06‏/08‏/2008

Love in the Time of Cholera


( 1 ) الرواية


نجاح لا يجارى حققته رواية الكولومبي الفذ غابرييل غارسيا ماركيز 'الحب في زمن الكوليرا' الصادرة باللغة الإسبانية عام 1986 في كل أنحاء العالم وبعد أكثر من عشرين سنة وبلوغ الكاتب الأمهر 80 عاما يخرج مايكل نيويل الرواية إلى السينما المعروف بأعماله الأخيرة 'أربع حفلات زفاف وجنازة'، هاري بوتر وقدح النار، مقدما قصة حب استمرت أكثر من 50 سنة تبدأ في قرية كولومبية صغيرة وتمر بباريس ولأنها كما روايات ماركيز الأخرى تحفل بالجنس، فالرقابة صنفت الفيلم لجمهور تعدى سن الرشد. يقوم ببطولة الفيلم خافيار بارديم وجيفانا ميزغيرونو.معضلة قارئ الرواية الذي سيكون شغوفا بها بلا شك، سيحملها في شرايينه، وسيضطر للمقارنة في كل ثانية، فالرواية معشبة وشائكة الأدغال ومليئة بالرمزية الذي ابتدعه الشكل الأدبي الفائق الأهمية المعروف بالواقعية السحرية.

Gabriel García Márquez
لكن الذي يعني المخرج والممثلان الرئيسيان وكل من ارتضى الارتباط بالنسخة السينمائية لماركيز هو التحدي الكبير الذي جلبه لهم حبهم للرواية نفسها. القضية في منتهى الصعوبة، فإذا كانت الترجمة من لغة إلى أخرى تتطلب معجزة وعبقرية لإتقانها، فكيف الانتقال من فن لآخر لاسيما في حكايات ملحمية يكتبها ماركيز. ولا نخفي أيضا جسارة المهمة لمن يتجرأ ويكتب عن الرواية والفيلم لينتج عملا مفيدا آخر يحمل عظمتها وبهجة الحياة مرورا بنهاية الحياة التي علمنا إياها المعلم الفائق الموهبة غابريل غارسيا ماركيز الذي استدرجنا من جديد لواحدة من الروايات التي لا يمكن مفارقتها أبدا ولابد من تقديم عرض موجز لهذه الحكاية الأثيرة التي بدأت أحداثها في وقت متأخر من عام 1879 حيث التقى مريض بالحب ربته المتوجة لغاية ثلاثينات القرن العشرين حينما ركبا الموجة المتهادية قدما نحو الحياة الأبدية.

El amor en los tiempos del colera


رمل القلب
نبدأ بحادثة الانتحار التي عرفنا من خلالها ماركيز على الدكتور خوفينال أوربينو (بنجامين برات ) قائلا لشاب يدرس التشريح في مستوصف المدينة: 'لن تعدم هنا وجود مجنون في الحب يمنحك الفرصة في يوم من هذه الأيام'، فأولئك الذين يموتون حبا يوجد رمل في قلوبهم عادة! سيقول له الشاب: 'من المؤسف أننا ما زلنا نلتقي بمنتحر دافعه للانتحار ليس الحب'. وهنا تستمر التهيئة لعرض قضية كبيرة يتساءل عندها الكاتب: 'غير انه لم يفهم كيف أن كائنين راشدين وحرين وبلا ماض، على هامش اهتمامات مجتمع غارق في شؤونه، قد اختارا نكبة الحب المحرم'، ويقود هذا التساؤل لحالة موت أخرى لصديق الطبيب الذي كانت زوجته قد 'ساعدته على تجاوز الاحتضار، بالحب نفسه الذي ساعدته على اكتشاف السعادة'، أما المتوفى جيرميا دي سانت آمور فقد كان يحب الحياة بعاطفة مبهمة، كان يحب البحر والحب، يحب كلبه ويحبها، وكلما اقترب اليوم الموعود كان يهوي أكثر فأكثر إلى اليأس لأنه كان يتنهد حيث كانا يرقدان بعد الحب: 'لن أصير كهلا أبدا' وقد فهمت على أنه نية بطولية للنضال دون هوادة ضد نكبات الزمن. وهكذا عندما أزف القدر الحتمي قالت: 'عندما تركته وحيدا في الليل، لم يكن من أهل الدنيا'. وطيف كلماته الأخيرة: 'تذكريني بوردة'. وبعد أن ارتدت ملابس الحداد قطفت من الفناء أول وردة من وردات الفجر. تبتعد الرواية بتعمد عن الشخوص الذين سيظهرون بقوة فيما بعد، فقد كانت ملامسة جانبية، أراد فيها ماركيز تصفية حساب أولي خاص جدا بأكثر عناصر الرواية: الحب الأبدي، الشيخوخة، الخلود، مدى الحياة، الوفاء، الصبر على الحب وغيرها حتى يتلو القضية الرئيسية.


فيرمينا المسكينة
فيرمينا داثا ( جسدتها بعذوبة جيفانا ميزغيرونو ) لها اثنتان وسبعون سنة وكانت، حسب وصف ماركيز، قد فقدت مشيتها الغزلانية لكنها تعيش وسط حيوانات مختلفة وكل الأزهار المتاحة واحتفلا منذ وقت قريب مع خوفينال أربينو باليوبيل الذهبي لزواجهما وليس بإمكان احدهما العيش لحظة واحدة دون الآخر أو دون التفكير به مع إنهما يعيان ذلك أقل فأقل كلما استفحلت الشيخوخة ولم يكن بمقدور أي منهما القول إن كانت تلك العبودية المتبادلة ترتكز على الحب أم على الراحة وبدأت تكتشف شيئا فشيئا تعثر خطى زوجها واضطراب مزاجه وتصدع ذاكرته والبكاء وهو نائم ورأت في ذلك عودة سعيدة إلى الطفولة ولذا لم تعامله على أنه شيخ صعب، وإنما كطفل هرم، ولقد كانت تلك الخدعة إلهاما لكليهما لأنها وضعتهما بمنأى عن الشفقة. ولقد علمتهما الحياة أن تصريف كوارث الزواج العظيمة أسهل من تصريف المناكفات اليومية الصغيرة وإذا كانا تعلما شيئا ما معا، فهو 'أن الحكمة تأتينا في الوقت الذي لا تعود به ذات نفع'، فحتى الشجار في الزواج يبعث في كلا الزوجين رغبة الإذعان والبدء في حياة أخرى أما الجراح قليلة الالتئام سرعان ما تعاود النزيف وكأنها جراح الأمس.سيسقط أربينو من على الشجرة في محاولة مميتة للقبض على الببغاء المشاكس وسيلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديها بعد أن تمكن من التعرف عليها وسط الحشد ومن خلال دموع الألم التي لا تتكرر لموته من دونها، وتطلع إليها لآخر مرة وإلى الأبد بعينين أشد بريقا وأكثر حزنا وأعظم امتنانا مما رأته طوال نصف قرن من الحياة المشتركة واستطاع أن يقول لها مع النفس الأخير: 'الله وحده يعلم كم أحببتك'.
Javier Bardem

فلورينتينو الباهر
سيظهر فلورينتينو اريثا ( صوره بكل عمق خافيار بارديم ) بين جموع الوجهاء والأعيان في جنازة الدكتور خوفينال أوربينو ولم تميزه فيرمينا داثا وسط صخب التعزيات الأولى وكانت مساعداته الكثيرة لا تقدر بثمن في ساعة الشؤم التي يمر بها البيت، ولكن كان ثمة أمران يثيران الشكوك في 'عازب متماد في عزوبيته'، لقد انفق مالا كثيرا وحيلا واسعة وتصميما شديدا كي لا تظهر آثار السنوات الست والسبعين التي أتمها وكان مقتنعا في عزلة روحه بأنه أحب بصمت أكثر بكثير من أي كان في العالم.وعندما رأته فيرمينا داثا في آخر أيام عزاء زوجها، كانت المرة الأولى التي تراه فيها بوعي طهره النسيان، ولكن قبل أن تتمكن من شكره لهذه الزيارة، وضع قبعته فوق موضوع القلب وشق الدمل الذي كان قوام حياته بان قال لها بصوت مرتعش ووقور: 'فرمينا.. لقد انتظرت هذه الفرصة لأكثر من نصف قرن، لأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبدي وحبي الدائم'.لم يكن لامرأة تحافظ على حرمة بيتها التي انتهكتها عبارات حبيب طفولة وجثة زوجها ما زالت ساخنة في القبر إلا أن تجيب بلا غضب: 'انصرف.. ولا تدعني أراك ثانية في السنوات المتبقية لك في الحياة.. وأرجو ان تكون سنوات قليلة'. وهي الآن قد بلغت الثانية والسبعين، لم تكن تعي تماما حتى هذا اليوم، وزن وحجم المأساة التي أثارتها وهي في الثامنة عشرة من عمرها حيث ستلاحقها حتى موتها وحينما بكت لأول مرة على الفراش دون زوجها هزها خاطر مبهم: 'على الناس الذين يحبهم المرء أن يموتوا مع كل أشيائهم' ونامت على أن يحقق الله لها أمل الموت، لكنها كانت تفكر وهي منتحبة في الحلم، بفلورينتينو اريثا أكثر من زوجها الميت.


كارثة الحب
لقد مضى على رفضها له إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر وأربعة أيام ومن جانبه لم يمر يوم إلا ويحدث شيء يذكره بها وكان قد رآها لأول مرة في عصر يوم كلفه فيه لوتاريو توغوت بإيصال برقية إلى شخص بلا عنوان واضح اسمه لورينثو داثا كان قد وصل حديثا إلى المدينة ولم تكن له فيها صداقات كثيرة. وما ان سلمه البرقية وخلال خروجه لمح صبية تتعلم على البيانو وما أن رفعت نظرها لترى من الذي مر عبر النافذة، كانت هذه النظرة العابرة أصل كارثة حب لم تنته بعد مرور نصف قرن. وبدأ الأمر بتعقب مرورها ذهابا وإيابا إلى المدرسة أربع مرات في الأسبوع ومرة واحدة أيام الآحاد عند الخروج من القداس الكبير وكانت رؤية الصبية تكفيه، وشيئا فشيئا بدأت الرسائل التي كان يخطها بحرفية متحولة إلى معجم للغزل المتأثر بالكتب التي حفظها غيبا لكثرة جلوسه في الحديقة وهو ينتظرها. ولكن فيرمينا داثا كانت بمنجى حتى من مجرد الفضول بشأن الحب، الشيء الوحيد الذي أثاره فيها فلورينتينو اريثا هو قليل من الأسى، إذ بدا لها عليلا، غير إن عمتها قالت لها أنه 'لابد من العيش طويلا لمعرفة الطبيعة الحقيقية للرجل'، وكانت مقتنعة أن ذلك الذي يجلس في الحديقة ليراهما تمران، لا يمكن إلا أن يكون مريضا بداء الحب. وكان ظهور اريثا بالنسبة لهما تسلية جديدة وكانتا تسرعان للبحث بنظرة فورية عن ذلك الحارس الضامر، الخجول، ضئيل الشأن الذي يرتدي بشكل دائم ملابس سوداء رغم الحر ويتظاهر بالقراءة تحت الأشجار. واحتياطا لأي نوع من المصائب علمتها عمتها التواصل بحروف يدوية أو الإشارات التي كانت الوسيلة الوحيدة الضرورية للغراميات المحرمة.


LOVE IN THE TIME OF CHOLERA

رسائل حب
لكن التسلية تحولت إلى قلق للإسراع برؤيته وصارت تدعو أن يمنحه الله الشجاعة كي يسلمها الرسالة لتعرف فقط ما الذي سيقوله فيها. وبعد أوقات مريرة انتصب مرة أمامها وشعر بشهقتها وبتنفسها الوردي الذي سيميزها فيه طوال حياته المتبقية متحدثا إليها برأس مرفوع وبتصميم لن يصل إليه ثانية إلا بعد نصف قرن، وللسبب نفسه قال لها: 'الشيء الوحيد الذي أطلبه منك هو أن تتقبلي رسالة مني'. أخبرته بأنها لن تتقبل الرسائل إلا بعد حصولها على إذن من والدها وكان قرارها الثاني قد فتح له الباب الذي يتسع للعالم بأسره حينما قالت:'عد مساء كل يوم وانتظر إلى أن أبدل مقعدي'. كان قد كتب لها سبعين صفحة، لكن حينما أزفت لحظة تقبلها الرسالة سلمها نصف ورقة فحسب انتزعتها منه وقالت:'اذهب الآن ولا ترجع إلى أن أخبرك'. وفي فترة انتظار الرد صار نبضه ضعيفا وتنفسه رمليا وعرقه شاحبا وتأكد أن 'أعراض الحب هي أعراض الكوليرا نفسها' ولم يداوم على وصفات الطبيب وعمل عكسها تماما لأنه كان في جوهر الأمر مستمتعا بعذابه وهو الذي حددته أمه: 'انتهز الفرصة لتتألم بقدر ما تستطيع الآن وانت شاب، لأن هذه الأمور لا تدوم طول الحياة'. هكذا أثرت تشوشات الحب على حياته العملية ودائما يرى غائب الوعي فوق ملطم الأمواج حيث يتعزى العشاق الذين لا سقف لديهم بممارسة الحب وفي غيبوبته وأخيرا وجدته العمة فأنبته على سلبيته في انتظار الرد على الرسالة وذكرته بأنه لا يمكن للضعفاء دخول مملكة الحب، لأنها مملكة صارمة وقاسية وإن النساء لا يستسلمن إلا للرجال المصممين لأنهم يبعثون فيهن الطمأنينة التي يتعطشن إليها لمواجهة الحياة. استوعب الدرس وطبقه أولا على العمة التي لقنتها إياه حينما داهمهن في الحديقة وطلب منها تركهما، وفي هذه الفترة كانت الصبية جمعت عنه معلومات كافية وعرفت ان له مستقبلا واعدا وفي أيام الآحاد حينما كان يعزف، أحست ان الكمان يعزف لها وحدها، ومع ذلك لم يكن نموذجا للرجل الذي ستختاره، لكن أساليبه الغامضة أثارت فيها فضولا من الصعب مقاومته، لكنها لم تتصور أبدا أن يكون الفضول هو احد مصائد الحب الكثيرة.

لا شيء أكثر صعوبة من تحويل الحب في الحياة إلى الأدب ومنه إلى السينما

سنة الحب العنيف
بدأت سنة الحب العنيف حينما وصلت إليه رسالة تركتها العمة في مكتب التلغراف في كتاب صلوات مجلد وفيه ظرف مبطن ومزين بصورة مذهبة، تلك الرسالة التي جعلت اريثا مختلا من السعادة يراجع الرسالة حرفا حرفا ويأكل الورد الذي احتواه الظرف مما جعل أمه تجبره على شرب زيت الخروع. بعدها لم يكن في حياة أي منهما شيء سوى التفكير بالآخر وانتظار الرسائل بشوق كشوق الرد عليها ولكن من أن رأيا بعضهما لأول مرة وإلى أن كرر عليها قراره بعد نصف قرن، لم يحصلا أبدا على فرصة اللقاء منفردين. كان يجلس في مقبرة الفقراء المكشوفة للشمس والمطر فوق تلة جرداء يعزف لها معزوفة السيرناد أطلق عليها 'الربة المتوجة' حيث كانت الموسيقى تصدح بأصداء ما ورائية تسوقها الريح إليها. ومع بداية واحدة من الحروب الكثيرة استمر اريثا يرسل الموسيقى غير عابئ بحال الدنيا حتى اعتقلته دورية عسكرية وهو يقلق عفة الموتى باستفزازاته الغرامية واتهموه بالتجسس وإرسال إشارات ضوئية لسفن العدو، وكان يردد: 'أي جاسوس وأي لعنة. أنا لست سوى عاشق بائس'. وفي شيخوخته وعندما اصبحت تختلط في ذاكرته ذكرى حروب أخرى كثيرة، فكر بانه الرجل الوحيد الذي جر بقدميه أصفادا زنتها خمسة أرطال من أجل قضية حب. وحينما عرض عليها الزواج أجابت بقصاصة منتزعة من دفتر مدرسي 'حسنا أوافق على الزواج منك إن انت وعدتني بألا تجبرني على أكل الباذنجان' !



رحلة النسيان
لكن علاقتهما السرية اكتشفتها راهبة مدرسة ظهور العذراء المقدسة التي تدرس فيها فيرمينا داثا فيما تتجسس على التلميذات وجدت الصبية تكتب رسالة حب في درس المعرفة الكونية وكان هذا سببا كافيا لطردها واستدعاء والدها لورينثو داثا الذي اكتشف سريعا الثقب الذي كان يتسرب منه نظامه ورسائل ثلاث سنوات مخبأة بمحبة تضاهي المحبة المبذولة في كتابتها. تم طرد العمة في أول مركب وحبست الصبية نفسها وحاولت الانتحار بسكين المطبخ، الأمر الذي دفع الأب للذهاب ومقابلة العاشق الشاب والتحدث إليه 'رجلا لرجل لخمس دقائق' كما طلبن منه حينما أمسك ساعد الفتى بحزم في مكتب التلغراف وبعد أن حكى لورنثو ديثا سيرته الشخصية لفلورنتينو اريثا اختتمها بحزم: 'ابتعد عن طريقنا'. وتطور الحديث أن هدده: 'لا تجبرني على قتلك'. ولكن فلورنتينو لم يرتعش لهذا التهديد وأشار إلى قلبه قائلا: 'اقتلني'. بعدها حمل الأب ابنته إلى رحلة النسيان وما كانت تبدو لها بهذه المرارة لولا قلقها بانها لن ترى اريثا بعد اليوم، وكان اريثا قد أقام جمعية واسعة من عاملي التلغراف لاقتفاء آثار فيرمينا داثا حتى آخر قرية وصلت إليها. ستمر سنوات رحلة النسيان لتعود مجددا إلى المدينة وسيلاحقها في الطريقة نفسها لغاية اليوم الذي يقترب منها في السوق ويحاول التحدث معها، لكنها لم تشعر بهيجان الحب كما في السابق، وتساءلت كيف استطاعت أن تحتضن طوال هذا الوقت وبكل هذه القسوة حرقة قلب كتلك وبالكاد استطاعت أن تفكر:'رباه، يا للرجل البائس'. وكانت رسالتها الأخيرة من سطرين:'عندما رأيتك اليوم، أدركت أن ما كان بيننا ليس إلا وهما'. وبعد أن أعادت إليه كل ما يربطها معه، لم تتح لفلورنتينو اريثا الفرصة أبدا لرؤية فيرمينا داثا على انفراد ولا التحدث إليها أثناء لقاءاتهما الكثيرة في حياتهما الطويلتين، إلا بعد انقضاء إحدى وخمسين سنة وتسعة اشهر وأربعة أيام عندما كرر لها يمين الوفاء الابدي والحب الدائم في ليلتها الأولى كأرملة.

راية الكوليرا كانت راية لانتصار الحب و تحرر الروح من ظلام الصبر

الرحلة الخالدة
ستنمو بعد نصف قرن، علاقة جديدة لم يستطع أحد ثنيها هذه المرة لتعترف: 'قبل قرن من الزمان أفسدوا حياتي مع هذا الرجل المسكين لأننا كنا لا نزال صغيرين، وها هم يريدون إفسادها مجددا لأننا أصبحنا عجوزين'. قررا هجر بيتيهما والانطلاق قدما وعدم العودة أبدا، وإن كانت السفينة الأولى التي مخرت مياه نهر مجدلينا اسمها 'وفاء'، فقد عمد فلورنتينو اريثا سفينة أطلق عليها 'وفاء الجديدة' لكونه رومانسيا مزمنا وجاء اليوم الذي انتظره لنصف قرن ليلتقيا على انفراد وكانت السفينة تتقدم تسحبهما نحو بريق الأزهار البدائي وإدراكهما بانهما بعد تجاوزهما السبعين يتصرفان كخطيبين زاد من انبهارهما لأن حبا فائضا له من التأثير في القلب كما لقلة الحب وأن ممارسة الحب ينبغي أن تكون حين يجيء الإلهام من دون السعي في طلبه، وقد كانا مكتفيين بسعادة وجودهما معا. حينها وجه فلورنتينو اريثا سؤالا بدا للقبطان كأنه فكرة الخلاص: 'هل يمكننا، نظريا، القيام برحلة مباشرة بلا حمولة ولا مسافرين، دون التوقف في أي ميناء، ودون أي شي؟'وكان الحل الوحيد المتاح هو رفع الراية الصفراء على السفينة لوجود مصاب في الكوليرا على ظهر السفينة للدلالة على أن السفينة محجورة صحيا. وهكذا أبحرت 'وفاء الجديدة' تحمل العاشقين العجوزين فقط فيما راية الكوليرا الصفراء تخفق طربا على صاريها الأكبر وأحست فيرمينا داثا بخفقات حريتها حينما كان مصب نهر مجدلينا العظيم المعكر والرصين يمتد حتى الجانب الآخر من الدنيا: فلنتابع قدما.. قدما،، قالها فلورنتينو اريثا بتماسك لا يقهر بحبه الراسخ وارتياحه المتأخر بأن الحياة أكثر من الموت، هي التي بلا حدود وكان جوابه عن سؤال القبطان: 'إلى متى نستطيع الاستمرار في هذا الذهاب والإياب'، جاهزا منذ ثلاث وخمسين سنة وستة اشهر واحد عشر يوما: 'مدى الحياة' ! ان حيل ماركيز تستحق منا ولأجيال كثيرة ستظهر الإدهاش وانتزاع الاعتراف بأن ما رفعه اريثا لم يكن راية الكوليرا، قدر ما كانت راية انتصار الحب الصامت، راية لتحرر الروح من ظلام الصبر والإصرار الذي جعل عشقه أليفا وخالدا وبلا حدود.

(2 ) الفيلم

فكرت هوليوود 22 سنة لتحول واحدة من اعظم اعمال القرن العشرين الادبية 'الحب في زمن الكوليرا' ذات ال 348 صفحة الى فيلم ب 138 دقيقة. وبعد ان اتخذ القرار، كانت مساهمات غابريل غارسيا ماركيز في الفيلم اقل ما يمكن، فالكاتب العظيم بلغ الثمانين عاما واكتفى باهداء المخرج مايكل نيويل نسخة من الرواية عليها بعض الملاحظات لا تتعدى بضع صفحات، لكن نيويل ادرك ان ماركيز كتب كل ما يريد قبل عشرين سنة في الرواية كما ادرك ايضا الفارق بين اخراج رواية هاري بوتر وعمل لماركيز. لكن ماركيز بذل جهدا استثنائيا لدى لقاءاته المتكررة مع الممثل خافيار بارديم لكي يساعده في تفهم حالة فلورينتينو اريثا وكيف استطاع حمل حبه طوال 51 سنة وفوق ذلك تاكيده له بعد كل هذه الاعوام. ومحنة بارديم كانت تواجه اي شخص يقرأ ماركيز، فهذا الكاتب تستطيع قراءته ولكن ما القدرة التي تملكها لتسمح لنفسك ان تصبح نسخة للتعبير عن اوصافه المعقدة وتستسلم لها بكل سرور.



روايات ماركيز في السينما
يذكر ان 'الحب في زمن الكوليرا' لم يكن الفيلم الاول الذي صور روايات ماركيز، فقد سبقه فيلم 'ارينديرا البريئة' الذي اخرجه البرازيلي راي جويرا في عام 1983 دون ان يؤثر النص السينمائي على الرؤى الباطنية للنص الروائي. وفي عام 1987 اخرج الايطالي فرانسيسكو روسي رواية 'قصة موت معلن' مثلها النجمان روبرت افيريت وارنيلا موتي، وكذلك حولت روايته 'ليس لدى الكولونيل من يكاتبه' الى شريط سينمائي عام 1999 بواسطة المخرج المكسيكي ارتورو ريبستين، بطولة فرناندو لوجان وسلمى حايك. بينما كانت رواية 'في ساعة نحس' آخر عمل روائي لماركيز يحول الى السينما عام 2004، اخرجه البرازيلي راي جويرا الذي كان قد اخرج له اولى رواياته. وكان ماركيز قد ساهم في كتابة العديد من سيناريوهات الافلام في فترات مختلفة من حياته.


الفريق الذهبي
ربح الفيلم كاتب سيناريو فريد الطراز هو رونالد هاروود الحائز جائزة الاوسكار عن فيلمه 'عازف البيانو' الذي درس كل تفاصيل القرية الكولومبية الصغيرة كارتاغينا وميناء برات اللذين جرت فيهما اغلب مشاهد الفيلم كعملية اختراع العالم الذي حدثت فيه الرواية. وحسب تصريحات المخرج مايكل نيويل فانه قد عانى كثيرا في مسالة اختيار الشخصيتين الرئيسيتين، وكان يريد لدور فلورينتينو اريثا شخصا يمكنه ان يكون شابا بعمر 15 سنة ويشيخ باقناع لغاية 75 عاما مع امتلاك الملامح والنظرة الكلاسيكية الغامضة، ولم يعثر على افضل من النجم الاسباني الكبير خافيار بارديم الذي تدفق عطاؤه المدهش في فيلم 'اشباح غويا' وتطلب منه فقدان 16 كيلوغراما ليقترب من نحول اريثا. وتطلب لدور فيرمينا داثا امريكية لاتينية سوداء العين فوجد بعد بحث الممثلة الايطالية جيفانا ميزغيرونو وكانت سنواتها ال 33 تسمح لها بلعب دور الفتاة والعجوز. وهناك ممثلون آخرون من كولومبيا والبرازيل والولايات المتحدة.
سيناريو متكيف
يبقى عمل سيناريو هاروود متكيفا مع احداث الرواية، راسما صورة الدكتور خوفينال اربينو (بنجامين برات) ورفعته منذ المشاهد الاولى وهو يطمئن عروسه العذراء فيرمينا داثا (جيفانا ميزغيرونو)، مانحا بذلك درسا في العشق، وبالطريقة نفسها تم تقديم الولهان فلورينتينو اريثا (خافيار بارديم) الذي يملك قدرة على فهم اللحظة والتعامل معها بدقة، كمراهق وشاب ورجل اختار الانصياع للغزو الجنسي لاسكات قلبه المقهور، ومن ثم عجوز ذابل مؤمن بانه سينتصر مهما امتدت به الحياة وسيظفر بهدفه مهما طالت، كادعاء دانتي في ان يلهم حياته الكاملة لبيتريس ضابطا شوقه ومعاناته لغاية الانتقال نحو الانتصار في الخاتمة. ويبدو ان معضلة السيناريو كانت رغبته في عرض كل شيء في الرواية وعدم حذف الاجزاء التي احبها القراء في الرواية، خصوصا الهيام الجنسي الذي وقع به فرناندينو اريثا بعد هزيمة حبه وبحثه المستمر عن الحب مع 622 امرأة، ضاربا الرقم القياسي لكازانوفا عدة مرات كمحاولة لان يحبها من خلال اجساد نساء اخريات، الامر الذي صعب من مهمة مايكل نيويل حيث تطلب منه المزيد من الجهد والاماكن والشخوص والاموال، والاهم في ما واجهه السيناريو حتمية التفريق ما بين الجنس العادي الذي كان يمارسه اريثا على الدوام والحب الكبير الذي احتفظ به داخل قلبه والعاطفة الكبيرة التي جعلته يذعن للحب من حبيبة رفضت الشاعر الفقير واختارت الطبيب الثري، كالاسئلة التي حيرت ميشيل فوكو لمعرفة الحب الحقيقي، من ينبغي حبه، وباي شروط وما هو الحب في كينونته ذاتها؟ وحتى في البناء الافلاطوني وطرق التذكير التي يجيب بها اكزنوفون: التقابل بين الحب الذي لا يسعى الى متعة والحب الذي يهتم بالمحبوب نفسه وضرورة تحويل العابر الى صداقة متساوية، متبادلة ودائمة، ووضع حد فاصل بين حب النفس وحب الجسد الذي يحتقره في ذاته. ان مخطوطة هاروود حملت الكثير من الاجزاء البارزة لحوارات ماركيز وبغض النظر عن ورودها في السياق، الا ان الرواية يقرأها المثقفون والفيلم يشاهده العامة، ويبدو ان كاتب السيناريو مال الى جهة انصار ماركيز الذين لا يحبذون التهاون مع اجزاء مؤلفهم وروايته التي استمرت لسنوات الاكثر مبيعا في العالم. كما ان السينما تنتزع القصة من دون لغتها، كمن يقدم الغبار والعظام ويهمل القلب، وماركيز الذي شاع اسلوب اميركا اللاتينية الاستثنائي في الواقعية السحرية وبفضله اصبح شعبيا يتميز بان نثره يلعب على التناقضات الذي يعتبر افضل من يسخر منها في تاريخ الادب واحيانا لا نجد واقعية، سحرا فحسب يستطيع اقناعنا باهمية حدوثه، لذلك فان خيال ماركيز الواسع كان خرسانة الفيلم التي وقف عليها بثبات.


ثمار الإخراج
لقد افتتح نيويل الفيلم ليس كما افتتح ماركيز الرواية، وفضل المخرج الدخول مباشرة مع سقوط الدكتور خوفينال اربينو من السلم كاعلان موت الحب غير المتبادل مع فيرمينا داثا ومواجهة عذاب الذاكرة وتجريدها من حلوها ومرها، وكشف المصير لشيخوخة تكفيها زلة واحدة نحو الموت محيلا ايانا الى ذكريات افلام عميقة منحتنا اللغة نفسها، قدمها فيسكونتي وامبيرتو سول، حكايات الحب المحظور والفاشل، الحب المنكوب بلا ارادة احد، ذلك الحب الوقور الذي طالما مني بالخيبة. ولم يجهد المخرج نفسه في تصوير الحروب المتنوعة والاوبئة والاشخاص الثانويين في الرواية، ولن يحظى المشاهد بمؤثرات بصرية ولا موسيقى محفزة، رغم ان عمل انطونيو بينتو كان مؤثرا جدا في المشاهد الضرورية، ويعد هذا اسلوب نيويل الذي يتبنى سينما الخط الجديد: النهر المهيب الذي تودع فيه ثروات الثقافة الكولومبية، الديكور، الجنس، المرح، صوت شاكيرا الحيوي الذي يرافق الموسيقى التصويرية. ويمكن الادعاء بان الشريط فارغ من جماليات الفن السينمائي الرائج ومن الواضح ان مايكل نيويل لم يبارح الكاميرا طيلة فترة التصوير.
فيلم العوائق والمسافات
ان 'الحب في زمن الكوليرا' يعتبر فيلم العوائق والمسافات، فماركيز كتب الرواية بالاسباني والفيلم قدم سيناريو معتمدا على الترجمة الانكليزية وقدم بهذه اللغة ايضا وما بين الرواية والسينما من عوائق تضاف المسافات ما بين لغة واخرى، ناهيك عن ان مايكل نيويل بريطاني وليست لديه تجارب ولم ينغمس في الحياة الكاريبية، حيث تقع احداث الرواية. اضف الى ذلك ان الرواية تتحدث عن فترة تتجاوز الخمسين عاما بما يتطلب ذلك من تغيير في كل شيء: المدينة، الملابس، السيارات، السفن، اعمار الممثلين، كل شيء ينبغي ان يتطور كما في الحياة، وجرت العادة في السينما ان تحذف المشاهد التي تكلف الانتاج كثيرا او تؤذي الشكل الفني في حالة عدم تحقيقها، فالسينما تغض النظر عما يحرجها، لذلك لابد ان ترزح للديكور والرسم والمؤثرات الاخرى والعمل المقرف في الاستديو. (هذا لا يعني ان الانتاج بادارة سكوت ستيندورف كان يبخل على العمل فقد اهدر عليه 50 مليون دولار). ورغم ذلك نجح نيويل في ما هو اهم، انه منح الرؤية واللمسة الحادة واضاء نظرة المشاهد واخترع له اللمعان في يوم لم تشرق فيه الشمس.

صورة 'فلورينتينو ـ بارديم '
لفلورينتينو روح شاعر وهذه امسك بها المخرج نيويل والممثل المبدع خافيار بارديم الذي تمت مساعدته بشكل كامل من فريق الفيلم برمته فقد كانت الكاميرا تخدمه وكذلك فعلت المؤثرات والصوت وكان في اغلب اوقات الشريط على مرمى البصر كقلبه المعلق بتأرجحه العاطفي بين النساء وتوفيقه مع الكوميديا الصعبة والمرح الماكر الذي يبدأ به فتوحاته الغرامية عادة. ان تجسيد مثل هذه الشخصية يحتاج الى بصيرة وذكاء وقدرة واستعداد وسحر وتلبية متطلبات السينما ايضا ولعلها كانت مهمة مستحيلة، لذلك كان ماركيز يجتمع مع بارديم اكثر من الوقت الذي قضاه مع المخرج نيويل، فالكاتب الكبير ادرك ان مفتاح تفوق الفيلم يكمن في صورة فلورينتينو اريثا وكان عليه ان يحمل المهانة والفشل وفقدان حب كان في متناول اشعاره ومن ثم اتصاله الطويل المدى مع نساء كن يداوين غرامه المرجو منذ امد طويل.لذلك بدأ فلورينتينو كعازب محترف غريب الاطوار في الرواية وكان يضلل نفسه كثيرا، ويبخر رغبته باستخدام نساء مختلفات كوكيلات لحبه الضائع ولو برز في عصرنا شخص مثله لتهاوى عليه الاطباء النفسانيون وسيكون مصنفا من الصحافة وشرطة المدينة كمهووس رسمي نصفه تهيمن عليه علاقة حب والنصف الآخر مازوشي تجدر مراقبته. يقول فلورينتينو في واحد من حواراته بانه 'لا شيء اكثر صعوبة من الحب'، ولهذا يقترح الفيلم حججا مضادة، وبهذا المعنى يمكننا استخدام اسلوب ماركيز في الدعابة وتحويل الجملة كالتالي: لا شيء اكثر صعوبة من تحويل الحب في الروايات الى الشاشة، وهذا ما كان يؤرق خبراء هوليوود لنحو 22 عاما. لا احد ممن كانوا ينتظرون ظهور الرواية على الشاشة استطاع الاستعجال، كمصير فلورينتينو نفسه الذي انتظر 51 سنة، لكن الحب جاء في زمن الكوليرا، كما جاء الشريط في زمان لا احد يمكنه تصديق حكاية التجريد الرومانسي والاحباط الذي يتحول بعد صبر طويل الى انتصار، ان الجمهور المعاصر قد يسخر من هكذا حكايات او يقابلها ببرود وباحسن الاحوال بدهشة غير المصدق. اي من سكان الكوكب الحاليين بمستطاعه صرف نصف قرن على قراءة الشعر الرومانسي واغواء النساء بحثا عن سيدته العظيمة، الا يبدو الامر مملا للجمهور المعاصر؟ نعتقد ان هذا سر اجتماعات ماركيز الطويلة مع بارديم، لكون فلورينتينو امتلك مفتاح نجاح الفيلم او سقوطه، وبدون تردد حقق خافيار بارديم فوزا مذهلا لا يقل شأنا عن الانتصار الخرافي لفلورينتينو، فقد امتلك الممثل والشخصية التي لعبها العنصران الرئيسيان للظفر: التحدي والامل!

ليست هناك تعليقات: