31‏/07‏/2008

الجنة الآن Paradise Now


قصة مثيرة وجريئة يغرزها المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد تحت جلد مشاهدي فيلمه الروائي الطويل الأول 'الجنة الآن' المرشح لأوسكار 2006 كأفضل فيلم أجنبي والفائز بجائزة مهرجان برلين وجائزة 'غولدن غلوب' وجوائز أخرى عديدة كلها خارج العالم العربي، مع أنه عرض في مهرجانين عربيين للسينما في القاهرة ودبي. يلتهب الشريط بعلم النفس والسياسة مركزا على الجانب الآخر للعمليات الانتحارية ويستمر اشتعاله حتى الثواني الأخيرة الغامضة وفضل أبو سعد الذي كتب السيناريو بمشاركة بيرو باييرد تحميل المشاهد أكبر قدر ممكن من الترقب وتدهور الأنفاس ولم تعقه التدخلات الجانبية لحوارات سياسية فطنة ابتعدت عن القوالب الجاهزة لنظرية المؤامرة وأشبع الكثير من الأجزاء بشحن عاطفية محسوبة حتى في تلك اللقطات التي تعكس لقاءات عادية في الأسواق والمطاعم ونقاط التفتيش ومواقف الحافلات والنظرات الحادة المليئة بالشك والعداوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين مازجا المناخ السياسي المتفجر في المنطقة بطريقة سينمائية غير معقدة حتى في تناولها مسألة هدر الدماء والموت الذاتي وتصديره للآخر من قبل شابين فلسطينيين يعملان في ورشة لتصليح السيارات في نابلس لهما كل الطباع الإنسانية العادية، في الوقت ذاته يحملان الشكوك والتخوف في تنفيذ مهمة انتحارية وضعت في طريقهما بعد تعرفهما على قائد إحدى المنظمات الفلسطينية المهتمة بتنفيذ هذا النوع من العمليات من دون تمهيد درامي معقول، فالشابان مؤمنان بقضيتهما ولكن ليس إلى حد الموت، كما أن إيمانهم الديني كان ينقصه الالتزام بالصلوات المنتظمة.
الجاني والضحية
هكذا انشغل الفيلم بتفاصيل سعيد وتحضيرات خالد (الفنانان الفلسطينيان قيس ناشف وعلي سليمان) المتضمنة حلاقة الشعر وربط الحزام الناسف وإعداد بدلة مناسبة لتمثيل حضورهم إلى حفل زفاف وتسجيل البيانات النهائية للعملية الفدائية على الفيديو وقراءة خطبة صغيرة توقفها تعطل الكاميرا وحوله كان رفاقه يتناولون الطعام بهدوء. يركز الفيلم أكثر على سعيد المولود في مخيم للاجئين أعدم أبيه بتهمة التعاون مع إسرائيل عندما كان عمره 10 سنوات ولا يبخل السيناريو في الدق على الارتباك بين الجاني والضحية وتبديل أدوراهما من حين إلى آخر لاسيما عندما يبدأ الحديث عن 'المساواة في الموت' كحل وحيد للظلم.
توازن صعب
يوفق السيناريو في الإمساك بالتوازن الصعب بين السياسة والفن، فالقصة تجري في سياق سياسي لكن لم يعطلها النقاش والخلفية التاريخية المرهقة وقدم وجهة نظر فلسطينية بديلة قوية للغاية في شخص سهى (الفنانة المغربية لبنى الزبال) التي طارت بينها وبين سعيد شرارات رومانسية لم يطفئها اعتراضها على العمليات الانتحارية التي اعتبرتها نمطا مأساويا للانتقام الذي سينجب انتقاما يمعن أكثر في اضطهاد الفلسطينيين، وينجح الفيلم في تثبيتها كسلك معلومات أساسية يحمل الكثير من الجوانب الأخلاقية والعاطفية.ان الفيلم يقدم اقتراحات خطيرة للمشاهد الغربي خاصة المؤسس على دعاية مضللة فصورة الإرهابي عنده سوداء وشريرة وهنا انحصرت مهمة أبو أسعد الرئيسية في إزالة الأفكار المسبقة وتشويه السمعة المتأصل وتحقيق نجاح فني وتجاري لفيلمه المنتج من قبل ممولين هولنديين وألمان. أنه يركز على الآلام الكبيرة التي تقود الإنسان لتفضيل الموت على الحياة مختارا رجلين عاديين راغبين بالتضحية بحياتهما كمعادل لرفع الظلم وبذلك كسب الفيلم فوائد تكتيكية فكرية وسياسية.


لمن الجنة؟
لم يقصد السيناريو تلك الفكرة السريعة في أن الانتحاريين يحصلون على تذكرة فورية للجنة حال تفجيرهم أنفسهم حسب معتقدات الجماعات التي تؤمن بهذا الحل، لكنه يوضح أسبابا دقيقة لقيام خالد وسعيد لإنجاز هذه المهمة، أرادا إثبات المساواة في الحياة والاضطهاد والموت هو المعادل العظيم لشبح والده الذي يطارده. وهناك من وراء الخطة جمال (عامر هليهل) وصوت الضمير سهى التي تتألق في الثلث الأخير من الفيلم بعد أن أبدع المخرج في تطوير شخصياته وولد الترقب الكافي وصولا إلى النهاية المثيرة. فيلم قاس للغاية ومن أندر الأفلام الموضوعية التي تناولت الصراع العربي ـ الإسرائيلي وأنجز هدفه بجدارة، لكن ذلك لا يعني أنه ناجح تماما كمخاطرة سينمائية تقدم ملحدا متيقنا من فنائه بعد سحب زناد الحزام الناسف، وكأن السيناريو أراد إبعاد الدين عن هذا الصراع، مدركا أن دخول الدين إلى الصورة سيغطي على معنى الفعل، وخالد ناكر الذات ويضحي وهو مؤمن بأنه لن يكافأ فورا بالخلود في الجنة، وعدم إيمانه واضح من الحوار بينه وبين قائد العملية الذي يحرضهم عليها: - ماذا سيحدث بعدئذ؟ - سيلتقطك ملاكان. - هل أنت متأكد؟ إنه أول انتحاري يشك في جوهر المسألة وهذا أخطر عنصر يقدمه الفيلم ولأول مرة حتى في الآداب المعاصرة، فالمخرج فلسطيني مولود في إسرائيل مولته أوروبا ووزعت فيلمه شركة وارنر الهوليوودية المعروفة وهو بذلك منساق نحو حتمية الحياد بالشفقة وجلب الانتباه لأولئك البشر البسيطين الذين يرسلونهم إلى الموت من دون أن يتجرأ أي منهم ويذهب بنفسه، إنها قصة إنسان لا يؤمن بالجنة، لكنه يظفر موته ويراقبه حتى يجيء.
مرح مظلم
ان أبو سعد امتلك كل عناصر السينما التي تشد انتباه المشاهد، وعلى الرغم من الحزن الفظيع الذي تحمله اللحظات، إلا أنه يطعمها بمرح مظلم كتعطل الكاميرا خلال تلاوة الوصية والطريقة التي يمضغ فيها من قادهم إلى الموت طعامه ونظراته خلال إعلانهم الموت من أجل الحرية. كما أن علاج المشاهد الرومانسية جاء بحساسية خالية من الموسيقى ومع ذلك كانت تسمع بأداء الممثلين الرائع وكيفية غرق الحقيقة القاسية ببطء خلال زيارة خالد الأخيرة إلى بيت صديقته سهى في الليل والخطوط الحادة بين الجاني والضحية، الشجاعة والشك، التضحية والثأر، حافز الموت المجتر من الماضي المؤلم والعجز الموجع لتقبل حياة مريرة واللغة القوية التي تصهر الاضطراب النفسي والكلفة الإنسانية الشاقة لهذه الحرب لكلا الجانبين، كلها عناصر حافظ عليها الشريط بثبات ليقدم منظورا مختلفا عن النزاع.


جدال وعنف
ان طاقة الفيلم الكبيرة امتدت إلى كل المعنيين، فلم يخرج من دون تضحيات، فقد تم اختطاف مدير التصوير وحدث انفجار في موقع التصوير أدى إلى وفاة بعض المارة وتحمل الفريق والطاقم العديد من الهجمات العسكرية والمشاكسات وسوء الفهم من الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء. لكن الفريق صمد أمام التعصب وكان التزامه راسخا بقضيته الفنية وبالمعادلة التي أراد تقديمها: لا آمن لكم طالما لا شيء لنا!
إنجاز مدهش
جرأة أبو أسعد أنه صور الأبطال الذين أسيء فهمهم وتجاسر في إدخالهم إلى عقول الغربيين بعد أن دخل إلى عقولهم أولا وكأنه يقول إن الأشخاص الذين يقومون بالأعمال الانتحارية لا يختلفون عن أي واحد منا وهذه واحدة من رفعة الفيلم التي جعلته مثيرا ونال إعجاب أعدائه بصورته المتوازنة. وبالتأكيد فإن الفيلم يعتبر إنجازا مدهشا من وجهة نظر محافظته على العدل والموضوعية وتقديمه أفكارا مختلفة وغير سائدة خارجة عن الدارج والمألوف. وإدهاشه أنه يجيب عن الأسئلة التي يطرحها والمخاوف التي تحرك ميلودراما العالم السينمائي ليس بالطريقة التي يتوقعها كل من شاهده بطريقة مستفزة، محزنة وقوية، وحصل الشريط قوته من نزاهته وتصميمه الشديد على التوضيح بدلا من التبرير والإدانة ووضع الوجع الإنسان وأفعاله الغامضة. وهكذا يكسب الفيلم رصانته من التزامه بالهدوء في معالجة قضية ضاجة ويولد الألفة بين المشاهد الغربي وأناس طالما كرههم ومن هذا الجانب لم تكن مهمته سهلة لهذا فيه شغل بارع جعله يخترق مسامات الآخر.
فوضى صافية
لقد حول 'الجنة الآن' بمهارة عناوين بارزة نقرأها يوميا في الصحف إلى قصة الأناس اللطيفين والأبرياء والكادحين والمطعونين والمظلومين والتائهين الرافضين للإذلال كما يقول خالد عندما لا تفرق لديه قيمة الحياة والموت: 'نحن تحت الاحتلال موتى' و:'حياة من دون كرامة عديمة القيمة' فيما تصر سهى على المبدأ: هناك طرق أخرى لإبقاء القضية حية'، لكنه في النهاية يرى بأنه 'لو كانت الحياة جحيما فإن فكرة الجنة ستكون كافية' و'مادام هناك ظلم لابد أن تكون هناك تضحية' و'أنا أفضل أن آخذ الجنة في قلبي عن العيش في هذا الجحيم'.

ليست هناك تعليقات: