05‏/08‏/2008

Michelangelo antonioni

في وداع انطنيوني الذي رزم مآزقنا وضعفنا وهشاشتنا في شريط


منذ بداياته وحتى آخر أفلامه، بقي مايكل أنجلو انطنيوني سيد السينما الحديثة، الرائعة والمقلقة والمثقفة والأخلاقية والمحيرة والمنحازة جدا إلى الطبيعة والاحتجاج والعصرية والمواضيع الضرورية والخشنة التي كانت توقظ الجمهور النائم وتحرك فيه الغضب بإشاراته النادرة التي طورت السينما وبتنبؤاته بانحطاط الحضارة الغربية بالجشع والغطرسة سواء في السياسة أو الحروب الغبية والاعتداء على البيئة وتردي العلاقات الإنسانية.رحل انطنيوني سوية مع بيرغمان في يوم واحد، الإيطالي اهتم بالمأزق الإنساني فيما كان السويدي منشغلا بالأسئلة الكبرى للروح والخلق. والاثنان لم يذرفا الهجاء والشعور المأساوي والسخرية على أفلامهما فحسب، بل التذمر العميق والواعي حتى بتحليلهما لقضايا الحب والجنس والعنف والتشاؤم والغياب والسرور العظيم.لم تأت إشارتنا لبيرغمان، في مقالة مخصصة لتحية انطنيوني بمناسبة فصله الجديد من الحياة الأخرى، بالصدفة، لكنها إرادة المتحف الثر الذي أدخلونا فيه، ولأننا متأثرين جدا بغياب أناس مثلهم وكم ستكون ستوكهولم وروما حزينتين وضعيفتين بغياب رجلين عملا لنصف قرن لكي نستطيع تحمل العيش!


إيقونة الألغاز والهدّام الأكبر للمألوف في السينما

الانبثاق
ولد انطنيوني في 29 سبتمبر 1912 في عائلة ثرية من ملاك الأراضي في مدينة فيرارا الواقعة شمال إيطاليا التي قال عنها إنها مدينة صغيرة وصامتة وبسيطة وأثرية لذلك هي رائعة. في عمر العاشرة بدأ يصمم الدمى واهتم في مراهقته بالرسم الزيتي وكان يفضل المناظر الطبيعية. التحق بجامعة بولونيا وحاز ليسانس في التجارة والاقتصاد عام 1935 وكان يكتب في هذه الأثناء القصة والمسرحية وحاول تصوير فيلم عن المجانين بمواهبه الخاصة والفردية.انتقل إلى روما عام 1940 للعمل كسكرتير وأمين صندوق لكنه لم يتحمل هذه المهن، فوجد له عملا في مجلة السينما ومنها عبر في كتاباته عن كرهه للسينما السائدة وشجعه هذا الاندفاع لكتابة السيناريوهات برز منها 'عودة الطيار' عام 1942 بالتعاون مع المخرج الذي كان واعدا وقتذاك روبيرتو روسيلليني.

Eros - Michelangelo Antonioni

المرحلة الأولى
عاد انطنيوني إلى مسقط رأسه فيرارا وعثر على تاجر محلي رغب في تمويل أول أفلامه وكان وثائقيا عن الحياة التعيسة لصيادي السمك في تلك المنطقة الفقيرة، غير أن القوات الألمانية أحرقت الفيلم واستطاع انطنيوني إنقاذ تسعة دقائق فقط قدمها في مهرجان فينيسيا 1947 المخرج الساحر ألفريد هتشكوك.بعد الحرب كتب انطنيوني النقد السينمائي وخاصة حول حركة الواقعية الجديدة في السينما وصور أفلاما وثائقية قصيرة فاز أحدها بالجائزة الذهبية في مهرجان بينتا ديل إيستا 1951 وحقق انتصاره السينمائي الأول في عام 1955 بفيلم 'الصديقات' الذي صور فيه حياة مجموعة من نساء الطبقة المتوسطة وحاز الفيلم جائزة الأسد الفضي في مهرجان فينيسيا.ولعله الوحيد الذي يرتجل تصوير المشاهد ما إن يضع عينيه على الكاميرا ليبدأ بتحريك الممثلين بعد أن كون في نفسه فكرة كاملة للمشهد ومن الممكن أن هذا الأسلوب استخدمه في كل مشاهد فيلم 'الضجة' 1957.

أحد الأساطير العظيمة في صناعة السينما و شارة شرف في المهنة منذ ولادتها

حالة غريبة
في عام 1959 وجد منتجا يغامر معه في الفيلم المثير للجدل الذي حمل الإحساس الساحق للجفاء L'Avventura، لكن المنتج توفي خلال التصوير، ومع ذلك استمروا بالعمل في جزيرة ووصلوا إلى مرحلة لا يملكون فيها حتى الطعام وهجره الطاقم الأول وعثر على فريق ثان وكان يحمل الكاميرا على كتفه حتى ظهر منتج جديد ليقدما قطعة نادرة للسينما كانت نقطة تحول في حياته المهنية وحصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة لمهرجان كان 1960، فيما حصل فيلم 'الليل'La Notte، الذي قدم فيه مارسيلو ماسترياني ومونيكا فيتي، على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين عام 1961 وفي فيلم 'الكسوف'L'Eclisse 1962 قدم مونيكا فيتي مع آلن ديلون مصورا التاثيرات المادية وما تسببه من عزلة إنسانية بلغة سينمائية لم يسبقه أحد إليها وخاصة الزوايا التي كان العشاق يلجؤون إليها وضجيج الحافلات والنافورات المطفأة وكيف يفرغ الظلام في الشوارع وتلك النهاية التي يزرع فيها البياض الأثير في نهاية الشريط حيث الاضمحلال الكلي للشخوص الذين بلعهم النقاء فيما كانت مشاعرهم تتضاءل في هذا البياض كإشارة إلى كسوف الحس الإنساني.مع ريتشارد هاريس صور عام 1964 أول فيلم ملون له هو 'صحراء حمراء'Deserto Rosso وطبعا مع مونيكا فيتي التي جسدت دور امرأة معتوهة واستخدم ألوانا غير عادية وظهرت البيوت والأشجار مصبوغة بألوان لامعة تتغير من مشهد إلى آخر في تقنية لم يسبقه إليها أحد في تاريخ السينما.وهكذا بحلول منتصف الستينات أصبح انطنيوني أحد أهم وأشهر المخرجين في العالم ولم يفتتح مهرجان محترم في الكوكب، إلا وتصدرته أفلامه.

L'incomunicabilità

إحباط ونهوض
تعاون في فيلم 'الانفجار' مع الممثلين البريطانيين ديفيد هيمنغز وفينيسا ردغريف الذي لا يزال إلى الآن يحمل غموضه ولم يتفق ناقدان على تفسيره، ولكن انطنيوني تعرض لإحراج في فيلم 'زابرسكي' 1970 الذي أنتجته هوليوود بميزانية ضخمة لأول مرة في تاريخه المهني واختار حركة الاحتجاجات الطلابية موضوعا له، وسبب الفشل في جذب الجمهور لشباك التذاكر لهذا الإحراج على الرغم من أن النقاد الأجانب مدحوا الفيلم، لكن أسلوب انطنيوني لم يتقبله الجمهور الأميركي خاصة أن ذلك أدى إلى كارثة مادية لمنتجي شركة 'أم جي أم'.لكن السيد انطنيوني استرد سمعته في فيلم 'المسافر' بطولة جاك نيكلسون الذي حمل قلق الذنب الوجودي بصورة مراسل صحافي يحاول الهروب من حياته الفاشلة بتغيير هويته ولم يترك أي شك في جدية هذا الصناع الأمهر ولا تجادل أبدا منزلة هذا الفيلم في مرحلة السبعينات بأبعاده الجمالية والتزامه الأخلاقي وتأثيراته البصرية.

Enzo Coletta e le interviste per ANTONIONI
اللون الواحد
ارتبط أنطنيوني بمدير التصوير البارز تيفولي كلوتشيانو الذي أعاد رؤيته إلى الطبيعة والريف والمدينة والحكايات والأحلام والكوابيس والزوايا والدرجة البالغة الحساسية والإرهاف للعاطفة منذ فيلم 'الكسوف' عام 1962.واستطاع في كل أعماله قبل عام 1964 وخاصة ثلاثيته الخالدة التي اشرنا إليها L'Avventura 1959، La Notte الليل 1960 وL'Eclisse الكسوف 1962، تجسيد المشاهد بتعبيرات اللون الواحد ووجد الوسائل المثالية لإعطاء الشكل الحقيقي لعوالمه الدقيقة بصبر عال وتقنية منتج دقيقة وأناشيده وفواصله الحادة وجديته الحازمة ومخه الذي مرر بنجاح وعن قصد أفلامه الصعبة لمشاهدي المقاهي ومدى غضبه نحو أفئدة البشر البسيطين وحول عملية الذهاب إلى السينما كمسعى ثقافي.

Lo Sguardo di Michelangelo

الهدام المطلق
لقد كسر انطنيوني كل القواعد وكان أكثر الهدامين المبجلين في فن القرن العشرين وطالما أثار أسئلة لم يجب عليها أبدا وكان الوحيد في السينما الذي دفع ممثلين في أشرطته من دون شخصية واعتمد على التطور النفسي للحالة التي عكسها في الشاشة.دمر أنطنيوني حركة الكاميرا المعتادة وشذوذ زواياه كان متعمدا وشخصياته المركبة ساعدت على تشييد درع عاطفي بين الجمهور وشخوصه المحيرين الذين وصفهم شيخ النقد السينمائي سيمور تشاتمان بأن أنطنيوني لم يقدم أشخاصا سيئين أو جيدين، ولكنه جعلهم مطلقين وهذه نعتبرها لحظته الحاسمة في هدم المألوف في السينما.

مثل كل الكبار
لم يتعرض فنان في زمانه لاستهجان كما جرت الحال مع انطنيوني في ليلة عرض فيلمه Lavventura في مهرجان كان 1960 حين خرج الجمهور وهو يصفر مستخدما أصواتا وتعبيرات رفض مختلفة. لحظتها فكر انطنيوني ومونيكا فيتي (الممثلة التي أصبحت فيما بعد نجمة لامعة ورافقت كل أعماله العظمى في الستينات) بأنهما انتهيا مهنيا!بعد ساعات قليلة من تلك الليلة العصيبة صاغ روبيرتو روسيلليني مع مجموعة من المنتجين والنقاد المؤثرين بيانا أصدروه في اليوم التالي جاء فيه أنهم: 'مدركون للأهمية الاستثنائية لفيلم انطنيوني والأسلوب الحديث المستخدم في الشريط الذي أثار النقاد المتلهفين لإبداء إعجابهم بكل العاملين في الفيلم الذي يعد كإحدى الأساطير العظيمة في صناعة السينما التي تعد شارة شرف في هذه المهنة منذ ولادتها'.بعدها حصل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم الخاصة وحقق ضربة كبيرة في شباك التذاكر في العالم أجمع وأينما عرض وألهب نقاشا عنيفا في الأوساط السينمائية، بعضهم رآه عديم الجدوى وآخرون تأكدوا بأنهم رزم كل مآزقهم وضعفهم وهشاشتهم في الشريط الذي ألهب البرق الصاعق لسمعة انطنيوني العالمية التي جذبت له منتجي هوليوود الذين كان يتحسس منهم مبررا ذلك بقوله إنه يناقش سيناريو أفلامه لعدة أشهر وبعدها يبدأ الحوار مع الممثلين ويجري تغييرات كبيرة على السيناريو بعد هذه المناقشات وحتى البدء بتصوير أي مشهد، يحمل في ذهنه عدة رؤى للمشهد الواحد الذي يصوره أحيانا بطرق مختلفة كما وصفه الناقد السينمائي ديفيس ميلتون : دقيق في الأسلوب، محافظ وهادئ في الخطاب وكمصرفي يحضر صفقة مصيرية.تطول انجازات انطنيوني المهنية ويتسع الجدار الذي حمل جوائزه ويكاد الحيز الذي نتناوله فيه يضيق بكلمة الوداع هذه التي ذكرتنا بالزمن الجميل والهادئ لرجل كان بمنزلة أيقونة ثقافية حمل معه اللغز وغادرنا بسكينة.

ليست هناك تعليقات: