04‏/08‏/2008

Ingmar Bergman

سيبقى بيرغمان في الجميع : المجهول والغامض والمنتصر

لا يتذكر أي كاتب سيرة أو ناقد سينمائي أو قارئ عدد الألقاب التي حصل عليها أنجمار بيرغمان، لكنهم جميعا يتفقون على أنه واحد من السادة الكبار الذين أسسوا السينما الحديثة إلى جانب اكيرا كوروساوا وفيدريكو فيلليني اللذين سبقاه في الرحيل، كما دعاه وودي ألين مرة بأنه 'فنان السينما الأعظم'.التحق بالكبيرين في العالم الآخر الذي كان محور أعماله هذا الرجل الاستثنائي الذي تقاعد وانسحب من الحياة العملية والعامة منذ عام 2003 وهو يقترب وئيدا نحو التسعين في بيته المنعزل في الجزيرة البلطيقية المقفرة فارو التابعة للسويد التي ولد فيها، كما أخبرت عن رحيله لوسائل الإعلام ابنته إيفا المتحدثة باسم أطفاله التسعة وأفلامه الثمانين. (تزوج للمرة الخامسة والأخيرة بالممثلة انغريد بيرغمان وقضى مع كل زوجة خمس سنوات لكنه عاش مع السيدة انغريد فون روسين 23 سنة حتى توفيت عام 1995 بعد معاناتها من السرطان وأطفاله التسعة من هذه الزيجات).



كالضوء سأنطفئ فلا تنهمكوا كثيرا في ذلك

ولد ارنست انجمار بيرغمان من رجل دين لوثري (اريك) الذي أصبح قسيسا للعائلة المالكة السويدية وربة بيت (كارين) في 14 يوليو 1918 ونما مع أخ وأخت في عائلة محافظة بشكل صارم وصفها في سيرته الذاتية 'المصباح السحري' والفيلم التلفزيوني عن حياته 'طفل الأحد' أو 'اعترافات خاصة' الذي أخرجه ابنه دانيال.التحق بجامعة ستوكهولم عام 1937 لدراسة تاريخ الأدب، لكنه في الحقيقة قضى معظم وقته في مسرح الهواة، لذلك ترك الجامعة ليعمل في المسرح والسينما مقسما وقته بينهما مطلع الأربعينات حتى ترأس المسرح البلدي في المدينة السويدية الصغيرة الواقعة جنوب البلاد ايسلنبورغ عام 1944 ثم انتقل إلى مالمو بالمنصب نفسه عام 1952.

Documentary on Ingmar Bergman

الصعب للغاية
اقترب في أفلامه من المواضيع الصعبة كالطاعون والجنون وأحاطت رؤيته الغم الخانق لليالي الشتاء الطويلة والفرح اللطيف لأمسيات الصيف المتألقة والروعة الكئيبة للجزيرة حيث قضى سنواته الأخيرة. ويعد أحد أهم صناع السينما الجادة والعميقة والشائكة الصعوبة.لابد أن أهل السينما يعيشون صدمة هذه الأيام، فهؤلاء الثلاثة المذكورون لا يستطيع أحد تعويضهم، فهناك بيرغمان واحد، الرجل الذي تمنح الأكاديمية الفرنسية للسينما دكتوراه في الفن عن أطروحة تحلل خمس دقائق فحسب من فيلم له، وهو الذي قال عنه مدير مهرجان كان السينمائي جلز يعقوب بأنه أثبت أن السينما يمكن أن تكون عميقة كالأدب. لفت الانتباه إليه منذ عام 1955 بشريطه الفظيع التجريبية 'ابتسامات ليلة صيف' الذي كان كوميديا رومانسية ألهمت المسرحية الموسيقية لستيفن سونديم : 'أي موسيقية ليلية' لغاية آخر فيلم صوره لمصلحة التلفزيون السويدي ساراباند عام 2003 حيث بدأ التصوير خريف 2002 وعمره 84 عاما واعتمد على الممثلين الرئيسيين في فيلمه التلفزيوني 'مشاهد زواج' الذي أطلقه 'شعبيا'.ارتبط بأعماله الممثل السويدي ماكس فون مباشرة بعد عرض فيلم 'الختم السابع' عام 1957 الذي عبر مجازا عن سنوات الطاعون في القرون الوسطى والذي ضمنه أكثر المشاهد شهرة في تاريخ السينما. عمل بيرغمان كثيرا في مسارح السويد منذ منتصف الأربعينات بما في ذلك المسرح الملكي السويدي البالغ الإثارة لغاية ترأسه له في الفترة 1963 ـ 1966.غير أنه جلب تسعة من عشرة مشاهدين إلى فيلمه القاسي والدقيق 'مشاهد زواج' المنتج عام 1973 بتفاصيله الحادة عن مراحل تفكك حالة زواج وكذلك فيلمه الأخف المنتج في السنة التالية 'الناي السحري' المستند إلى أوبرا موزارت بعين فتاة تراقب هذه الأوبرا مدعما الشريط ببعض المشاهد الطريفة.
In Memory Of Ingmar Bergman

معاركه مع الشياطين
وصف بيرغمان حياته بأنها 'معركة ضارية ضد الشياطين' وانعكست هذه المعركة في كل أعماله تقريبا مع الموت الذي كان يكرهه فلازمه كحالة عقلية ونفسية تواجه الإنسان في صراعه من أجل الحياة. وثمة من وصف علاقته الفنية هذه بأن: 'الشياطين أوصلته أحيانا إلى الفن العظيم' كما في فيلم 'نداءات وهمسات' عندما يفرك عصارة الأدب في السينما بنداءات امرأة تحتضر بصوتها المتحشرج الذي ينأى إلى مسامع حبيبها: 'أنا ميتة، لكني لا أستطيع تركك'. هذا الشريط رشح لعدة جوائز كأفضل صورة سينمائية لعام ،1973 وتظهر الشياطين في فيلمه 'ساعة ولف' حيث يقدم فنانا مصابا بكابوس يقابل شياطين في جزيرة وحيدة و'الختم السابع' الذي يلاعب فيه فارس الشطرنج مع الموت.

