04‏/08‏/2008

السينما والتكنولوجيا



افتتح في فلوريدا المهرجان الدولي للسينما والتكنولوجيا في النصف الأخير من نوفمبر وتضمن حفل الافتتاح عروضا احتفالية وكوميديا قصيرة وأفلاما روائية طويلة وقصيرة وأفلاما متحركة وتجريبية ومصورة ووثائقية أنتجها فنانون مستقلون من عدة بلدان. ويبدو أن المدينة الأميركية في طقسها الدافئ أيام نوفمبر سحبت كل منتجي الأفلام المشهورين في القرن العشرين، ابتداء من الأفلام الصامتة المبكرة ولغاية آخر أفلام السينما الرقمية التي تمهر فيها تكنولوجيا الكمبيوتر.إن إضافة مفردة 'التكنولوجيا' لعنوان المهرجان جاء لتركيز منظميه على آخر الاكتشافات التقنية في عالم صناعة السينما وعرض التكنولوجيا الفريدة التي خلقت عالما جديدا للفن السابع وكذلك الطرق التي تستخدم فيها هذه التقنية لعكس مجرى الأحداث التي يشهدها هذا الفيلم أو ذاك.ولعلها فرصة فريدة لصناع السينما والمهتمين بها تجمعوا من الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وإيطاليا وفرنسا واستراليا وبريطانيا والسويد وبلغاريا وروسيا والمكسيك واليونان وكندا والبرازيل واسبانيا وهولندا والكثير من البلدان التي أنتجت هذا الفن الراقي على ما يزيد على قرن، مقدمين ابتكاراتهم الفنية - التكنولوجية في واحدة من التجمعات النادرة التي تجمع بين الفنيين والفنانين. ثقافة البصرياتلقد استطاعت التقنية العالية (حسب زمانها) مد جذور السينما التعبيرية في استخدام الإنارة المعبرة عن كل مشهد كوسط له القدرة على نشر محتوى السيناريو والتحكم فيه والتي تطورت من التقنية البدائية التي تكشف ما يجري في 'اللوكيشن' لغاية التشكيلات الخفيفة والمصطنعة لخلق صور مؤثرة بتنسيق الضوء والظل اللذين طورا السينما التعبيرية إلى الخيالية لغاية وصولها إلى المعاصرة. ولابد من الإشارة إلى أن الضوء المنتج بواسطة الكهرباء لم يصل إلى السينما إلا في عام 1910 والإنتاج الحقيقي التنفيذي جرى في العشرينات فقط ، حيث كانت الإنارة تعتمد على الغاز والضوء الصناعي والإنارة المقوسة، عدا بعض شركات الإنتاج التي اعتمدت على تيار كهربائي غير مباشر، ولا يمكن تجاهل أن الحرب العالمية الأولى عتمت شوارع أوروبا بشكل مؤقت مركزة الطاقة على المصانع الحربية وخدمة القوات العسكرية.



لم ترتق التكنولوجيا برؤية السيناريو بل أدت إلى دمار هذه الرؤية حين استسهلت رواج أفكار لا تملك غير الحماس

التطلع الخيالي
لقد ناقش مؤتمر التكنولوجيا والسينما كل هذه القضايا بمشاركة علماء نفس واجتماع ومؤرخين ومهندسين في مختلف الاختصاصات التكنولوجية، وكل منهم قدم حججه وحاول إعادة تعريف هذه العلاقة الخطيرة بين الحداثة الثقافية والحداثة التقنية وفك الاشتباك في هذا النزاع الدائم بين عصرنة الفن والتطلع الخيالي للتمسك بالأسس العامة للفن الروائي - السينمائي وعدم الانجرار إلى التمزق الذي يسعى نحوه صناع السينما الذين يهمهم الربح المادي، مغيرين أذواق الجمهور بطريقة مؤلمة. لم يظهر شيء في سينما الزمن الجميل من دون إيحاء وقصد ورؤية فنية، غير أن الاستثمار في السينما لم يوازن بين الفن والربح وضيع الفرصة وإن انشغل بالإبداع التقني والديكور المجهز بالحاسوب وديناميكية الماضي الأسطوري والإبداع التقني وولادة الإنسان الآلي والتناغم الجديد للبصريات في تقديم المشاهد المنقسمة والفضاء الخاص والعالم الخارجي والداخلي والاستثمار الرمزي للضوء والظل والألوان كواحدة من الخصائص التي ورثها الفن من السينما التعبيرية كمساعدة للتخمين الفلسفي بتشكيلة واسعة من الأساليب التي تنير الرمزية والأشكال الأخرى.
مأزق التكنولوجيا
ان المتتبع العادي للتطور المذهل في تكنولوجيا السينما ربما لاحظ الفرق بين التكنولوجيا كعامل ترفيهي تستخدم لعرض التسالي على الجمهور وكعامل يخيط التشققات الممزقة في السيناريوهات المفتوحة والمحددة أكثر من اللازم. ويبدو أن صناعة الترفيه الحديثة أفسدت أخلاقية التكنولوجيا وحولتها من وسيلة لمساعدة الشروط الفنية، إلى غاية لخداع المشاهد في مناظر وهمية، وهنا حصل التضارب بين التكنولوجيا كهدف وبين الإمعان فيها لخلق فضاء يخلب ذهن الجمهور فحسب.ومأزق التكنولوجيا الأشد إيلاما هو وجودها في قلب النزاع المتأصل ما بين البنية الجمالية لما يعرض على الشاشة وإيعاز مخطوطة السيناريو لاسيما بعد تحرر الفن من القيود الواقعية والالتزام بالشروط الكلاسيكية للمشهد، الأمر الذي جعل هدف صناع السينما الحديثة جعل المشاهد نشيطا ومنشغلا حتى لو حجبت عنه التكنولوجيا بدهيات في الطبيعة كالأشجار في غابة. ولسوء الحظ، لم ترتق التكنولوجيا برؤية السيناريو، بل أدت إلى دمار هذه الرؤية حين استسهلت رواج أفكار لا تملك غير الحماس، ودون أي منظور جديد، ولو قارنا بين طموحات السينما الصامتة واستخدامها الفريد لما أتيح لها من إمكانات تكنولوجية وبين ما يحصل الآن لوجدنا بارامتر الرواد يفوق كثيرا أحفادهم. تكنولوجيا الفراغكما أن الفضاء في السينما ينبغي أن يشبه الحقيقة وتمديده مفروض لغايات فنية تمثل إعادة تنظيم المكان، ونعتقد أن أهم منجز للحداثة التقنية في السينما طرأ على هذه المسألة وليس على نواح أخرى، وكان ذلك جليا في أفلام الحرب ( التصوير على نطاق واسع) والتصوير الخارجي، حيث الإضاءة مجردة، باستعارة التوقفات من الواقع نفسه من دون الإمعان في اختراق الفراغات كما يحدث في الاستديو، حينما يهتم مديرو التصوير في تمييز البؤر العميقة المتوقدة بالمشهد بانتظام مع المحيط الطبيعي للمشهد العام.


التكنولوجيا حولت العالم الخيالي إلى محيط للأحاسيس فيه الشاشة عنصر بين الفضاء والحقيقة والصورة المتوقعة

اللجوء إلى الشمس
ان التكنولوجيا في السينما تسمح لخلق الأساطير القوية والسحر اللذين يهواهما المشاهد، لذلك كانت السينما المبكرة تعتمد التصوير اعتمادا على ضوء الشمس والاستخدام الثلاثي للضوء بالمرايا الشفافة والعاكسة واستخدام الطلاء للوصول إلى الإنارة الملونة وتفضيل اللجوء إلى الطبيعة لو وهنت الإمكانات التكنولوجية. الفن البصري والأدبي
علينا الافتراض أن مشاهد الفيلم هو قارئ لروايته، الأمر الذي يجعله منغمسا في التحليل والمقارنة ما بين الفن البصري والأدبي لذلك سينشغل بعملية امتصاص القصة، وعلى الشاشة كما لو كان يطالع الصفحة، ولكي يصدق ما يراه على الشاشة على السينما لعب دور المعبر عن المفاهيم غير القابلة للتصديق في النص المكتوب وإيصالها كشيء مألوف وهذا ما بنيت عليه مدرسة 'السينما الكلية' التي اعتمدت على الفضاء الذي يسمح للمشاهد بالتوغل عبره، حيث الأحداث التي تجري لا يمكن أن تؤذي تصديقه في حدوثها. وهكذا، فان الفضاء الطوباوي اعتمد على منظور المشاهد، الذي وافق على دعوة السينما له بتصديق النص الذي يمكن أن يسحبه أو يطرده منها فجأة، وهنا يمكن فهم سبب تقبل الأطفال والمراهقين لتكنولوجيا أفلام الخيال العلمي والرعب والحركة أكثر من سواهم، لأن مسألة التصديق عندهم أضعف ولا يشجعون أنفسهم على طرح مثل هذه الأسئلة لذلك فهم مستثنون من قاعدة رفض العالم الخيالي الذي تنشغل به التكنولوجيا أكثر من اهتمامها بالطبيعة مثلا التي تستغل كأداة فحسب للعزل ما بين مشهد وآخر مع الاحتفاظ بتعاطف الجمهور الذي يبهت عنده العالم الحقيقي بعد أن حولت التكنولوجيا العالم من حوله إلى محيط للأحاسيس، الشاشة فيه عنصر بين الفضاء والحقيقة والصورة المتوقعة التي طورتها التكنولوجيا الرقمية المعتمدة على المؤثرات الخاصة ( وحوش خرافية، انفجارات وهمية، حركات مثيرة، طيران، طبيعة ملفقة، مبان وديكورات مبهرة، معارك ..).
سينما الحاسوب
منذ مهرجان أفلام الصور المتحركة في عام 1991 ومهرجان السينما الرقمية في عام 1998 حققت تكنولوجيا السينما التي تعتمد على الحاسوب طفرات هائلة ساهمت فيها معاهد ومؤسسات تكنولوجيا شهيرة جدا يأتي في مقدمتها معهد التكنولوجيا في نيويورك.وأصبح متيسرا تصوير ومعالجة وإدماج كل ما يكتب على الورق وتقديمه بصريا وبالإمكان استخدام كل الألوان الحساسة بتشكيلة واسعة من الأدوات الرقمية التي تحول أي مخطوطة إلى حركة.كما أن الوصلة بين الصورة الثابتة والمتحركة صارت عادية حتى في تجربة الفيديو الرقمي وبلغ التعاون أوجه في الفنون الجميلة ما بين الرسوم على الورق واقتفاء أثرها في عملية الخلق البصري.ثمة الكثير مما يقال عن علاقة السينما بالتكنولوجيا، خصوصا التطبيقات التقنية وليست النظرية ونتائج الفيديو الرقمي والمؤثرات الرقمية والسي جي والأجهزة التفاعلية وألعاب الفيديو التي خلقت تيارا جديدا سيكون له تأثير نوعي على مستقبل السينما وهو موضوع مثير مرتبط بالتقنيات النامية لا يمكن حصره في موضوع منفرد. واقعية الحاسوبان الصور المتحركة التقليدية لا تعني بالضرورة تصويرها بواقعية، فمثلا ان إيرادات شباك التذاكر أثبتت في سنوات عز التكنولوجيا السينمائية أن المشاهد لا يتعاطف مع الصور الواقعية، بل العوالم الخيالية التي تشجع عدم التصديق، وهذا لا يعني حتمية تعليقه هذه المهمة عندما ينظر إلى صورة متيقن أنها منتجة بالحاسوب.هي إذا مدرسة جديدة في السينما يمكن أن نطلق عليها 'الواقعية التقنية'، فالتكنولوجيا أصبحت الوسيلة الأكثر مرئية في السينما كما لو تم الحسم النهائي لمصلحة 'واقعية الحاسوب' التي تخلق كائنات منقرضة أو مفترضة، يتقبلها الأطفال وأحيانا كثيرة البالغون بعد أن ينالهما الشعور نفسه ضمن السياق العام للعالم المنحصر على الشاشة.


مجال الإبصار
سيرى المشاهد الحركة والانتقال ما بين الفراغات ضمن مجال رؤيته وعليه فقط إدراك الحقيقة والخيال فيها، غير أن التكنولوجيا ستقطع عليه المستويات المختلفة للصورة المفهومة استنادا إلى قراءة الحركة المتأصلة كوهم تخطيطي درس بعناية الطريقة التي يعمل فيها الدماغ والحلم خلال التحرير الانتقائي للأحداث والتفسيرات المتعددة التي يعالجها العقل كإعادة مبسطة للأحداث المعتمدة على حيل النص كما يحدث في ممر ديغون الفيكتوري المزيف في هاري بوتر وحجر الفلاسفة في كرس كولومبس الذين يخلقون الاعتراف في الذاكرة والخيال بعد أن وطدت صورة الحاسوب التي أتقنتها التكنولوجيا والحركة الواقعية للممثلين بعد أن أحكمت سيطرتها على عواطف المشاهد.تقنية الصورة والصوت لم تكن متوفراة في السينما، لذلك كان تحويل النص على الشاشة يبدو مضحكا ومزريا وما عرض من محاولات أخفق في انتزاع التعاطف من الجمهور، لأن تقنية السينما كانت محدودة ومتوقعة ولا يمكنها خلق عوالم أفلام مثل 'حرب النجوم' و 'الخطر الشبحي' و 'عودة الملك' وغيرها من أفلام الدمى التي ضمن نجاحها الحاسوب فقط.من كان يستطيع الولوج في العين وتكبيرها وإدخالها في الرحم وتصوير الجنين فيها بالبراعة التي تطلقها التكنولوجيا السينمائية الآن كفيلم 'لاسيتير' الرائد في مجال سينما الخيال النهائي التي سحبت الانتباه من سينما الحركة المقربة البطيئة مبتكرة 'سينما الجاذبية' التي اعتمدت هي الأخرى على نجوم يتمتعون بقدرة تمثيل عالية وأصوات مميزة كتوم هانكس وتوم كروز وإيدي ميرفي وجون راتزنبيرغر والكثيرين غيرهم.

ليست هناك تعليقات: