روسيا المعاصرة تعرض تاريخها الذي تعتبره مجيدا في العام الفاصل ما بين التيه الذي عاشته وعودة أسرة آل رومانوف 1612 ـ 1613 في ملحمة سينمائية أنتجها نيكيتا ميخالكوف الليبرالي الذي أصبح مقربا جدا من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى حد دعوته إلى القفز على الدستور وإعادة انتخابه في ولاية ثالثة لا يسمح بها. وهو الفائز بالأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي لعام 1994 في شريطه الموجه إلى نقد الحقبة الستالينية 'الذين هدتهم الشمس'.يحتوي الفيلم على تاريخ مكتوب من وجهة نظر واحدة وخيال تتحدث فيه الأسماك والطيور ويظهر فيه وحيد القرن ومعارك واسعة النطاق منفذة بحرفية عالية وأزياء وموسيقى وتمثيل على أعلى مستوى.ربط لابد منهإنه فيلم يمجد ولادة القيصرية في روسيا عام 1613 وهو اليوم الذي تحتفل فيه روسيا بعيد استقلالها من المحتلين المختلطي الأعراق: بولنديين وأوكرانيين وليتوانيين وتتار وسويديين وألمان وكل الملل التي كانت تحيط روسيا بعد موت إيفان الرهيب حينما وجدت نفسها من غير حاكم قوي يوحد البلاد ويبعد عنها الطامعين ولا يخفى على أي من تابع الشريط، أن قرب منتجه المولود في أوكرانيا من الكرملين والرئيس بوتين شخصيا، لا يستبعد أن يكون هذا الفيلم منتجا من قبل الكرملين بشخص ميخالكوف (لم ينتج فيلم في تاريخ روسيا كلفته 12 مليون دولار كما حدث مع هذا الفيلم بالإضافة إلى أن المخرج لم ينف إسهام الكرملين في التمويل وذكر موقع 'غازيتا رو' بأن تاجر النفط الروسي فيكتور فيكسيلبيرغ ساهم لوحده ب 4 ملايين دولار كمنحة لا ترد لإنتاجه) ليوثب الانطباع لدى الشعب الروسي بأن ما حصل عام 1612 الذي مهد لولادة القيصر ومن ثم روسيا العظمى هو ذاته الذي يحصل هذه الأوقات التي يمسك فيها بروسيا الرجل الذي يعتبرونه الأقوى منذ تلك الأزمنة، وبعبارة مفهومة أن فلاديمير بوتين هو الوريث الشرعي لميخائيل رومانوف. لا يمكن الاستغناء عن هذا الربط في إنتاج ضخم تقتحم فيه السينما الروسية هذا الفن الذي تراجعت بإرادتها عنه منذ الثمانينات حيث لم تقدم غير المحاولات السوفيتية المتأخرة وبعض أفلام البريسترويكا المتهاونة للغاية مع الشروط الفنية.
سيناريو ثابت
الأحداث تبدأ بعد موت إيفان الرهيب وأسر وموت وريثه بوريس غودونوف وفناء عائلته وقتل ابنه فيودور. ومن الواضح أن المادة التاريخية تضغط على السيناريو الذي يحاول الإفلات منها ليقدم قصة سينمائية فيها بعض الخيال والرومانسية ومزيد من الدماء والمعارك لتشويق المشاهد العادي، أضف إلى ذلك، لا يوجد مؤرخان اتفقا على ما حصل في تلك الفترة التي جرت فيها حوادث لم تعرف تماما ولم يحسم الاتفاق التاريخي حولها لاسيما مصير كسينيا بنت غودونوف التي استغلها الفيلم كعنصر رئيسي. وكحال أفلام البطولة الملحمية، لابد من وجود فارس يضمد جراح الأمة ويلحم شقاقها وحتما هناك فلاحون سيبذلون ما بوسعهم للالتفاف حوله لطرد الغزاة والأجانب. وهو وقت القيصر الروسي الأسطوري ميخائيل رومانوف الذي طرد المحتلين البولنديين من الكرملين وإفناء سلالة روريك في عام سل الكلاب الذي أصبح فيما بعد أبهر الأعوام الذي تحتفل فيه روسيا بالاستقلال.
Chroniques du Temps des troubles
الإخضاع والاحتلال
المخرج فلاديمير خوتنينكو يركز على عصر المتاعب الكبرى التي مرت بها روسيا في غضون الغزو الذي تعرضت له الولاية الروسية الفتية من قبل القوات الأوكرانية ـ البولندية المشتركة بمباركة من الفاتيكان الذي كان يحاول طوال التاريخ فرض الكاثوليكية على روسيا التي اختارت الأرثوذكسية مذهبا لها، هذا النزاع الذي أدى إلى تأسيس سلاسة القيصر رومانوف الذي استمر حتى ثورة أكتوبر 1917.وهي محاولة إخضاع أكثر منها احتلال، جاءت في فترة من عدم الاستقرار والفوضى يسلط فيها الضوء على أندريه الخادم في محكمة بوريس غودونوف ولكنه بعد فترة يصل إلى روسيا بصحبة الأمير الإسباني ألفارو بورشا الذي يلقى حتفه على يد لصوص مجهولين وبعد تخفيه سيدعي أندريه بأنه الأمير الإسباني، ليمر بسلسلة من المغامرات في مسعى الوصول إلى الأميرة كسينيا غودونوف بنت بوريس الذي اعتقل ومات في الأسر.