In ricordo di Ingmar Bergman
منفى طوعي
نفى نفسه طوعيا إلى ألمانيا عام 1976 لكي يحرج السلطات السويدية التي تشاجر معها طويلا بسبب حزمها الزائد عن الحد معه الذي وصل إلى الاستجواب الطويل بسبب الضرائب، وأدى تعثر خفقان قلبه بسبب واحد من هذه المصادمات إلى دخول المستشفى وإحداث ضجة عالمية تؤازره، غير أنه عاد بعد تسع سنوات إلى ستوكهولم قلعته المسرحية القديمة وبداياته كمساعد كاتب سيناريو في قسم المخطوطات بدار السينما السويدية عام 1942 وفيلمه الأول 'العذاب' عام 1944 الحائز الجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي لعام 1946، وكان بيرغمان نشيطا في تلك الفترة حيث أخرج فيلمين في العام وكثيرا ما تدرب وتعلم في مراحله المبكرة حتى من أفلامه.

Bergman on Winter Light
المخترع
تعامل بيرغمان بتناوب مع الألم والعذاب والدين والشر والحب الإنساني كأمل وحيد للإنقاذ والإيمان والمراوغة والخداع والبراءة، والفساد، والأمل واليأس، والرغبة والوهم، الصراع بين رجال ونساء سجناء رغباتهم، العلاقة بين الأجناس، البشرية والكون، رسم رائحة الخلود ونور الشمس بارتجافه على النباتات الغريبة وحفر في جدران القرون الوسطى وسقوفها وصور الملائكة والقديسين والشياطين والبشر من ضوء وموت، وتميز بالصورة المقربة للوجه واليد وسمح للكاميرا بكشف السمات الداخلية للعاطفة الإنسانية ولم يخف دهشته بالوجه النسائي كاختراع قصصي فيه سلاسة الحلم ودورة الحياة بين الشفقة والتعويض والاحتفال.قال مرة إنه كان يجبر على الجلوس في الكنيسة ليستمع بملل لخطب الواعظين، لكنه كان يتلهى بفراسة جمالها والضوء الجاري من خلال النوافذ وحينما صور تابوتا ينزل إلى القبر قال: لم أرد تخويف أحد بهذا المشهد، كنت مسحورا به فحسب.لغته السينمائية تتحدث مع الروح وإلى الروح هاربا من سيطرة الأفكار التقليدية والمفروضة مقدما، مشوشا الثبات باندفاع وعاطفة وعمق وجدية تربع على مدرستها لنصف قرن، وكان الأول الذي ادخل الميتافيزيقا والوجودية إلى الشاشة وكما قال عنه بيرتراند تافيرنير رئيس هيئة السينما الفرنسية إن بيرغمان مثل 'عامل منجم يحفر بعمق بحثا عن النقاوة'.حصل على الميدالية الذهبية للأكاديمية السويدية ووقتها سأله الناقد السينمائي أندرو ساريس: لماذا عمل كل الذي عمله؟ أجاب: 'أنا فنان وصانع وتعلمت سحب الوجوه من الحجارة، أطراف ووجوه وأجسام خارج الحجارة، لن أقلق على حكم الأجيال القادمة أو من عاصرني، سيختفي اسمي ما إن أختفي، كالضوء سأنطفئ، لا تنهمكوا كثيرا في ذلك، فلم يمر يوم في حياتي لم أفكر فيه بالموت، لكن ثمة جزءا صغيرا من نفسي سيبقى في الجميع هو المجهول والغامض والمنتصر'.

The Silence
أفلام هزت الدنيا
يعتبر النقاد أن أول فيلم أخرجه كان 'سجن' يعرض فيه حياة مومس تفضل الانتحار بسادية، صوره خلال 18 يوما، بينما سيرته الذاتية الرسمية تشير إلى أنه فيلمه السادس.ويتوالى نجاحه وصناعة الأفلام البارزة التي هزت العالم لغاية فيلم 'فاصل صيف' 1950، 'خادمات' 1952، 'الليل السافر' 1953 ليستمر في 'السونيتة الخريفية' و'ضوء شتائي' و'خزي' و'وجها لوجه' و'نداءات وهمسات' و'الساحر' (جائزة لجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا السينمائي 1959) و'الربيع والعذراء' عام 1960. و'فاني والكساندر' (أربع جوائز أوسكار بما فيها أفضل فيلم أجنبي عام 1984) و'أفضل النوايا' ومأثرته الخالدة 'الصمت' 1963، الفيلم الذي بدا كأنه ضد السينما وخرج كحلم، كموسيقى، تجاوز الوعي العادي وعمل مباشرة لصب العواطف في غسق الروح واختلاجاتها الصغيرة في العصب البصري للمشاهد وتأثيرات الصدمات عليه بتسجيل الظلام وإدارة الفيلم كإطار داخل إطار بتغييرات حركية لا تدرك بسهولة ملتفة بوحشية الحزين الذي تكالبت عليه هزائمه دفعة واحدة.

ليست هناك تعليقات: