيم الأيديولوجية.ويلاحظ أن لا أحد يتبنى نصائح أحد، ولا حتى نصائحه الخاصة، هي رغوة من الجذل الغارق في الوحدة والإباحية المباشرة التي لا تبني نفسها من الداخل، بل تجد مأواها وضوضاءها لتحدد مكانها في الخارج فارضة تناقضاتها كواقع حال على كل الشخوص و«وكم من المزعج حقا أن أوهامنا غالبا ما تكون هي اعتقاداتنا الأكثر أهمية».
من يجتاز العتبة؟
لا يترك قريشي نساءه يتسكعن كما يفعل مع الرجال ويحرص على تخفيض الاتصال بين الرجل والمرأة إلى حده الأدنى الطبيعي (حتى في علاقة كريم وجميلة في «بوذا الضواحي») نأخذ مثلا: «ثمة أشياء أكثر كآبة من نزع الثياب في العتمة إلى جانب امرأة أخرى لن تستيقظ من أجلك».
وفي «الحميمية» يبرز غاي مثل باسل قرر اجتياز العتبة بجرأة، ذلك الحاجز الذي رفض عبوره الكثيرون، وإذا كنت تفعل هذا الأمر في عرين أحبائك، فكيف ستملك العواطف الكاملة مع شخص آخر يطلب منك –بالضرورة– أكثر من جرأة اجتياز العتبة (ستتعقد المهمة لو آمنا بصوت فرويد الكامن في داخل الرجل)؟
إن الحب السليم لا يمكن بناؤه على أكوام حب سابق، قد تنجح هذه النظرية في بناء علاقة زواج على أنقاض أخرى، ولكن في الحب ستتبدد الأماني مجددا بفعل الحزن والوحدة التي ستقدم جسدا باردا لا يقوى على الارتباط بالآخر لا من الداخل ولا الخارج ولن يستطيع أحد ملء الفراغات في غرف النوم المؤقتة التي اقترحها شيراو كنوع من الحل لإدارة الحب بالجنس، لأن حشد الفراغات بين الطرفين لن يقوّم بينهما روحا مشتركة مهما بذلا من محاولات. وإذا نخطأ مع امرأة ثم نعيد الخطأ مع أخرى وهكذا، فكيف ستسوى الأمور مع أنفسنا في نهاية المطاف، فالذي يغدر امرأة لا يمكنه الإخلاص لأخرى.
نموذج للأفلام التي تدخلنا في الجدل القديم الذي يقارن بين السينما والأدرب

بين الرواية والفيلم
كما لو كان المخرج الفرنسي باترياس شيراو يجلس في مكان خلفي وكل العاملين في الفيلم بمن فيهم قريشي - الذي تمت مصاهرة نصين له في فيلم واحد وبشكل غريب- في المكان المتقدم، الفاخر.شيراو ارتضى المقعد الخلفي تاركا لقريشي المقعد الأمامي، وهذا أكبر الأخطاء التي ارتكبها قريشي بحق روايته التي ساهم في كتابة سيناريو الفيلم مع شيراو ولويز تريفيدس.
إن شهادة غاي في «حميمية قريشي» تحولت إلى لقاءات الأربعاء من الفن الإيروسي لدى شيراو الذي لم يعتقه الاتهام في أنه قدم «التانغو الأخير في لندن» ناسفا الحبكة الثنائية الأبعاد (ربما بمساعدة قريشي نفسه) مادامت الكآبة في الرواية صارمة ومألوفة ولن تحقق «الألفة» مع جمهور السينما كالحميمية التي حققتها الرواية مع القراء الممتعضين من السياسة البليدة لبريطانيا التسعينات باحثين عن «سياسة العلاقات الشخصية»: الزواج، الأطفال، المجتمع، الجنس وكما وصف قريشي روايته :«كنت أطرح موضوعا مهما حول المشاكل التي يواجهها المتزوجون».
وعلى عكس قريشي، اهتم شيراو بالجنس كطاقة غير شخصية، وبالعاطفة من دون علاقة، بسحر الأجساد وليس المتعة وابتعد عن الشعور القوي والتعقيد العاطفي.
لقد أبدى قريشي شعورا بالذنب محاه شيراو، فالتأثيرات المروعة التي اهتم بها الكاتب، اعتبرها المخرج أفكارا ليست مهمة لعبور شريطه إلى مزاج الجمهور، وهنا فقد باترياس شيراو بعد النظر كالذي رأيناه في فيلمه «الملكة مارجوت» وفقد المرح في الجنس المعروف في المدرسة الفرنسية للسينما.
لا توجد سينما تمر فيها على الشريط دقائق طويلة دون أن يحصل شيء

الذنوب المشتركة
لا قريشي ولا شيراو قدما غاي وكلير(مارك رولانس الذي أدى هاملت على مسرح شكسبير اللندني وكيري فوكس التي انتزعت جائزة أفضل ممثلة في مهرجان برلين) كمحبين يسبب لهما الحب الإغماء من شدته ويستحق ترك الأطفال، بغض النظر عن تجاوز معرفة الأسماء في «تانغو باريس»، نجدهما في «تانغو لندن» بالكاد يتحدثان بعضهما لبعض واجتماعهما مقتصر على الجنس في شقة لندنية قذرة تقع في قبو (إشارة انحطاط) وبدت هذه العلاقة بمحدوديتها، تعني أشياء مختلفة إلى كل منهما وحتى مشاعرهما كانت تبنى كرد فعل لطبيعة الحميمية الطليقة كمثير بصري وليس حسيّا، صعوباتهما هادئة بسبب شظايا الحب وليس الحب نفسه الذي بدا في أغلب الأحيان سطحيا، ولطالما شتتت المشاهد الجنسية تركيز جمهور السينما وأي بلاهة يسببها الاضطرار لرؤية غاي وكلير عاريين في المشاهد المتعاقبة، ألم يكن الأجدر إظهارهما عاريين روحيا لنتعقب وإياهما الحل؟
وما أسقط الفيلم في الهاوية، أن «حميمية شيراو» اندست في رائعة بيرناردو بيرتولوشي «التانغو الأخير في باريس» 1972. كما أن الشريط عانى من مشكلة غريبة وهي الخلطة، فقريشي الذي رشح للأوسكار عام 1984 لسيناريو «مغسلتي الجميلة» استخدم الخلطة الشرقية والغربية في كل أعماله وفي هذا الشريط تم خلط قصته «ضوء ليلي» مع روايته «حميمية» وفوق هذا أتوا بمخرج فرنسي ليكمل هذا الكوكتيل العجيب!
المهلة الوحيدة التي يعطيها المخرج للجمهور كي يلتقط أنفاسه هي ارتداء العاشقين الواقيات الجنسية (وهو إعلان جيد لضمان جنس آمن)، لكن منذ متى كان البشر يمارسون الجنس وهم يشخرون؟!
أما المشاهد الجنسية، فصورت كلها على الأرض كما لو أن الشخوص يعانون فعلا من «كآبة السرير».
وبدا مدير التصوير إيريك غاوتير يحمل كاميرته بقلق واستسلم للبطء دون أن يثيرنا بصورة واحدة مهمة حتى عندما أعطي حرية تصوير الفراغات. ويبدو أن غاوتير تم تكبيله كما ينبغي في السيناريو الذي شارك فيه شيراو الخارج من تقاليد المسرح الفرنسي.
وهكذا لم يحمل المخرج 120 دقيقة من شريطه بشجاعة عبر حقول الألغام العاطفية والجنسية التي كان يزرعها قريشي في طريق عشاقه، فالحب قد ينمو في غرف النوم البشعة، لكنه لا يستطيع الاستمرار والثبات عندما لا تنجز العواطف وظائفها، بما في ذلك الفضول وتبادل الأدوار والإدهاش والجراح والاكتشافات المتتالية والتقاط التفاصيل المخفية في الآخر، في الحيرة والغيرة، في الاستسلام إلى الحرية الصغيرة مهما كانت ضآلتها، التراجع لفسح الفضاء للمحبوب. والحب سيتأثر في الحلول المدروسة بشكل سيئ والتأثيرات التقليدية لمتاعب منتصف العمر التي تكون ضحيتها زوجة كادحة وطفلين حالمين.
نعرف أن التساؤلات تنبع من قضايا، منها وتعود إليها. وفي الفنون لو كانت هذه التساؤلات غامضة ستكسب الجاذبية، لكنها في الشريط واضحة، بل واضحة جدا.فأي حب لا يحمل ألغازه سيكون مملا، فأحداث الفيلم تصل إلينا من وجهة نظر غاي لذلك من السهولة توقع لحظات الحميمية من شريك غير مثير غاضب على تقدم العمر، لذلك من الطبيعي أن يكون مجرى الشريط متشائما رنته حزينة وحتى مميتة.
إن لغة الجسد في الفنون بإمكانها توضيح عواطف الشخوص غير المعلنة وديناميكية أي علاقة، غير أن المخزي في الإبداع هو أن كل مشهد عرض خطط له بعين الإنتاج (آخذين في الاعتبار الرقابة البريطانية المشددة)، مما يجعل الزيف مهيمنا عليه.
كما لا توجد سينما تمر فيها على الشريط دقائق طويلة لا يحدث فيها شيء، الأفلام الرائعة تمنح في كل ثانية وتعطي وتذهب بك أبعد مما تتوقع وقد يقال أي شيء عن شريط شيروا، عدا كونه عميقا.

18‏/08‏/2008

The Sea Inside - Mar adentro

POEMA DE PABLO NERUDA

القصة استندت الى الشخصية الحقيقية للشاعرالإسباني ريمون سامبيدرو الذي قضى 30 سنة يناضل من أجل حصوله على «الحق» في الموت بكرامة، قال بالنص: «إذا لم أعش بكرامة، لأمت بكرامة»، عن طريق ما عرف بعده بـ «الموت الرحيم»، لذلك جاء بوستر الفيلم كنسخة طبق الأصل لغلاف كتاب ريمون سامبيدرو الحقيقي مع استبدال صورة سامبيدرو بالممثل خافيير بارديم، أما عنوان الفيلم، فهو مقطع من قصيدة للشاعر.

قطعة فنية نادرة وقوية كاحتفال بالحب والحرية والجمال والحياة والغموض

موضوع مفجع
شريط معقد جدا وعاطفي وتعامل مع الموضوع المفجع بجدية عالية وجدلية صريحة جدا تبناها البحار وميكانيكي السفن الذي أصيب في شبابه بالشلل خلال غطسه من مرتفع في البحر وقت الجزر ليرتطم جسده بالصخور وتتمزق رقبته ويصاب كل شيء تحتها بالشلل الكلي ويبقى رأسه ووعيه ودماغه حاملا كاهل جسد لا يعمل فيه شيء لمدة 27 سنة ( في الحقيقة 30 سنة). وبما إن إسبانيا العلمانية لا تسمح بالموت حسب الرغبة والطلب وليس باستطاعتها تشريعه، فقد أوكل ريمون فريقا من المحامين لكي يقنعوا المحكمة بتلبية طلبه في الموت. في الجانب الآخر كان لعائلته مواقف متباينة من هذه القضية وتتأزم المسألة أكثر حينما يجد هذا العاجز عن كل شيء عدا الأكل والحديث والكتابة بفرشاة طويلة عن طريق فمه، امرأتين تقعان في حبه، فيما الثالثة كانت أمه التي لا تبطل من إقناعه للبقاء ما شاءت له الأقدار أن يبقى في هذه الحياة التي يعتبرها غير كريمة.
المخرج والكاتب
نجاح المخرج وكاتب السيناريو أليخاندرو آمينبار انحصر في منح المشاهد عبر التفاصيل السهلة كل العناصر الضرورية للمأساة الإنسانية، لكنه لم يسمح لهذه العناصر أن تغطي الحيز الأعظم من الشريط الذي احتوى على مواقف هزلية عديدة التي كانت تتدفق على سجيتها وتأتي طبيعية في القصة. ولكن آمينبار استمر حتى النهاية في إخلاصه لعناصر الميلودراما التي أمسك بها والمتوافرة في الصناعة السينمائية العادية : عواطف ابن الأخ المراهق، قراءة الشعر، حلم الطيران فوق البحر، رثاء الذات، النقاش السياسي بخلفية استخدام الراديو، المرح المفتعل، العلاقات التي تحركت حول شخص حكيم يحمل من الغطرسة ما يكفي لكراهيته في أحيان كثيرة، تنافس امرأتين بالغيرة التي لا يستطيع المرء استيعابها في ظرف كالذي يعيشه ريمون، الاستعانة بكاهن معوق ليكون الناطق الرسمي باسم الدين، الدوران حول مسألة الانتحار مع ظهور كل شخصية جديدة، الميل الى الصراخ حتى في الحوارات التي تميل إلى الفلسفة أكثر من الثرثرة الحزينة التي تدفعه الى الاقتراب من الدراما التلفزيونية أكثر من السينما.

MAR ADENTRO Escena Final

تجسيد بارديم
وساعد خافيير بارديم الفيلم كثيرا، فلم يكن المشاهد يرى ممثلا يستلقي على السرير لحظات التصوير، بل تجسد له ريمون سامبيدرو الذي لازم فراشه أكثر من ربع قرن. وحتى العائلة ظهرت طبيعية، يحبون ريمون كثيرا ومحبطون من إصراره على الموت ويتطور أداؤهم نحو القمة، كما لو أن لا شيء في هذا الفيلم يبدو خاطئا، إنه حقا عمل مبهر بالكامل.والفيلم من ناحية أهم لا يقدم لنا سامبيدرو لكي نتعاطف معه أو نخطئه، إننا نتلقى معلومات كثيرة عن حياته وعلى اختلاف عقولنا وتفكيرنا علينا اتخاذ القرار. إن الفيلم نموذج بارع للسينما الكلاسيكية والشاعرية والقصص المؤلمة دائما ما تستحوذ على المشاهدين بشعور الذنب، فتذهب عناصرها الترفيهية. ولكن الأداء الساحر والمثير لفريق التمثيل يتقدمهم خافيير بارديم الفائز بأوسكار أفضل ممثل مساعد أخيرا الذي قدم البحار العاجز كشخصية لماحة ومحبة للنكتة وذكية ولذيذه وكانت كل هذه المواهب يستعرضها من على سريره ومن دون حركة عدا استخدامه العود الطويل المصمم للكتابة على سبورة تلصق عليها الأوراق، وهذا ساعد على أن يكسب احترام وحب كل من حوله حتى ابن أخيه المراهق جافي (تامار نوفاس)، وبذلك كرسوا حياتهم لكل ما يمكن أن يسليه ويبعده عن التصاقه الشديد بالموت.
في التقنية والرقابة
الألوان أيضا لا تبدو صامتة والصوت في محيط هندسة السينما الإسبانية للصوت واختلاط الألوان والصوت كان رائعا. ثمة ثلاثة مشاهد حذفت من العرض وهي إضافة مهمة للشريط، لاسيما علاقة جوليا مع زوجها والسبب الذي توضحه نهاية الفيلم الذي بدأ قويا من مخطوطته مرورا بالإنتاج والتنفيذ والإخراج والتنفيذ.

هل هناك حق في المعيشة والأهم منها الحب لو تمنحك الحياة عقل وصوت فحسب؟

الفريق الجامح
تبرز جين (كلارا سيغورا) كمتكلم مستقيم وجذاب في الفريق القانوني الذي كافح أمام إصرار المحكمة التي اضطرت الى الاستعانة بجوليا ( بيلين رودا) كمحام جديد معتمد وبعد تردد وافق سامبيدرو على إشراك جوليا لأنها كانت ضحية مرض شبيه باعتبارها زميلة في علته.وهناك روزا ( لولا دوناس) العاملة المحلية التي جربت الزواج مرتين وخرجت منه بطفلين وطلاقين تشاهد سامبيدرو في التلفزيون وتحس أنها تفهم حالته وتسعى لمقابلته وتحقق ذلك على الرغم من بروده وصراحته القاسية التي أرهقتها في المقابلة الأولى.وبظهور جوليا وروزا في حياة ريمون الشقية ينطلق الشريط بمفاهيم الحب والموت على سعته ويتطور في اتجاهات غير متوقعة مع تركيز الحوار على الشاعر المشلول لكي يظهره عميقا كشاعر وحادا كمشلول. لكن الذي جلب صفة العاطفية للفيلم هو محاولة الشاعر للتغلب على الآلام القاهرة، تماما كالعناصر التي جذبت منتجي أفلام مشابهة: «قصة حب» و«الغزوات البربرية» و«لورينزو»، لكن شريطنا يرتفع فوق معايير هذه الأفلام وعمل داخل العمق المطلق لمغناطيسية بارديم وموهبته وحضوره المتدفق على الشاشة (راجع أفلام: «أمسيات الاثنين» و «قبل الأماسي» و«الراقص في الطابق العلوي» نموذج لقصص البطل الرئيسي الذي يسحب المشاهد لفضائه ويكون مركز النفوذ الحيوي ومقارنة بارديم بأورسن ويلز ومارلون براندو وجون مالكوفيتش ملائمة جدا)، وإن كان ريمون – بارديم لم يستطع تحريك نفسه في الفيلم ولا في الحياة، إلا أنه حرك الآخرين، جميع من شاهد الفيلم.
دور المساندين
أعطونا ثبات الصورة الإنسانية ساعدتهم خبرة اليخاندرو آمينبار لاسيما في أفلامه: «افتح عينيك»، «أطروحة»، و«الآخرون» وقدرته على حقن العواطف العميقة إلى أقصاها لدى الممثل والمخاطرة العالية في اختيار الأفكار الجديدة والجريئة والميل إلى المناطق الغامضة في علم النفس وتجنب المعايير «المقبولة» التي يحب الجمهور أن يصفق لها. ولا نفوت ذكر المشاركة الفعالة لصديقه المقرب ماتيو جل أحد أكثر المواهب حضورا في السينما الإسبانية والممثلة بيلين رودا التي تملك جمالا غير سطحي واستطاعت إدخال هذا الجمال في مناطق عميقة جدا. أما لولا دوناس التي لعبت دور الممرضة في رائعة آلمودفار «تكلم معها»، فتبرع بنقل بساطة المرأة وإصرارها غير المحدود وتفرد شخصيتها الباحثة عن الإنجاز واستحقت إعجاب ومديح النقاد والجمهور على السواء.

شريط مؤلم وأخلاقي وعناصره الفنية عالية المستوى

فيلم الدموع الخيرة
وبلا تردد، يعتبر الشريط قطعة فنية نادرة وقوية احتفل بالحب والحرية والجمال والحياة والغموض وعلم أشياء كثيرة جديدة ومن طراز الأفلام التي يخرج بعدها المشاهد من صالة العرض أكثر ثقافة لو حاول مساعدة نفسه (قيل إن الكثير من السيدات انفجرن بالبكاء داخل صالات العرض في البلدان المختلفة التي عرض فيها الشريط وإن قسما منهن صرخن، وعداهن فقد كان بريق الدموع يشط ّ ألمه في عيون من شاهد الفيلم حتى النقاد وأعضاء الأكاديمية الذين منحوه الأوسكار). إن الدموع التي انهارت لمعظم مشاهدي الفيلم، لم تكن لأنه كئيب جدا ويحمل قضية قاسية، بل لقدرته على إثبات عجز أي منا وعدم استطاعته فعل شيء لمأساة قد يكون بطلها أو يسايرها في أي لحظة، ولأنه مؤلم بما يكفي وأخلاقي وعناصره الفنية عالية المستوى وتضرب مادته على مادة عاطفية غزيرة الجدل والخلاف واكتفى الفيلم بتصوير الحب الكبير من دون تفسيرات وقرارات سهلة وتركنا نبحث عن الأجوبة بأنفسنا بعون مخطوطة صاعقة النظرة، لذلك فإن الفيلم مثل الميزة العظيمة في صناعة السينما المدهشة والقادر على تحويل الكآبة والأسئلة الجدلية إلى متعة، وفي النتيجة استحق منا ما هو أعمق من الدموع.
الأسئلة الرائعة
ما القوة التي يملكها ريمون العاجز تماما إلا من تحريك رقبته قليلا، في أن يكون ثابتا بغير ذلّ ونظرته وتعليقاته حاذقة ودقيقة ويلهم النساء الجميلات ويتمددن إلى جانبه عشقا بشلله؟ وما القابلية على تحويل فيلم متجهم المادة إلى سلس ومرح أحيانا كثيرة؟ وكيف استطاع خافيير بارديم انتزاع الجوائز وإعجاب كل من شاهده وهو لم يملك غير تحريك عينيه والتحكم بصوته ؟ (عدا مشهد الطيران على البحر الذي تبناه إيحائيا).وهل هناك حق في المعيشة والأهم منها الحب لو تمنحك الحياة عقلا وصوتا فقط؟


معركة ريمون
وبهاتين استطاع ريمون تحريك العالم من حوله كجندي لم تنله المعارك تعبا، وإن كان نزاعه يائسا بتحالف الساسة ورجال الدين والمحافظين وحتى عائلته ضده وخاصة شقيقه خوزيه (سيلسو بيغالو) وكنته مانويلا (مايبيل ريفيرا) واعترض على تجهيزه بكرسي معوقين يدار بطريقة ذاتية، لأنه اعتبره محاكاة ساخرة من الحرية. إلا أنه تفوق وأنجز انتصاره في النهاية (بمساعدة آخرين - روزا تحديدا). ولابد من الإشارة إلى الرسالة التي وجهها إلى السلطات الدينية والسياسية والقانونية في إسبانيا والتي تناقلها العالم وقتذاك: «إذا كان ضميري يجد نفسه محصورا بجسمي المشلول، فأن ضمائركم مشلولة في أجساد صاحية». وأدت «الرسالة المفتوحة» إلى طرح قضية «الموت الرحيم» على أعلى المستويات في العالم سواء الدينية والسياسية والقانونية والأخلاقية والعلمية. كما أن هذا الفيلم عبر عن رفضه لأسلوب سينما هوليوود المربحة وعودة لأليخاندرو آمينبار إلى جذور السينما الإسبانية ومحاولة للاقتراب من إنجازات مواطنه بيدرو ألمودفار.

روزا اعتبرت أن حبها المسكين سيتماسك بعد الموت

الرومانسية الثنائية
وإذا استدرجنا الفيلم إلى كونه قصة حب، فنجد فيه رومانسية ثنائية فريدة: ريمون وجوليا من جهة وريمون وروزا من جهة أخرى. الأهم في السيناريو، أنه أعطى لكل منها طبيعته ونغمته الخاصة وصدقه. ومن خلال الحب نبهنا آمينبار الى أن بالإمكان البكاء بابتسامة، كفلسفة ريمون الغريبة: «من يحبني يساعدني على الموت» التي عمقها في مشاعر جوليا التي أسقطها المرض ولم تفعلها وروزا التي اعتبرت أن نظرتها إلى البحر تعيد إليها حبيبها الذي ساقته إلى حتفه اللذيذ.


من لا يستطيع تحريك نفسه قد ينجح في تحريك الآخرين
الصناعة السينمائية
لسوء الحظ، حتى في مثل هذه الأفلام المتفوقة، ثمة التصاق بالكليشهات السينمائية، لأنها مرتبطة بالصناعة، كاعتماد آمينبار في لقطات ليست قليلة على الغوص في التفاصيل الصغيرة لموضوعه الرئيسي: الشلل، لكي يؤثر أكثر على المشاهد في تقديمه الصعوبات والمبررات التي حكمت خيار ريمون في إقدامه على الموت. وعلى الأرجح يكون الخوض في هذه التفاصيل مقبولا أكثر في الكتابة الروائية عنه في شريط محدود اللقطات ومخبأ في مكان لا يبتعد كثيرا عن سرير ريمون. ولعلها ذنوب يمكن غفرانها لأن السيناريو محكوم عليه بتفسير موقف ريمون من الحياة وهو الذي امتلك وسامة كافية قبل حادثة الغطس ووجد نفسه محاطا بالحب الذي ظنه شفقة في أحسن الأحوال. لكن تثبت موضوعة الفيلم: كرامة الحياة.. كرامة الموت ؛ في بنية الشريط بقوة وسيمتنّ من تعافت أفكاره وبلغ أقصى درجات الحزن بعد انتهاء الشريط الذي عنى للكثيرين تأمله في موته الخاص وسيكون العرفان منصبا إلى أليخاندرو آمينبار وخافيير بارديم وفريق الممثلين الجدد على تلك الحساسية الراقية والذكاء والخيال والكآبة المتوقعة والكرامة الإنسانية والحب حتى لو كان ما بعد الموت.
Alejandro Amenabar

جوائز الفيلم
حصل الفيلم على أرفع جوائز السينما في العالم نذكر منها: أوسكار أفضل فيلم أجنبي 2005، جائزة كيناري الذهبية في مهرجان بانكوك السينمائي الدولي 2005، أفضل ممثل خافيير بارديم، أفضل مخرج أليخاندرو آمينبار، جائزة أكاديمية الصور المتحركة للفنون والعلوم، رشح لأفضل مونتاج في الجائزة الأخيرة، جائزة جمعية نقاد السينما 2005 كأحسن فيلم أجنبي، جائزة أفضل ممثل خافيير بارديم . جائزة كتاب السينما 2005 (إسبانيا) كأفضل فيلم، أفضل إنتاج: خافيار أغيرسروبي، أفضل مخرج أليخاندرو آمينبار، أفضل سيناريو ونص سينمائي أليخاندرو آمينبار، أفضل ممثل مساند سيلسو بيغالو وأفضل ممثلة مساعدة مايبيل ريفيرا وأفضل ممثل جديد بيلين رودا . جائزة الفيلم الأوربي كأفضل فيلم 2005 وأفضل ممثل خافيير بارديم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو. وحصل أيضا على جائزة نقاد الفيلم في استراليا كأفضل فيلم 2005 وأفضل إخراج وأفضل سيناريو وأفضل إنتاج وأفضل ممثل رئيسي خافيير بارديم وأفضل ممثلة رئيسية لولا دوناس وأفضل ماكيير جو ألين وأفضل ممثل واعد تامار نوفاس وأفضل ممثلة جديدة بيلين رودا وأفضل صوت ريكاردو ستينبرغ وأفضل ممثل مساند سيلسو بيغالو وأفضل ممثلة مساندة مايبيل ريفيرا. ومن مهرجان أفلام هوليوود فاز بجائزة اكتشاف هوليوود وأفضل متميز أوروبي المخرج أليخاندرو آمينبار. وربح الكرت الذهبي من جمعية صحافة هوليوود وأفضل فيلم أجنبي وأفضل ممثل خافيار بارديم وأفضل مخرج. وربح الفيلم جوائز عديدة لا يمكن التوقف عندها جميعها من الأكاديمية الدولية وجائزة سينمانيا ومجمع نقاد سان دياغو والجائزة الكبرى للجنة التحكيم الخاصة من مهرجان فينيسيا السينمائي وجائزة السينما الصغيرة كأفضل فيلم عالمي والكثير من الجوائز الرئيسية وللعاملين في الفيلم.

06‏/08‏/2008

Hable con ella - Talk to her

hable con ella

بساطة عنوان الفيلم الكاذبة تقودنا إلى نص معقد وصعب جدا وضعه في المراتب المتقدمة في كل مهرجانات السينما المحترمة والنقد السينمائي الجاد. ومنذ اللحظة الأولى انطلق بقوة ولا نعرف لماذا تعمد صانع الفيلم والماهر الأكبر بيدرو آلمودوفار إيذاء كل مشاهديه من الثانية الأولى وسيجد أي مشاهد نفسه في «حالة بكاء» ما أن تُطفأ أنوار صالة العرض مباشرة. انه شريط جريء، غريب وغير متوقع من الإسباني المذهل الحسن المخ الذي فاز قبل هذا الشريط في عام 1999 بأوسكار أفضل فيلم أجنبي عن شريطه «كل شيء عن أمي» ووطده فيلم «اللحم الحي» كواحد من أهم المخرجين المعاصرين.و«تكلم معها» المختار لهذا اليوم، قابل للجدل في كل شيء، لاسيما وجهة نظر آلمودوفار (بصفته كاتب السيناريو والمخرج) الخاصة - وربما غير التقليدية - عن الحياة ومجازفاتها والعلاقات وغرابتها والحب وصدفه المفاجئة. لدينا الممرض بينغنو (خافيار كامارا) والصحافي والكاتب ماركو (داريو غرانينيتي) حيث تشده الأقدار إلى عيادة خاصة زبائنها كلهم يقضون حياتهم في الغيبوبة. بينغنو مهمته في العيادة الاعتناء براقصة الباليه وبنت طبيب نفسي محلي ثري أليسيا (ليونور واتلنغ) والتي كان يلاحقها بخجل مريض قبل حملها إلى العيادة بعد أن تعرف عليها في الشارع الذي يفرق بين شقته المطلة على صالة التدريب في المبنى المقابل، وأسلوب التعارف بسيط: سقطت محفظة نقودها ولم تلحظها قبل بينغنو الذي راهن على هذه الفرصة للاقتراب منها، وكانت هذه الحادثة بداية عشق اعتقد أنه متبادل. لكن الشريط لم يهتم بسرد الأحداث بالطريقة المتسلسلة ليظهر أليسيا بلا مقدمات طريحة الفراش تحت الغيبوبة بعد حادثة سيارة وعاشقها الممرض يعتني بكل التفاصيل الخاصة بمريض خارج عن نطاق الحياة، يتطوع بتعويض كل النوبات الإضافية ليعتني بها طوال 24 ساعة لمدة أربع سنوات! تتضمنها أكثر من عودة بطريقة الفلاشباك، لم تكن مصوبة بالتأكيد بتعمد وحملت سلاستها وأهميتها واختيارها الصحيح في مسرى الشريط. في هذه الأثناء داس ثور بعد انطلاقته في الحلبة مباشرة صديقة ماركو ومصارعة الثيران ليديا (روزاريو فلوريس) تاركا آثار قرونه فيها وجعلها نزيلة العيادة لتجاور أليسيا التي كانت قد تعودت على الغيبوبة. وأليسيا تمثل الفكرة الشائعة التقليدية للأنوثة اختيارها راقصة باليه ليس مصادفة، بينما زج ليديا كمصارعة ثيران ينهي الجدل في الثنائية المتناقضة بين المرأتين وحتى في اختيار الممثلتين.
Talk To Her
إبهار مفروض
ثمة الكثير من الأفلام تحدثت عن قضية الغيبوبة والأكثر عن الحب والعلاقات بين الرجل والمرأة، لكن شريطنا اليوم الذي رشح لأوسكار أفضل مخرج، غير عادي وخاصة تنفيذه واكتمال كل عناصره، لقد طور السيناريو علاقة بينغنو وماركو اللذين يحبان امرأتين في الغيبوبة (ظرف مشترك) ويتكلمان معهما لسنوات من طرف واحد خالقا رابطة قوية بين الرجلين وبين ذلك التردد الأعظم وانهيال العواطف نحو امرأتين فاقدتي الوعي، وما أروع تلك المشاهد التي يأتي فيه عنوان الفيلم براقا حينما يخاطب أحدهما الآخر: تكلم معها!لقد كان ماضي بينغنو في حب أليسيا أكثر غرابة من ماركو (ماضيه الشخصي يعاني من متاعب جمة) الذي لم يواجه مشكلة في إقامة علاقة مباشرة وصريحة مع ليديا، رغم أنها عاطفيا مؤثرة وتركت جراحها العميقة لديه بعد الحادثة، ولأن الممرض كان يقضي ساعات يومه يتلصص على النافذة المطلة على صالة التدريب، دون أي بادرة منه ليقدم نفسه لها كعاشق رسمي وارتضى اللجوء إلى هوس متابعتها عن بعد، وكانت هذه طبيعة شخصيته الخجولة والطيبة والمترددة وغير المقدامة والتي ليس فيها جرأة، ولأنه قضى 20 سنة من حياته يعتني بوالدته الطريحة الفراش.

الممثلون
كان لدى الممثلين اتزان كامل لحمل شخصيات في منتهى التركيب والصعوبة وأدى خافيار كامارا ملامح الرجل الساذج والقلق ونعتقد أنه كسب عطف من شاهده، وكان داريو غرانينيتي يحمل جراحه معه في كل المشاهد التي ظهر بها والتي كان يحاول أن يكتشف نفسه وحقيقة علاقته مع ليديا، بينما العمل الكبير كان على عاتق ليونور ويتلنغ هو صرف معظم مشاهد الفيلم في الغيبوبة (عارية على الأغلب) أو تؤدي رقصات تعبيرية لها علاقة بالسياق. وبلا شك يفهم بيدرو آلمودوفار كل التفاصيل التي لم نتعرض لها في حياتنا الخاصة، كالعالم الاستثنائي لمصارعي الثيران والطرق التي تتم فيها العناية مع من يعيشون في الغيبوبة، ومن الواضح أنه روى القصة على الورق، ومن ثم جسد كل أفكاره على الشاشة كتفاصيل مربحة للفن، حينما يقدم مصارعة الثيران الأشهر في إسبانيا والتي يقف لها مئات الآلاف من الرجال تذعر من رؤية أفعى في بيتها، هنا ليس المهم تماسك ماركو في تلك اللحظة، قدر الرهان الذي وضعه السيناريو على هذه الحادثة التي حددت الاثنين برمز الأفعى والشال وطعنة الثور اللاحقة التي تغيبها عن الحياة. وواضح أن شجاعتها في مواجهة الثيران تنهار لدى رؤيتها أفعى تأكيد للغريزة الأنثوية التوراتية.هو ذا ما نسميه الأداء الفعال الهادئ الموزون بالاتساق وجمال الحركة والثنائيات المتضادة كتدفق الحياة والموت في الربط بين المشهدين البارعين لاستحمام الممرضين لأليسيا العارية في الغيبوبة وارتداء ليديا ملابس مصارع الثيران، ويا لها من كاميرا صورت الحياة والموت في لحظة واحدة!
فيلم الحب المتفوق على الحب حينما تمضي سنوات طويلة وأنت تتكلم مع حبيبتك التي لا تعلم بوجودك

قدرة الفيلم
يفتتح الشريط بمشهد من مسرحية «نينا باوش» لموللير حيث الراقصة العمياء (تمهيد لحالة ليديا وأليسيا) في زحمة الكراسي تؤدي الحركات الإيقاعية المنضبطة ورجل خلفها يزيح عنها الكراسي والجدران التي تتلقفها، ومن الواضح أن آلمودوفار حرك كل شيء في الدقائق الأولى لكي تلائم قصته اللاحقة ومن المؤكد أنه انتزع دموع حتى لجان التحكيم والنقاد الذين قرروا معالجة هذا الفيلم الحزين من افتتاحه حتى تدرج أسماء تتر النهاية (كما البداية النهاية برقصة) الذي كان لوحده مشهدا ختاميا مبجلا وواحدة من النهايات الأثيرة في السينما، مع الإشارة إلى ان هذا الطراز من الميلودراما كان قد نبغ فيه وأسسه المخرج فاسبيندر. من جهة الجمهور يجلس ماركو و بينغنو قبل أن يتعارفا وكان الأخير ينظر إلى دموع الأول، في هذه النقطة كانت دموع ماركو علامة على دخوله الشريط مجروحا وبينغنو مذهولا وما بين الجريح والمذهول تكرس إرادة الرجلين، إلى نفسيهما أولا ومن ثم إلى اهتمامهما بحبيبتيهما العاجزتين. وعن البكاء أيضا، فقد أخبر بيدرو آلمودوفار في مقابلة مع الكاتبة السينمائية لورينزا مونوز أنه طوال الفترة التي كتب فيها السيناريو كان يبكي! إن القصة مأساة رجال يكرسون حياتهم لشخص آخر لا يعلم باهتمامهم وحبهم ولا بالذي يجري في الدنيا، هذا الحب المتفوق على الحب حينما تمضي سنوات طويلة وأنت تتكلم مع حبيبتك التي لا تعلم حتى بوجودك، إنه الحب حينما تعيشه في الآخر أو من خلال شخص آخر رغم أنك متيقن حسب كل تقارير الأطباء، إنه لن يفتح عينيه مرة ويصافحك بهدوء ويقدم لك الامتنان، هذه قدرة الفيلم الذي احتفى به العديد من المهرجانات السينمائية.
قصص مشابهة في السينما
وتذكرنا القصة الرائعة «تكلم معها» بواحدة من أهم مآثر السينما التي قدمها لنا فرانسوا تروفاوت «الغرفة الخضراء» - 1978 مستندا إلى رواية هنري جيمس «مذبح الموتى» حيث بطل الرواية والفيلم جوليان يبني أضرحة لكل أحبائه ويملأها بالصور والمقتنيات الشخصية ويصرف كل وقته هناك بالقرب من حاجياتهم، شبيهة مأساتنا بميتي عندما يقع في حب سيسيليا ويعرض عليها أثمن هدية في الحب: أن يموت معها!أن بينغنو في قصتنا الراهنة يشبه ميتي حيث يكرس 24 ساعة من يومه لخدمتها كحافز ماركو الأكثر تعقيدا، والمريع في هذه القصة أن الرجلين يبدوان سعيدين لمنح كل حياتهما لنساء لا يعرفن من أمر هذه التضحية شيء. هو نكران ذات صاف لا ينطلق من قلوب عادية، هو حب مخيف الرحمة وحتى تلميحاته الجنسية كانت إنسانية ولم تشكل أي معضلة أخلاقية، فالولاء للحب كان مطلقا وكانت الطاقة لدى ماركو وأوضح منها لدى بينغنو مدفوعة بشيء عظيم هو الأمل.


الجرأة
ويبدو أن النساء يلهمن آلمودوفار في كتابة الكوميديا حينما يمنحهن البطولة الكاملة، بينما الرجال يمنحونه الحس المأساوي المركز الذي ظهر عليه «تكلم معها». الأمر نفسه يتشدد فيه حينما يكون رواة أفلامه من الذكور. وحسب معايير بيدرو آلمودوفار لم يكن الفيلم القصير بالأسود والأبيض الذي كان يسير موازيا للشريط الأصلي فيه أي جرأة ولعله تقليدي، لكن في المعايير العامة كان هذا الفيلم الصامت القصير لرجل قصير يحب امرأة عملاقة (في حقيقة الأمر الحبيب يتقلص أمام حبيبته) التزاما كليا بأسلوب المخرج الإسباني المدهش الذي دمج شريطين بميلودراما استدعاها لتأدية مهمة السخرية المطلقة غير المحتملة، إنه استدعاء معقد ونفذ حسب مادة صعبة جدا مكتوبة على الورق وتطلبت مجموعة من الثواني عملا عالي التقنية من مجموعة متكاملة من المتخصصين الذين يظهرون هذه الخدعة السريالية، لينجحوا في ابتكار أسلوب سينمائي دعم الشريط وخدم غرضه الذكي بطريقة مهذبة للغاية. (لا ننسى ولع بيدرو الطفل بمشاهدة الأفلام الصامتة).
ALMODOVAR

هذا الكئيب
إن مخرجنا الإسباني أسود وكئيب وضرباته موجعة وشاطر ويقدم عملا بلا مؤثرات السينما المعاصرة وصخبها، وبهدوء يعالج أعقد العلاقات الإنسانية: الصداقة، الوحدة، أهمية الاتصال في العلاقات والحب. كلها تبدو مواضيع شخصية وخالية من المرح الذي تهواه السينما التجارية. ينجح مجددا بعد أن أبهر محبي السينما في شريطه «كل شيء عن أمي» مركزا على ولعه الخاص بالنساء، من وجهة نظر الرجل الذي ينصهر في الأنثى. وسنحاول أن نفهم لماذا لم يخصص آلمودوفار وقت الشريط عند سرير ليديا كما فعل مع سرير أسيليا، عدا اللقطات التي يظهر فيها ماركو في المستشفى وتأمله الرومانسي في وجه المرأة التي أحبها وفقدها إلى الأبد، والغريب أن ماركو يجد راحة في التكلم مع بينغنو من التحدث مع ليديا. التفسير المتاح لهذه الملاحظة التي تعمدها مدير العمل، أنه قدم رجلا أقل شذوذا من رجاله في أفلامه السابقة، مركزا على التشابه في العلاقة بين: الرجل - المرأة والرجل - الرجل وبين حالة الاستيقاظ التي تربط العلاقة الأخيرة والغيبوبة التي تورطت فيها الأولى.
ALMODOVAR - TALK TO HER

تشكل أسلوب آلمودوفار
لقد تشكل أسلوب آلمودوفار السينمائي بعد صراع البحث عن الهوية الخاصة للسينما الإسبانية بعد رحيل فرانكو في السبعينات وخروج الأفكار العظيمة من تحت الأرض ولاسيما الميلودراما المتمتعة بالحماس الثوري التي طغت على أعمال تود هاونس وفرانسوا أوزون وخاصة في أفلام «بعيدا عن السماء» و«8 نساء». غير أن آلمودوفار الذي عمل في بداية حياته مع المخرجين المذكورين تخطى فكرة الميلودراما المعتدلة واللامعة والواضحة وخلق موانعه وألصق شخوصه جيدا في بيئتهم الميلودرامية.وهو يشبه إلى حد كبير المخرج الإسباني العبقري لويس بويول في خلق الأفلام غير المألوفة بهدف سريالي استفزازي صادم للجمهور وهو امتداد للمواضيع التي برع في اختيارها مخرجون كبار مثل دوغلاس سرك وفاسبيندر، موظفا مثلهم، الموانع والمحظورات في السينما الأوربية عموما (عدا الإيطالية) كما جسدها في أفلامه الأولى: «كعوب حذاء عالية»، «نساء على الحافة»، «انهيار عصبي» والشريط المتفوق جدا «اللحم الحي» والتصق بها في «كل شيء عن أمي» الذي ظفر بالأوسكار بالطريقة نفسها قدمها في «تكلم معها» ماشيا صوب الأرواح التائهة والغافلة وبمزاج الهوس المقدس للحب الثابت والألم والوحدة حينما يتحولان إلى علاقة وإن كان مفرطا في التجسيد، لكنه مبدعا، وبذلك كان بالنسبة للسينما العالمية مفاجأة من العيار الرائع بنظرته الروحية الفردية وقوة إيمانه بأفكاره وقابليته على ترك الأمور تتحرك منذ البداية لينهي عندها فكرته!
كما أن أفلامه تتحرك بسهولة بين الماضي والحاضر وسلسلة الخيالات العرضية والأحلام القافزة وتشوش الأفكار وهذه أمور في غاية الصعوبة تطورها في شريط سينمائي، لكنها تخرج من آلمودوفار كما لو كان ينبغي أن تكون بهذا الشكل فقط، هنا الحس الراقي الذي يكافح من أجل تصويره ولم يخب أمله على الإطلاق ولا في ميليمتر واحد في الشريط. وكم تمنينا من أفلام ألا تنتهي، وكم شعرنا بالأسى من انتهاء أفلام رائعة كثيرة للغاية، إن هذا الاعتقاد هو الوحيد الذي يلازم أي شخص يشاهد أفلام هذا الإسباني الموهوب الذي يقودنا من المرح إلى الشهوانية إلى الحزن المرير محتفظا بأقصى احترام للجمهور نظرا إلى سلاسة انزلاق شريطه في هذه الموضوعات.

إلى النهاية
ستقترب الدقائق العشرون الأخيرة التي أمضى مؤلف ومخرج الفيلم في الإعداد لها ثلاث سنوات، ليجد المشاهد نفسه في حالة من عواطف الحزن المتناقضة ويكتنفه إيمان سام وأمل متجدد وأذى مصفف بعناية ويطلب أي من شاهد هذه الرائعة أن يكلل صبره بمكافأة في النهاية، لكن ما الذي سيفعله آلمودوفار؟ سيصدم مشاهده بلا رحمة وسيعصره بلا مودة متآمرا مع موسيقار الفيلم ألبيرتو ايغليسيس وكأنهما دردشا كثيرا في كيفية تحطيم الجمهور وانتزاعه من كرسيه وإلقائه بالصوت والصورة في صندوق العجائب الباهر لنتكلم مع كل الذين نحبهم ولا يسمعوننا مرددين عبارة بينغنو المسكين الذي أنهى حياته بابتلاع الأقراص في السجن: تكلم معها.. تكلم.. ربما لا تسمعك، لكني اعتقد أنها تحاول ذلك!

Goya's Ghosts

انهيال آلام التاريخ في الراهن

نحن في إسبانيا 1792 لنتابع ميلودراما يقدمها المخرج التشيكي المميز الذي هاجر إلى الولايات المتحدة في فيضان موهبته، المجنون الذي بدأ مهنته بالدراسات الرفيعة في ديناميكا الموجة الجديدة للسينما وتفوق في دراسته عام 1965 ميلوس فورمان صاحب الإنجازين السينمائيين الفذين 'أمادويس' و'الطيران فوق عش الوقواق'، الشريطين اللذين منحاه ثماني جوائز أوسكار والذي لم يخرج أي فيلم منذ 'الدوران حول القمر' عام 1999 وبانت السنوات الثماني التي قضاها بلا عمل على شريطه الجديد بسبب ذبوله المحتمل.في المشاهدة الأولى للفيلم ينبثق انطباع بأن في الشريط البالغ طوله ساعة و 54 دقيقة، الكثير من السياسة والفلسفة الدينية والتبختر في صالات اللوحات الخالدة تدار بأسلوب المسلسلات التلفزيونية المسرفة الإطالة تنقل صور الفوضى الأخلاقية واليومية لإسبانيا الرازحة تحت حكم ملكي فاسد وتجبر الكنيسة اللذين كانا يعممان الظلم. وينشغل فورمان كثيرا ليعطي مساحة واضحة لآلام القرن الثامن عشر محاولا الانفلات منها لعكسها على عصرنا بطريقة انهيال التاريخ في الراهن ساعدته مخطوطة كتبها جين كلود كارير بتعاون ثان مع لوريس ويل بو ومشاركته المباشرة في كتابة السيناريو.لكن الانطباع الأول سيزول ليحصد الفيلم على أقل تقدير وصفا جميلا جدا منذ افتتاحه بتصفح لوحات غويا واستقصاء جناح لوحاته، وهناك تصرف مقبول بالسيرة الخاصة لغويا من قبل المؤلف ولا يلاحظ عبثا كبيرا في تاريخ هذا الرجل ولا بتلك الأحداث التي جرت في عصره.


تحفة سينمائية محيرة تتطلب مشاهدا حَـسِـن الثقافة وحزين وممتلئ الإحساس بالمعرفة

حزمة مواهب كبيرة
تبرز موهبة خافيار بارديم (رشح للأوسكار كأفضل دور رئيسي) بالتلاعب والتناغم الرائع لأداء الصوت وإلقاء مدعم بتمثيل على نمط المسرح البريطاني وكنا نحسب أن لورنس أوليفيه حاضرا في 'هنري الخامس'، لكن على الرغم من محاولاته ظهر مثل شكسبيري مزيف ولكنه ذكرنا ببيتر أوتول في 'الأسد في الشتاء' وريتشارد بيرتن في 'مرة من الأيام الألف'، محاولا استرداد الوزن الثقافي الكبير للأزمنة الخوالي لبيرتون وأتول وآخرهم ميريل ستريب الذين خلقوا الجمهور المثقف، مقدما دور الأخ لورينسو الكاهن الداعر، بينما جسد شخصية الفنان الإسباني فرانسيسكو خوزيه دي غويا 1746 ـ 1828 (ستيلان سكارسكارد) ككاثوليكي مستقيم ينكر إيمانه الصارم أحيانا لاسيما حينما يتم اتهام بنت صغيرة بأنها يهودية لكونها لم تتناول صحن لحم خنزير فظيع المظهر في حانة. وتكاد ناتاليا بورتمان تثبت في كل مشهد أنها ممثلة مسرحية من طراز خاص مقدمة دور إنيس بلباتو ابنة تاجر محلي ثري يستخدمها غويا كموديل للملائكة الذين كان يرسمهم على جدران الكنائس.سكارسكارد سيحتفظ بابتسامته قدر ما يستطيع وأسلوبه في التمثيل فيه ثقة فنان كبير قادر على خرق القواعد وبلا مبالغة كان حريصا على أن تخرج الأحداث ابتداء منه وهو لم يكن شريرا في عالم شرير بما يكفي حوله، لذلك لم يعترض على بعض الدناءة العرضية التي لم يجهد في إقناع نفسه على رؤيتها أو التعايش معها.

الشبح الأكبر في الفيلم كان غويا نفسه

الروعة البذيئة
يبدأ الفيلم بعرض رسومات غويا وبعدها مباشرة كان كبار الكنيسة الإسبانية يدينون تخطيطات غويا التي صورت تعذيب المنشقين والزنادقة وحديث حول حث الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بتحصين نفسها وتنشيط عمليات الإقصاء لتنقية الأرض منهم.يلي ذلك مشهد رمي جثة حيوان في واحد من بساتين الملك البليد كارلوس الرابع لكي تتجمع عليها الطيور ويصطادها بشبق لكون الملكة ماريا لويزا فضلت العقبان لعشائها وهو إيحاء مبكر من فورمان وموفق إلى حد بعيد لتهيئة المشاهد للدنيا الفاجرة التي سيقدمها فيما بعد والروعة البذيئة لبيوت الملوك، فيما شوارع المملكة تعج بالحياة الساقطة وسط الموت الرخيص.
الحياة على طبق خنزير
لم تفعل إنيس شيئا سوى أنها عبرت عن اشمئزازها من طبق الخنزير، ولأنها لم تجده شهيا، فضلت حساء الدجاج عليه وبعض البطاطا، لكن عينا كانت تراقبها كتبت تقريرا إلى الكنيسة لتتهمها في اليوم التالي أنها تخفي سرا معتقدها اليهودي لتبدأ بعد ذلك سلسلة رهيبة من عمليات التعذيب التي عرفت بها أقبية الأديرة في القرن الثامن عشر.ستعلق إينيس عقوبة على شهيتها المفقودة وستسحل عارية وسيغتصبها الكاهن لورينسو وتجبر على توقيع اعتراف بأن جدها قدم إلى إسبانيا عام 1620 من أمستردام وأخفى أصلهم اليهودي بعد اعتناقه الكاثوليكية.في هذه الأوقات كان غويا يطلي الكنائس بوجوه الملائكة وفي الوقت نفسه يقدم نفسه على أنه 'الرسام الملكي' على الرغم من أن الملكة ماريا لويزا (بلانكا بورتيللو) المعروفة بعدم جاذبيتها لم تمتدح اللوحة التي رسمها لها وهي على حصانها لأنه أظهر عمرها الحقيقي بملامح وجهها الأصلي.
Goya's Ghosts-Time to say goodbye

فلسفة التعذيب
والد إنيسا (خوزيه لويس غوميز) سيكون في عصر اليوم ذاته عند غويا لأنه يعرف بأنه يرسم لوحة للأب لورينسو الذي كان يشرف على تعذيبها وفي هذه اللحظة كان يغتصب ابنته في السجن.لم يطلب والدها من غويا سوى رؤية هذا الرجل، مشيرا إلى البورتريه الذي أكمله وبعد توسل قبل غويا ترتيب لقاء عشاء في بيت التاجر الثري.هنا بدأت محاورة عميقة جدا بين خوزيه غوميس وخافيار بارديم الداخل تماما في شخصية الأخ لورينسو والمصر على أن الله سيعطي القوة لقول الحق فقط، لكن التاجر يعتقد أن التعذيب سيجعل المرء يقر بأمور غير موجودة وبأي شيء إذا أجبره العذاب على ذلك. ولكي يثبت نظريته أمر أبناءه بتعليق لورينسو في الثريا المتوسطة صالة الطعام وأجبره على توقيع ورقة يقر فيها أنه قرد!سيتركه والد إنيسا ويعده بحرق الورقة ما ان يرى ابنته في البيت، لكن لورينسو لا يستطيع إطلاق سراحها ففي هذه الأثناء حملت منه في سجن الكنيسة وهو الكاهن الكاثوليكي المعروف، لذلك قرر الهرب إلى فرنسا ليلتحق بالثورة هناك وقبلها سيزورها للمرة الأخيرة في السجن ليغتصبها من جديد بالعبارة المشفرة التي أصبحت تعرفها: 'لنصل معا'!يداهم حرس الكنيسة مرسم غويا ويسحبون بورتريه لورينسو ويحرقونه وسط الساحة بموسيقى صفير الحضور واستهجانهم من الهارب وخائن الكنيسة وفي غضون سماعه للصفير سيفقد أهم رسامي عصره فرانسيسكو غويا السمع.

Goya's Ghosts

بعد 15 سنة
ستدخل جيوش نابليون وتحرر إنيسا وغيرها من سجون الكنيسة في مشاهد فيها تأثير فيكتور هيغو والكسندر دوماس لتزور بيتها القديم. ستراه وقد نهبه العامة وقتلوا والديها وأخوتها ولم تجد غير باب غويا لتطرقه فيضع في يدها قطعة معدنية متصورا أنها شحاذة، لكنها تومئ إليه بلوحتها التي رسمها لها قبل 16 سنة، فيدعوها للدخول ويعد لها شيئا تأكله ويعطيها قلما وورقة لتسرد له كتابة ما حصل لها ولم تذكر سوى أنها تبحث عن ابنتها التي أخذوها منها في السجن ما إن بدأت تشم حليبها.وفي هذه اللحظات سيترأس لورينسو العائد إلى إسبانيا مع القوات الفرنسية محكمة تصدر حكم الإعدام بالأب جريجوريو وكل زملائه السابقين في الكنيسة. لكنه سيؤجل تنفيذ الحكم بعد أن زارته إنيسا بصحبة غويا لتخبره بأن لهم ابنة سيلقى بها مجددا في مستشفى المجانين. ويزور الأب جريجوريو في السجن ليعلم بحقيقة ابنته التي هربت بعمر 11 سنة من أحد الأديرة واكتشفها غويا بعد أيام في منتزه مدريد الرئيسي الذي تتجول فيه داعرات المدينة.لم يترك غويا ملاكه إنيسا، زارها في المستشفى واشتراها من مديرها الجشع، وأخبرها أنه عثر على ابنتها، لكن لورينسو سبقه إليها وأودعها مع فتيات أخريات في عربات التهجير إلى أميركا. سيعترض غويا على إجراء لورينسو وكيفية سوق الإسبانيات كعبيد للأميركان، لكن القافلة ستقع في الطريق بيد القوات البريطانية التي كانت تزحف إلى مدريد لتشاهد البنت إليسا التي فقدت ابنتها هي الأخرى في عملية الاعتقال من فوق شرفة مع ضابط بريطاني تشاهد إعدام أبيها الذي لا تعرفه، لكن إنيسا ستأخذ الرضيعة من تحت طاولة الحانة لتهتف بلورينسو أن يرى ابنتهما، يحدق بها قبل شنقه ويبتسم لها.

أهداف فورمان ـ كارير
ساعد التصميم الصحيح لليزلي تشاتز على إظهار الفيلم بالعمق المطلوب، وتابع مهندس الصوت عمله بالدقة نفسها، فكانت أبواب الكنيسة تفتح وتغلق على الطرق الواسعة وأصوات الأجراس البعيدة وصوت الأكتاف وحفيف الأقدام وشغل خافيار أغيرساربو في إدارة التصوير حسن جدا وخاصة تركيبه الألوان والتظليل ومراقبة تمثيل العيون والصور المقربة التي كانت تطمس صعوبات الديكور.أما السيناريو فثمة شك في أن فورمان والكاتب الأسطوري للسيناريو جين كلود كارير افتقرا إلى رواية القصة على الشاشة، فثمة وهن في بعض المشاهد وخاصة استدعاء لورينسو لابنته إلى عربته كمومس ومفاتحتها مباشرة في الشارع العام بأمر تهجيرها إلى أمريكا وإفلاتها منه بكل بساطة بعد أن تدارك فضيحة مع مومس في شارع عام وهي لا تعرف بأن الشخص الذي هربت منه يكون والدها. ولكن فورمان وكارير ظفرا بهدفيهما حينما تحركت الكاميرا في مشاهد كثيرة أخرى كانوا واثقين فيه بالتوازن بين الحاجة للتوثيق واعتبار غويا شاهدا على التاريخ والالتزام بالحس الدرامي ـ الفني.غير أن النقد المتبصر لا تفلت منه عملية النفخ الميلودرامي بحوادث مبنية على الصدف التي تلد صدفها. ويحدث تعاقب الأحداث الهرمي على المصادفات الكثيرة وحدها، أما الخيوط الأخرى التي كانت مهمتها تشبيكها، فقد ظلت عالقة في شريط مليء بالميلودراما وأناس يعيشون حياتهم ضد خلفية التاريخ والرياح والمصير.



إرغام السيناريو
ولم يعان أيا من كاتبي السيناريو على الأرجح أن تكون القصة عن غويا لاستكشاف حياة الفنان أو أن يضعوه مراقبا تاريخيا لما حصل في زمانه، وفضلا الخيار الثاني رغم أنهم وضعوا اسم غويا في عنوان الفيلم، ولا نرى بأن الأمر أضر بغويا أو الفيلم.كما أنهما حشرا الكثير من المواضيع البالغة التعقيد فلسفيا وتاريخيا في شريط واحد ربما لا يتحمل محاكمة: الكاثوليكية، تاريخ إسبانيا، لوحات غويا، تاريخ الكنيسة والحروب الكثيرة والغزوات التي حدثت في نهاية القرن الثامن عشر. فهناك دائما المحور القصصي الذي يلتصق بالشريط، لكن هذا اللاصق غاب بشكل مؤلم في 'أشباح غويا'.إن إرغام السيناريو على حشد كل هذه الموضوعات الكبرى في فيلم واحد كتحفة محيرة تتطلب المشاكل الفلسفية التي طرحها الاستعانة بأفلاطون ومن الجانب الآخر وجود مرغم آخر وهو مشاهد حسن الثقافة، حزين وممتلئ الإحساس بالمعرفة وهو مشاهد نادر في عالمنا.هذا الأمر ليس بالشيء السيىء، لكنه سيف ذو حدين، ولأجل ذلك صرف ميلوس فورمان بمساعدة منتج متعاون فائز بالأوسكار منذ مدة طويلة (ساول زانيتز) أشرف على التصوير من 5 سبتمبر حتى السابع من ديسمبر 2005 في المدن الإسبانية: مدريد، سالامنكا، تيليدو وغونيسا، مبددا الكثير من الأموال ليعيد إنشاء إسبانيا نهاية القرن الثامن عشر مستخدما المجاميع البشرية الهائلة.من ناحية أخرى ليس ل 'أشباح غويا' غرض واضح ولا رسالة بعينها ولا شخصية مركزية يعول عليها لحمل الشريط (تقريبا لم تتعلق القصة بغويا شخصيا وبدا الشبح الأكبر في الفيلم هو غويا نفسه) واعتمد على عنف الماضي والغزو النابليوني المشؤوم لإسبانيا عام 1807 عندما اعتقد الفرنسيون بأن الزهور ستلقى أمامهم في الطرقات بعد عتقهم من الحكم الملكي الفاسد والكنيسة المستبدة.وعلى الرغم من أن الفيلم كله يدور في إسبانيا وعنها، إلا أننا نشاهد ممثلا إسبانيا واحدا فحسب، والذين لعبوا الأدوار الرئيسية: أميركي وإنكليزي وسويدي. وهذه واحدة من المشاكل التي يعانيها الوضع السينمائي في العالم، فالكلام بالإنكليزية (وإن كان مزيجا عشوائيا لمختلف اللهجات) يضمن للمنتجين بيعه في أي مكان، لكون الإنكليزية أصبحت لغة الأعمال والجريمة والجنس والحروب.

Francisco Goya \1746-1828

الأسئلة الراهنة
يطرح الفيلم بعض الأسئلة الجانبية، ولعلها كذلك إن لم تكن الرئيسية: هل كان فورمان يلمح بالشجب لأعمال الغرب الذي رفع لواء الحرب على الإرهاب بتذكيرهم بالإرهاب والاضطهاد الديني الذي كانت الكنيسة تمارسه ضد الأناس الذين اعترضوا عجلتها الوحشية؟ إن المحاضرة التي ألقاها لورينسو بعد دخول جيوش نابليون إلى مدريد تظهر كخطاب سياسي ألقاه جورج بوش بعد دخول القوات الأميركية إلى بغداد وهو تدخل مبهم أولجه فورمان بشكل تقريري.


الخاتمة
ستبقى خاتمة هذا الفيلم واحدة من أروع صور السينما ولوحة باهرة اجتمع فيها كل عمق هذا الفن والموهبة العظيمة لفورمان.لم يعتذر لورينسو للكنيسة وفضل الموت على ذلك، لكن ابتسامته على منصة الإعدام لمصدر صوت إنيسا كانت بمنزلة إعلان توبة أمام قلبه والفظائع التي اقترفها بحقها.وإنيسا الوحيدة التي رافقت جثته التي سحبتها عربة بحمارين وكان رأس لورينسو يتدلى من العربة ليبصر في لحظاته الأخيرة مدريد بالمقلوب مع موسيقى مشكلة من غناء أطفال على الرغم من كل ما فعله معها وغويا خلفهما. وكأن المعادلة الرهيبة العمق تسير وفق الهارمونيا التالية : تسير نحو وفائها ممثلة الحياة ويلحقها غويا متشبثا بالحياة برمزها الأثيري والاثنان يمشيان في جنازة الحياة نفسها، برذائلها وقسوتها ووحشيتها وندوبها ووفاء الملائكة الذين انصهروا جميعا في اللوحة الفائقة الجمال التي التقطها غويا لأشباحه.

Love in the Time of Cholera


( 1 ) الرواية


نجاح لا يجارى حققته رواية الكولومبي الفذ غابرييل غارسيا ماركيز 'الحب في زمن الكوليرا' الصادرة باللغة الإسبانية عام 1986 في كل أنحاء العالم وبعد أكثر من عشرين سنة وبلوغ الكاتب الأمهر 80 عاما يخرج مايكل نيويل الرواية إلى السينما المعروف بأعماله الأخيرة 'أربع حفلات زفاف وجنازة'، هاري بوتر وقدح النار، مقدما قصة حب استمرت أكثر من 50 سنة تبدأ في قرية كولومبية صغيرة وتمر بباريس ولأنها كما روايات ماركيز الأخرى تحفل بالجنس، فالرقابة صنفت الفيلم لجمهور تعدى سن الرشد. يقوم ببطولة الفيلم خافيار بارديم وجيفانا ميزغيرونو.معضلة قارئ الرواية الذي سيكون شغوفا بها بلا شك، سيحملها في شرايينه، وسيضطر للمقارنة في كل ثانية، فالرواية معشبة وشائكة الأدغال ومليئة بالرمزية الذي ابتدعه الشكل الأدبي الفائق الأهمية المعروف بالواقعية السحرية.

Gabriel García Márquez
لكن الذي يعني المخرج والممثلان الرئيسيان وكل من ارتضى الارتباط بالنسخة السينمائية لماركيز هو التحدي الكبير الذي جلبه لهم حبهم للرواية نفسها. القضية في منتهى الصعوبة، فإذا كانت الترجمة من لغة إلى أخرى تتطلب معجزة وعبقرية لإتقانها، فكيف الانتقال من فن لآخر لاسيما في حكايات ملحمية يكتبها ماركيز. ولا نخفي أيضا جسارة المهمة لمن يتجرأ ويكتب عن الرواية والفيلم لينتج عملا مفيدا آخر يحمل عظمتها وبهجة الحياة مرورا بنهاية الحياة التي علمنا إياها المعلم الفائق الموهبة غابريل غارسيا ماركيز الذي استدرجنا من جديد لواحدة من الروايات التي لا يمكن مفارقتها أبدا ولابد من تقديم عرض موجز لهذه الحكاية الأثيرة التي بدأت أحداثها في وقت متأخر من عام 1879 حيث التقى مريض بالحب ربته المتوجة لغاية ثلاثينات القرن العشرين حينما ركبا الموجة المتهادية قدما نحو الحياة الأبدية.

El amor en los tiempos del colera


رمل القلب
نبدأ بحادثة الانتحار التي عرفنا من خلالها ماركيز على الدكتور خوفينال أوربينو (بنجامين برات ) قائلا لشاب يدرس التشريح في مستوصف المدينة: 'لن تعدم هنا وجود مجنون في الحب يمنحك الفرصة في يوم من هذه الأيام'، فأولئك الذين يموتون حبا يوجد رمل في قلوبهم عادة! سيقول له الشاب: 'من المؤسف أننا ما زلنا نلتقي بمنتحر دافعه للانتحار ليس الحب'. وهنا تستمر التهيئة لعرض قضية كبيرة يتساءل عندها الكاتب: 'غير انه لم يفهم كيف أن كائنين راشدين وحرين وبلا ماض، على هامش اهتمامات مجتمع غارق في شؤونه، قد اختارا نكبة الحب المحرم'، ويقود هذا التساؤل لحالة موت أخرى لصديق الطبيب الذي كانت زوجته قد 'ساعدته على تجاوز الاحتضار، بالحب نفسه الذي ساعدته على اكتشاف السعادة'، أما المتوفى جيرميا دي سانت آمور فقد كان يحب الحياة بعاطفة مبهمة، كان يحب البحر والحب، يحب كلبه ويحبها، وكلما اقترب اليوم الموعود كان يهوي أكثر فأكثر إلى اليأس لأنه كان يتنهد حيث كانا يرقدان بعد الحب: 'لن أصير كهلا أبدا' وقد فهمت على أنه نية بطولية للنضال دون هوادة ضد نكبات الزمن. وهكذا عندما أزف القدر الحتمي قالت: 'عندما تركته وحيدا في الليل، لم يكن من أهل الدنيا'. وطيف كلماته الأخيرة: 'تذكريني بوردة'. وبعد أن ارتدت ملابس الحداد قطفت من الفناء أول وردة من وردات الفجر. تبتعد الرواية بتعمد عن الشخوص الذين سيظهرون بقوة فيما بعد، فقد كانت ملامسة جانبية، أراد فيها ماركيز تصفية حساب أولي خاص جدا بأكثر عناصر الرواية: الحب الأبدي، الشيخوخة، الخلود، مدى الحياة، الوفاء، الصبر على الحب وغيرها حتى يتلو القضية الرئيسية.


فيرمينا المسكينة
فيرمينا داثا ( جسدتها بعذوبة جيفانا ميزغيرونو ) لها اثنتان وسبعون سنة وكانت، حسب وصف ماركيز، قد فقدت مشيتها الغزلانية لكنها تعيش وسط حيوانات مختلفة وكل الأزهار المتاحة واحتفلا منذ وقت قريب مع خوفينال أربينو باليوبيل الذهبي لزواجهما وليس بإمكان احدهما العيش لحظة واحدة دون الآخر أو دون التفكير به مع إنهما يعيان ذلك أقل فأقل كلما استفحلت الشيخوخة ولم يكن بمقدور أي منهما القول إن كانت تلك العبودية المتبادلة ترتكز على الحب أم على الراحة وبدأت تكتشف شيئا فشيئا تعثر خطى زوجها واضطراب مزاجه وتصدع ذاكرته والبكاء وهو نائم ورأت في ذلك عودة سعيدة إلى الطفولة ولذا لم تعامله على أنه شيخ صعب، وإنما كطفل هرم، ولقد كانت تلك الخدعة إلهاما لكليهما لأنها وضعتهما بمنأى عن الشفقة. ولقد علمتهما الحياة أن تصريف كوارث الزواج العظيمة أسهل من تصريف المناكفات اليومية الصغيرة وإذا كانا تعلما شيئا ما معا، فهو 'أن الحكمة تأتينا في الوقت الذي لا تعود به ذات نفع'، فحتى الشجار في الزواج يبعث في كلا الزوجين رغبة الإذعان والبدء في حياة أخرى أما الجراح قليلة الالتئام سرعان ما تعاود النزيف وكأنها جراح الأمس.سيسقط أربينو من على الشجرة في محاولة مميتة للقبض على الببغاء المشاكس وسيلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديها بعد أن تمكن من التعرف عليها وسط الحشد ومن خلال دموع الألم التي لا تتكرر لموته من دونها، وتطلع إليها لآخر مرة وإلى الأبد بعينين أشد بريقا وأكثر حزنا وأعظم امتنانا مما رأته طوال نصف قرن من الحياة المشتركة واستطاع أن يقول لها مع النفس الأخير: 'الله وحده يعلم كم أحببتك'.
Javier Bardem

فلورينتينو الباهر
سيظهر فلورينتينو اريثا ( صوره بكل عمق خافيار بارديم ) بين جموع الوجهاء والأعيان في جنازة الدكتور خوفينال أوربينو ولم تميزه فيرمينا داثا وسط صخب التعزيات الأولى وكانت مساعداته الكثيرة لا تقدر بثمن في ساعة الشؤم التي يمر بها البيت، ولكن كان ثمة أمران يثيران الشكوك في 'عازب متماد في عزوبيته'، لقد انفق مالا كثيرا وحيلا واسعة وتصميما شديدا كي لا تظهر آثار السنوات الست والسبعين التي أتمها وكان مقتنعا في عزلة روحه بأنه أحب بصمت أكثر بكثير من أي كان في العالم.وعندما رأته فيرمينا داثا في آخر أيام عزاء زوجها، كانت المرة الأولى التي تراه فيها بوعي طهره النسيان، ولكن قبل أن تتمكن من شكره لهذه الزيارة، وضع قبعته فوق موضوع القلب وشق الدمل الذي كان قوام حياته بان قال لها بصوت مرتعش ووقور: 'فرمينا.. لقد انتظرت هذه الفرصة لأكثر من نصف قرن، لأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبدي وحبي الدائم'.لم يكن لامرأة تحافظ على حرمة بيتها التي انتهكتها عبارات حبيب طفولة وجثة زوجها ما زالت ساخنة في القبر إلا أن تجيب بلا غضب: 'انصرف.. ولا تدعني أراك ثانية في السنوات المتبقية لك في الحياة.. وأرجو ان تكون سنوات قليلة'. وهي الآن قد بلغت الثانية والسبعين، لم تكن تعي تماما حتى هذا اليوم، وزن وحجم المأساة التي أثارتها وهي في الثامنة عشرة من عمرها حيث ستلاحقها حتى موتها وحينما بكت لأول مرة على الفراش دون زوجها هزها خاطر مبهم: 'على الناس الذين يحبهم المرء أن يموتوا مع كل أشيائهم' ونامت على أن يحقق الله لها أمل الموت، لكنها كانت تفكر وهي منتحبة في الحلم، بفلورينتينو اريثا أكثر من زوجها الميت.


كارثة الحب
لقد مضى على رفضها له إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر وأربعة أيام ومن جانبه لم يمر يوم إلا ويحدث شيء يذكره بها وكان قد رآها لأول مرة في عصر يوم كلفه فيه لوتاريو توغوت بإيصال برقية إلى شخص بلا عنوان واضح اسمه لورينثو داثا كان قد وصل حديثا إلى المدينة ولم تكن له فيها صداقات كثيرة. وما ان سلمه البرقية وخلال خروجه لمح صبية تتعلم على البيانو وما أن رفعت نظرها لترى من الذي مر عبر النافذة، كانت هذه النظرة العابرة أصل كارثة حب لم تنته بعد مرور نصف قرن. وبدأ الأمر بتعقب مرورها ذهابا وإيابا إلى المدرسة أربع مرات في الأسبوع ومرة واحدة أيام الآحاد عند الخروج من القداس الكبير وكانت رؤية الصبية تكفيه، وشيئا فشيئا بدأت الرسائل التي كان يخطها بحرفية متحولة إلى معجم للغزل المتأثر بالكتب التي حفظها غيبا لكثرة جلوسه في الحديقة وهو ينتظرها. ولكن فيرمينا داثا كانت بمنجى حتى من مجرد الفضول بشأن الحب، الشيء الوحيد الذي أثاره فيها فلورينتينو اريثا هو قليل من الأسى، إذ بدا لها عليلا، غير إن عمتها قالت لها أنه 'لابد من العيش طويلا لمعرفة الطبيعة الحقيقية للرجل'، وكانت مقتنعة أن ذلك الذي يجلس في الحديقة ليراهما تمران، لا يمكن إلا أن يكون مريضا بداء الحب. وكان ظهور اريثا بالنسبة لهما تسلية جديدة وكانتا تسرعان للبحث بنظرة فورية عن ذلك الحارس الضامر، الخجول، ضئيل الشأن الذي يرتدي بشكل دائم ملابس سوداء رغم الحر ويتظاهر بالقراءة تحت الأشجار. واحتياطا لأي نوع من المصائب علمتها عمتها التواصل بحروف يدوية أو الإشارات التي كانت الوسيلة الوحيدة الضرورية للغراميات المحرمة.


LOVE IN THE TIME OF CHOLERA

رسائل حب
لكن التسلية تحولت إلى قلق للإسراع برؤيته وصارت تدعو أن يمنحه الله الشجاعة كي يسلمها الرسالة لتعرف فقط ما الذي سيقوله فيها. وبعد أوقات مريرة انتصب مرة أمامها وشعر بشهقتها وبتنفسها الوردي الذي سيميزها فيه طوال حياته المتبقية متحدثا إليها برأس مرفوع وبتصميم لن يصل إليه ثانية إلا بعد نصف قرن، وللسبب نفسه قال لها: 'الشيء الوحيد الذي أطلبه منك هو أن تتقبلي رسالة مني'. أخبرته بأنها لن تتقبل الرسائل إلا بعد حصولها على إذن من والدها وكان قرارها الثاني قد فتح له الباب الذي يتسع للعالم بأسره حينما قالت:'عد مساء كل يوم وانتظر إلى أن أبدل مقعدي'. كان قد كتب لها سبعين صفحة، لكن حينما أزفت لحظة تقبلها الرسالة سلمها نصف ورقة فحسب انتزعتها منه وقالت:'اذهب الآن ولا ترجع إلى أن أخبرك'. وفي فترة انتظار الرد صار نبضه ضعيفا وتنفسه رمليا وعرقه شاحبا وتأكد أن 'أعراض الحب هي أعراض الكوليرا نفسها' ولم يداوم على وصفات الطبيب وعمل عكسها تماما لأنه كان في جوهر الأمر مستمتعا بعذابه وهو الذي حددته أمه: 'انتهز الفرصة لتتألم بقدر ما تستطيع الآن وانت شاب، لأن هذه الأمور لا تدوم طول الحياة'. هكذا أثرت تشوشات الحب على حياته العملية ودائما يرى غائب الوعي فوق ملطم الأمواج حيث يتعزى العشاق الذين لا سقف لديهم بممارسة الحب وفي غيبوبته وأخيرا وجدته العمة فأنبته على سلبيته في انتظار الرد على الرسالة وذكرته بأنه لا يمكن للضعفاء دخول مملكة الحب، لأنها مملكة صارمة وقاسية وإن النساء لا يستسلمن إلا للرجال المصممين لأنهم يبعثون فيهن الطمأنينة التي يتعطشن إليها لمواجهة الحياة. استوعب الدرس وطبقه أولا على العمة التي لقنتها إياه حينما داهمهن في الحديقة وطلب منها تركهما، وفي هذه الفترة كانت الصبية جمعت عنه معلومات كافية وعرفت ان له مستقبلا واعدا وفي أيام الآحاد حينما كان يعزف، أحست ان الكمان يعزف لها وحدها، ومع ذلك لم يكن نموذجا للرجل الذي ستختاره، لكن أساليبه الغامضة أثارت فيها فضولا من الصعب مقاومته، لكنها لم تتصور أبدا أن يكون الفضول هو احد مصائد الحب الكثيرة.

لا شيء أكثر صعوبة من تحويل الحب في الحياة إلى الأدب ومنه إلى السينما

سنة الحب العنيف
بدأت سنة الحب العنيف حينما وصلت إليه رسالة تركتها العمة في مكتب التلغراف في كتاب صلوات مجلد وفيه ظرف مبطن ومزين بصورة مذهبة، تلك الرسالة التي جعلت اريثا مختلا من السعادة يراجع الرسالة حرفا حرفا ويأكل الورد الذي احتواه الظرف مما جعل أمه تجبره على شرب زيت الخروع. بعدها لم يكن في حياة أي منهما شيء سوى التفكير بالآخر وانتظار الرسائل بشوق كشوق الرد عليها ولكن من أن رأيا بعضهما لأول مرة وإلى أن كرر عليها قراره بعد نصف قرن، لم يحصلا أبدا على فرصة اللقاء منفردين. كان يجلس في مقبرة الفقراء المكشوفة للشمس والمطر فوق تلة جرداء يعزف لها معزوفة السيرناد أطلق عليها 'الربة المتوجة' حيث كانت الموسيقى تصدح بأصداء ما ورائية تسوقها الريح إليها. ومع بداية واحدة من الحروب الكثيرة استمر اريثا يرسل الموسيقى غير عابئ بحال الدنيا حتى اعتقلته دورية عسكرية وهو يقلق عفة الموتى باستفزازاته الغرامية واتهموه بالتجسس وإرسال إشارات ضوئية لسفن العدو، وكان يردد: 'أي جاسوس وأي لعنة. أنا لست سوى عاشق بائس'. وفي شيخوخته وعندما اصبحت تختلط في ذاكرته ذكرى حروب أخرى كثيرة، فكر بانه الرجل الوحيد الذي جر بقدميه أصفادا زنتها خمسة أرطال من أجل قضية حب. وحينما عرض عليها الزواج أجابت بقصاصة منتزعة من دفتر مدرسي 'حسنا أوافق على الزواج منك إن انت وعدتني بألا تجبرني على أكل الباذنجان' !



رحلة النسيان
لكن علاقتهما السرية اكتشفتها راهبة مدرسة ظهور العذراء المقدسة التي تدرس فيها فيرمينا داثا فيما تتجسس على التلميذات وجدت الصبية تكتب رسالة حب في درس المعرفة الكونية وكان هذا سببا كافيا لطردها واستدعاء والدها لورينثو داثا الذي اكتشف سريعا الثقب الذي كان يتسرب منه نظامه ورسائل ثلاث سنوات مخبأة بمحبة تضاهي المحبة المبذولة في كتابتها. تم طرد العمة في أول مركب وحبست الصبية نفسها وحاولت الانتحار بسكين المطبخ، الأمر الذي دفع الأب للذهاب ومقابلة العاشق الشاب والتحدث إليه 'رجلا لرجل لخمس دقائق' كما طلبن منه حينما أمسك ساعد الفتى بحزم في مكتب التلغراف وبعد أن حكى لورنثو ديثا سيرته الشخصية لفلورنتينو اريثا اختتمها بحزم: 'ابتعد عن طريقنا'. وتطور الحديث أن هدده: 'لا تجبرني على قتلك'. ولكن فلورنتينو لم يرتعش لهذا التهديد وأشار إلى قلبه قائلا: 'اقتلني'. بعدها حمل الأب ابنته إلى رحلة النسيان وما كانت تبدو لها بهذه المرارة لولا قلقها بانها لن ترى اريثا بعد اليوم، وكان اريثا قد أقام جمعية واسعة من عاملي التلغراف لاقتفاء آثار فيرمينا داثا حتى آخر قرية وصلت إليها. ستمر سنوات رحلة النسيان لتعود مجددا إلى المدينة وسيلاحقها في الطريقة نفسها لغاية اليوم الذي يقترب منها في السوق ويحاول التحدث معها، لكنها لم تشعر بهيجان الحب كما في السابق، وتساءلت كيف استطاعت أن تحتضن طوال هذا الوقت وبكل هذه القسوة حرقة قلب كتلك وبالكاد استطاعت أن تفكر:'رباه، يا للرجل البائس'. وكانت رسالتها الأخيرة من سطرين:'عندما رأيتك اليوم، أدركت أن ما كان بيننا ليس إلا وهما'. وبعد أن أعادت إليه كل ما يربطها معه، لم تتح لفلورنتينو اريثا الفرصة أبدا لرؤية فيرمينا داثا على انفراد ولا التحدث إليها أثناء لقاءاتهما الكثيرة في حياتهما الطويلتين، إلا بعد انقضاء إحدى وخمسين سنة وتسعة اشهر وأربعة أيام عندما كرر لها يمين الوفاء الابدي والحب الدائم في ليلتها الأولى كأرملة.

راية الكوليرا كانت راية لانتصار الحب و تحرر الروح من ظلام الصبر

الرحلة الخالدة
ستنمو بعد نصف قرن، علاقة جديدة لم يستطع أحد ثنيها هذه المرة لتعترف: 'قبل قرن من الزمان أفسدوا حياتي مع هذا الرجل المسكين لأننا كنا لا نزال صغيرين، وها هم يريدون إفسادها مجددا لأننا أصبحنا عجوزين'. قررا هجر بيتيهما والانطلاق قدما وعدم العودة أبدا، وإن كانت السفينة الأولى التي مخرت مياه نهر مجدلينا اسمها 'وفاء'، فقد عمد فلورنتينو اريثا سفينة أطلق عليها 'وفاء الجديدة' لكونه رومانسيا مزمنا وجاء اليوم الذي انتظره لنصف قرن ليلتقيا على انفراد وكانت السفينة تتقدم تسحبهما نحو بريق الأزهار البدائي وإدراكهما بانهما بعد تجاوزهما السبعين يتصرفان كخطيبين زاد من انبهارهما لأن حبا فائضا له من التأثير في القلب كما لقلة الحب وأن ممارسة الحب ينبغي أن تكون حين يجيء الإلهام من دون السعي في طلبه، وقد كانا مكتفيين بسعادة وجودهما معا. حينها وجه فلورنتينو اريثا سؤالا بدا للقبطان كأنه فكرة الخلاص: 'هل يمكننا، نظريا، القيام برحلة مباشرة بلا حمولة ولا مسافرين، دون التوقف في أي ميناء، ودون أي شي؟'وكان الحل الوحيد المتاح هو رفع الراية الصفراء على السفينة لوجود مصاب في الكوليرا على ظهر السفينة للدلالة على أن السفينة محجورة صحيا. وهكذا أبحرت 'وفاء الجديدة' تحمل العاشقين العجوزين فقط فيما راية الكوليرا الصفراء تخفق طربا على صاريها الأكبر وأحست فيرمينا داثا بخفقات حريتها حينما كان مصب نهر مجدلينا العظيم المعكر والرصين يمتد حتى الجانب الآخر من الدنيا: فلنتابع قدما.. قدما،، قالها فلورنتينو اريثا بتماسك لا يقهر بحبه الراسخ وارتياحه المتأخر بأن الحياة أكثر من الموت، هي التي بلا حدود وكان جوابه عن سؤال القبطان: 'إلى متى نستطيع الاستمرار في هذا الذهاب والإياب'، جاهزا منذ ثلاث وخمسين سنة وستة اشهر واحد عشر يوما: 'مدى الحياة' ! ان حيل ماركيز تستحق منا ولأجيال كثيرة ستظهر الإدهاش وانتزاع الاعتراف بأن ما رفعه اريثا لم يكن راية الكوليرا، قدر ما كانت راية انتصار الحب الصامت، راية لتحرر الروح من ظلام الصبر والإصرار الذي جعل عشقه أليفا وخالدا وبلا حدود.

(2 ) الفيلم

فكرت هوليوود 22 سنة لتحول واحدة من اعظم اعمال القرن العشرين الادبية 'الحب في زمن الكوليرا' ذات ال 348 صفحة الى فيلم ب 138 دقيقة. وبعد ان اتخذ القرار، كانت مساهمات غابريل غارسيا ماركيز في الفيلم اقل ما يمكن، فالكاتب العظيم بلغ الثمانين عاما واكتفى باهداء المخرج مايكل نيويل نسخة من الرواية عليها بعض الملاحظات لا تتعدى بضع صفحات، لكن نيويل ادرك ان ماركيز كتب كل ما يريد قبل عشرين سنة في الرواية كما ادرك ايضا الفارق بين اخراج رواية هاري بوتر وعمل لماركيز. لكن ماركيز بذل جهدا استثنائيا لدى لقاءاته المتكررة مع الممثل خافيار بارديم لكي يساعده في تفهم حالة فلورينتينو اريثا وكيف استطاع حمل حبه طوال 51 سنة وفوق ذلك تاكيده له بعد كل هذه الاعوام. ومحنة بارديم كانت تواجه اي شخص يقرأ ماركيز، فهذا الكاتب تستطيع قراءته ولكن ما القدرة التي تملكها لتسمح لنفسك ان تصبح نسخة للتعبير عن اوصافه المعقدة وتستسلم لها بكل سرور.



روايات ماركيز في السينما
يذكر ان 'الحب في زمن الكوليرا' لم يكن الفيلم الاول الذي صور روايات ماركيز، فقد سبقه فيلم 'ارينديرا البريئة' الذي اخرجه البرازيلي راي جويرا في عام 1983 دون ان يؤثر النص السينمائي على الرؤى الباطنية للنص الروائي. وفي عام 1987 اخرج الايطالي فرانسيسكو روسي رواية 'قصة موت معلن' مثلها النجمان روبرت افيريت وارنيلا موتي، وكذلك حولت روايته 'ليس لدى الكولونيل من يكاتبه' الى شريط سينمائي عام 1999 بواسطة المخرج المكسيكي ارتورو ريبستين، بطولة فرناندو لوجان وسلمى حايك. بينما كانت رواية 'في ساعة نحس' آخر عمل روائي لماركيز يحول الى السينما عام 2004، اخرجه البرازيلي راي جويرا الذي كان قد اخرج له اولى رواياته. وكان ماركيز قد ساهم في كتابة العديد من سيناريوهات الافلام في فترات مختلفة من حياته.


الفريق الذهبي
ربح الفيلم كاتب سيناريو فريد الطراز هو رونالد هاروود الحائز جائزة الاوسكار عن فيلمه 'عازف البيانو' الذي درس كل تفاصيل القرية الكولومبية الصغيرة كارتاغينا وميناء برات اللذين جرت فيهما اغلب مشاهد الفيلم كعملية اختراع العالم الذي حدثت فيه الرواية. وحسب تصريحات المخرج مايكل نيويل فانه قد عانى كثيرا في مسالة اختيار الشخصيتين الرئيسيتين، وكان يريد لدور فلورينتينو اريثا شخصا يمكنه ان يكون شابا بعمر 15 سنة ويشيخ باقناع لغاية 75 عاما مع امتلاك الملامح والنظرة الكلاسيكية الغامضة، ولم يعثر على افضل من النجم الاسباني الكبير خافيار بارديم الذي تدفق عطاؤه المدهش في فيلم 'اشباح غويا' وتطلب منه فقدان 16 كيلوغراما ليقترب من نحول اريثا. وتطلب لدور فيرمينا داثا امريكية لاتينية سوداء العين فوجد بعد بحث الممثلة الايطالية جيفانا ميزغيرونو وكانت سنواتها ال 33 تسمح لها بلعب دور الفتاة والعجوز. وهناك ممثلون آخرون من كولومبيا والبرازيل والولايات المتحدة.
سيناريو متكيف
يبقى عمل سيناريو هاروود متكيفا مع احداث الرواية، راسما صورة الدكتور خوفينال اربينو (بنجامين برات) ورفعته منذ المشاهد الاولى وهو يطمئن عروسه العذراء فيرمينا داثا (جيفانا ميزغيرونو)، مانحا بذلك درسا في العشق، وبالطريقة نفسها تم تقديم الولهان فلورينتينو اريثا (خافيار بارديم) الذي يملك قدرة على فهم اللحظة والتعامل معها بدقة، كمراهق وشاب ورجل اختار الانصياع للغزو الجنسي لاسكات قلبه المقهور، ومن ثم عجوز ذابل مؤمن بانه سينتصر مهما امتدت به الحياة وسيظفر بهدفه مهما طالت، كادعاء دانتي في ان يلهم حياته الكاملة لبيتريس ضابطا شوقه ومعاناته لغاية الانتقال نحو الانتصار في الخاتمة. ويبدو ان معضلة السيناريو كانت رغبته في عرض كل شيء في الرواية وعدم حذف الاجزاء التي احبها القراء في الرواية، خصوصا الهيام الجنسي الذي وقع به فرناندينو اريثا بعد هزيمة حبه وبحثه المستمر عن الحب مع 622 امرأة، ضاربا الرقم القياسي لكازانوفا عدة مرات كمحاولة لان يحبها من خلال اجساد نساء اخريات، الامر الذي صعب من مهمة مايكل نيويل حيث تطلب منه المزيد من الجهد والاماكن والشخوص والاموال، والاهم في ما واجهه السيناريو حتمية التفريق ما بين الجنس العادي الذي كان يمارسه اريثا على الدوام والحب الكبير الذي احتفظ به داخل قلبه والعاطفة الكبيرة التي جعلته يذعن للحب من حبيبة رفضت الشاعر الفقير واختارت الطبيب الثري، كالاسئلة التي حيرت ميشيل فوكو لمعرفة الحب الحقيقي، من ينبغي حبه، وباي شروط وما هو الحب في كينونته ذاتها؟ وحتى في البناء الافلاطوني وطرق التذكير التي يجيب بها اكزنوفون: التقابل بين الحب الذي لا يسعى الى متعة والحب الذي يهتم بالمحبوب نفسه وضرورة تحويل العابر الى صداقة متساوية، متبادلة ودائمة، ووضع حد فاصل بين حب النفس وحب الجسد الذي يحتقره في ذاته. ان مخطوطة هاروود حملت الكثير من الاجزاء البارزة لحوارات ماركيز وبغض النظر عن ورودها في السياق، الا ان الرواية يقرأها المثقفون والفيلم يشاهده العامة، ويبدو ان كاتب السيناريو مال الى جهة انصار ماركيز الذين لا يحبذون التهاون مع اجزاء مؤلفهم وروايته التي استمرت لسنوات الاكثر مبيعا في العالم. كما ان السينما تنتزع القصة من دون لغتها، كمن يقدم الغبار والعظام ويهمل القلب، وماركيز الذي شاع اسلوب اميركا اللاتينية الاستثنائي في الواقعية السحرية وبفضله اصبح شعبيا يتميز بان نثره يلعب على التناقضات الذي يعتبر افضل من يسخر منها في تاريخ الادب واحيانا لا نجد واقعية، سحرا فحسب يستطيع اقناعنا باهمية حدوثه، لذلك فان خيال ماركيز الواسع كان خرسانة الفيلم التي وقف عليها بثبات.


ثمار الإخراج
لقد افتتح نيويل الفيلم ليس كما افتتح ماركيز الرواية، وفضل المخرج الدخول مباشرة مع سقوط الدكتور خوفينال اربينو من السلم كاعلان موت الحب غير المتبادل مع فيرمينا داثا ومواجهة عذاب الذاكرة وتجريدها من حلوها ومرها، وكشف المصير لشيخوخة تكفيها زلة واحدة نحو الموت محيلا ايانا الى ذكريات افلام عميقة منحتنا اللغة نفسها، قدمها فيسكونتي وامبيرتو سول، حكايات الحب المحظور والفاشل، الحب المنكوب بلا ارادة احد، ذلك الحب الوقور الذي طالما مني بالخيبة. ولم يجهد المخرج نفسه في تصوير الحروب المتنوعة والاوبئة والاشخاص الثانويين في الرواية، ولن يحظى المشاهد بمؤثرات بصرية ولا موسيقى محفزة، رغم ان عمل انطونيو بينتو كان مؤثرا جدا في المشاهد الضرورية، ويعد هذا اسلوب نيويل الذي يتبنى سينما الخط الجديد: النهر المهيب الذي تودع فيه ثروات الثقافة الكولومبية، الديكور، الجنس، المرح، صوت شاكيرا الحيوي الذي يرافق الموسيقى التصويرية. ويمكن الادعاء بان الشريط فارغ من جماليات الفن السينمائي الرائج ومن الواضح ان مايكل نيويل لم يبارح الكاميرا طيلة فترة التصوير.
فيلم العوائق والمسافات
ان 'الحب في زمن الكوليرا' يعتبر فيلم العوائق والمسافات، فماركيز كتب الرواية بالاسباني والفيلم قدم سيناريو معتمدا على الترجمة الانكليزية وقدم بهذه اللغة ايضا وما بين الرواية والسينما من عوائق تضاف المسافات ما بين لغة واخرى، ناهيك عن ان مايكل نيويل بريطاني وليست لديه تجارب ولم ينغمس في الحياة الكاريبية، حيث تقع احداث الرواية. اضف الى ذلك ان الرواية تتحدث عن فترة تتجاوز الخمسين عاما بما يتطلب ذلك من تغيير في كل شيء: المدينة، الملابس، السيارات، السفن، اعمار الممثلين، كل شيء ينبغي ان يتطور كما في الحياة، وجرت العادة في السينما ان تحذف المشاهد التي تكلف الانتاج كثيرا او تؤذي الشكل الفني في حالة عدم تحقيقها، فالسينما تغض النظر عما يحرجها، لذلك لابد ان ترزح للديكور والرسم والمؤثرات الاخرى والعمل المقرف في الاستديو. (هذا لا يعني ان الانتاج بادارة سكوت ستيندورف كان يبخل على العمل فقد اهدر عليه 50 مليون دولار). ورغم ذلك نجح نيويل في ما هو اهم، انه منح الرؤية واللمسة الحادة واضاء نظرة المشاهد واخترع له اللمعان في يوم لم تشرق فيه الشمس.

صورة 'فلورينتينو ـ بارديم '
لفلورينتينو روح شاعر وهذه امسك بها المخرج نيويل والممثل المبدع خافيار بارديم الذي تمت مساعدته بشكل كامل من فريق الفيلم برمته فقد كانت الكاميرا تخدمه وكذلك فعلت المؤثرات والصوت وكان في اغلب اوقات الشريط على مرمى البصر كقلبه المعلق بتأرجحه العاطفي بين النساء وتوفيقه مع الكوميديا الصعبة والمرح الماكر الذي يبدأ به فتوحاته الغرامية عادة. ان تجسيد مثل هذه الشخصية يحتاج الى بصيرة وذكاء وقدرة واستعداد وسحر وتلبية متطلبات السينما ايضا ولعلها كانت مهمة مستحيلة، لذلك كان ماركيز يجتمع مع بارديم اكثر من الوقت الذي قضاه مع المخرج نيويل، فالكاتب الكبير ادرك ان مفتاح تفوق الفيلم يكمن في صورة فلورينتينو اريثا وكان عليه ان يحمل المهانة والفشل وفقدان حب كان في متناول اشعاره ومن ثم اتصاله الطويل المدى مع نساء كن يداوين غرامه المرجو منذ امد طويل.لذلك بدأ فلورينتينو كعازب محترف غريب الاطوار في الرواية وكان يضلل نفسه كثيرا، ويبخر رغبته باستخدام نساء مختلفات كوكيلات لحبه الضائع ولو برز في عصرنا شخص مثله لتهاوى عليه الاطباء النفسانيون وسيكون مصنفا من الصحافة وشرطة المدينة كمهووس رسمي نصفه تهيمن عليه علاقة حب والنصف الآخر مازوشي تجدر مراقبته. يقول فلورينتينو في واحد من حواراته بانه 'لا شيء اكثر صعوبة من الحب'، ولهذا يقترح الفيلم حججا مضادة، وبهذا المعنى يمكننا استخدام اسلوب ماركيز في الدعابة وتحويل الجملة كالتالي: لا شيء اكثر صعوبة من تحويل الحب في الروايات الى الشاشة، وهذا ما كان يؤرق خبراء هوليوود لنحو 22 عاما. لا احد ممن كانوا ينتظرون ظهور الرواية على الشاشة استطاع الاستعجال، كمصير فلورينتينو نفسه الذي انتظر 51 سنة، لكن الحب جاء في زمن الكوليرا، كما جاء الشريط في زمان لا احد يمكنه تصديق حكاية التجريد الرومانسي والاحباط الذي يتحول بعد صبر طويل الى انتصار، ان الجمهور المعاصر قد يسخر من هكذا حكايات او يقابلها ببرود وباحسن الاحوال بدهشة غير المصدق. اي من سكان الكوكب الحاليين بمستطاعه صرف نصف قرن على قراءة الشعر الرومانسي واغواء النساء بحثا عن سيدته العظيمة، الا يبدو الامر مملا للجمهور المعاصر؟ نعتقد ان هذا سر اجتماعات ماركيز الطويلة مع بارديم، لكون فلورينتينو امتلك مفتاح نجاح الفيلم او سقوطه، وبدون تردد حقق خافيار بارديم فوزا مذهلا لا يقل شأنا عن الانتصار الخرافي لفلورينتينو، فقد امتلك الممثل والشخصية التي لعبها العنصران الرئيسيان للظفر: التحدي والامل!