Duel episode
تاريخ مخفف
أن الفيلم لسبب ما ( قد يكون فنيا) خفف تاريخ ذلك الزمان، فمثلا، لم يسمح للقوات البولندية مغادرة موسكو وأبطال تحرير روسيا الحقيقيين مثل كوزما مينين والأمير ديمتري بوجارسكي اللذين نظما فعليا الانتفاضة الشعبية التي أوصلت القيصر إلى الكرملين لم يظهرا إلا في لقطة وحيدة ظهرت بسرعة في خاتمة الفيلم. وللإنصاف ما كان للقيصر الوصول إلى عتبة الكرملين لولا الانتفاضة الشعبية التي نظمها هذان الشخصان. إن كاتب سيناريو 1612 عارف علييف يعد واحدا من أهم الكتاب السينمائيين الروس في الوقت الحاضر وله تجارب ناجحة مع سيرغي بودروف عام 1996 حينما كتبا فيلم 'سجين القوقاز' وملحمته الشعبية الأخيرة 'منغولية'، وإذا كان لم يأخذ حرية تامة في هذا السيناريو لأسباب ستصبح معروفة لمن يقرأ هذا المقال حتى النهاية، فأن إهماله لتفاصيل مؤثرة لا يترك فرصة لمحاباته.
1612 movie music theme
تسييس لا ينكر
خوتنينكو الذي لم ينكر اشتراك الكرملين في إنتاج الفيلم، لم يعلق أيضا على تعليقات أفادت بأن الإنتاج كان موجها من قبل النخبة الحاكمة والصفوة القومية ـ الأرثوذكسية الروسية وتشديده على أن غرض الفيلم للترفيه لم ينطل على أحد، لأن في الفيلم توجها سياسيا معاديا للبولونية اعتبره البعض الرد الروسي للفيلم البولندي 'كاتي' الذي أخرجه أندريه واجدا متناولا فيه مذبحة 'كاتين' التي أعدم فيها الجيش الأحمر آلاف الضباط البولونيين ودفنوهم في غابات كاتين في سيبيريا وتم الكشف عنها في الأيام الأخيرة لحكم آخر الزعماء السوفيت ميخائيل غورباتشوف ولم يخف الفيلم أبدا معاداته لروسيا كفيلم جيرزي هوفمان 'بالسيف والنار' المنتج في بولندا 1999.أما الممثل البولندي مايكل غيبروفسكي (عمل في الفيلمين البولنديين المذكورين والمعاديين لروسيا وليست مشاركته في هذا الشريط مصادفة أبدا)، فينافس أندريه على حب كسينيا ويلعب دورا خفيا في تنفيذ مؤامرة الفاتيكان ويبذل ما في وسعه لجلب الكاثوليكية الرومانية إلى أرض منافسيها الأرثوذكس ولم يكن أداء الممثل الإيطالي المخضرم غابريل فيرزيتي بدور الكاردينال أقل شأنا منه.
زمن المصائب
كما يعتقد بعض النقاد أن ظهور مثل هذا الفيلم في وقت تستعد فيه روسيا للانتخابات يكرس الوطنية لدى الروس الذين لا يعرفون تاريخهم جيدا خاصة الأجيال التي لم تقرأ جيدا ولا يدع أي مجال للشك في مقارنة زمن المصائب في القرن السابع عشر بما حل في روسيا من مصائب مماثلة غاب فيها القائد الأسطوري بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وظهوره بشكل فلاديمير بوتين الذي يقارع المحاولات الأميركية للسيطرة على الكوكب في القرن الواحد والعشرين وفرض الهيمنة بطرق مختلفة كما حصل لروسيا في أوقات الغزو المبارك من الفاتيكان. لقد قالها خوتنينكو بلا مواربة في واحدة من مقابلاته الصحافية: على الشعب الروسي الشعور بالفخر بأن ما حدث في التاريخ القديم من نهضة يحصل الآن بعد 400 سنة! وثمة ربط آخر، وهو أن الكرملين أقر تاريخ دخول رومانوف إلى الكرملين قبل عام واحد فقط كعيد وطني تحتفل به روسيا أسموه عيد الوحدة الوطنية. إن فيلم 1612 بعنوانه الثانوي 'سجلات زمن المصائب' هو صورة مثالية للأسلوب السوفيتي في السينما، وبالتحديد في أفلام الدعاية السوفيتية ويذكرنا بالطريقة ذاتها حين كلف إيزنشتاين بإخراج فيلمه النادر 'الكسندر نيفسكي' من قبل السلطات السوفيتية عام 1938 بغية توحيد الشعب السوفيتي ضد التهديد النازي.إن فضول المشاهد وحده سينقذ الفيلم، فنوعية الشريط تحمل الصور التي تجبر على الانتباه الفائق بنوعية إنتاج عالية لا يمكن التغاضي عنها وأداء هائل من سلاح الخيالة بتفوق رهيب من قبل فرسان محنكين يذهلون الناظر إليهم ناهيك عن الجهد الجبار الذي نفذه الإنتاج بإعادة بناء المدن التاريخية وتصميم ملابس ذاك الزمان ليظهر كعمل رائع من الناحية الجمالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق