30‏/07‏/2008

الأفلام اللاتينية العميقة والساحرة



ليس بالمصادفة أن نختار أربعة أفلام فازت بجوائز لا يمكن إحصاؤها في مقال واحد تقدمها سينما أميركا اللاتينية المجهولة للكثيرين وربما حتى لمحبي فن السينما.وطبيعة الاختيار صممت لكي تناسب صنوف السينما لكي يتم التعرف على الفن اللاتيني في السينما الوثائقية وسينما الأطفال والروائية الطويلة للراشدين. فلنعبر السور الذي طالما أعاقنا عن رؤية الروائع بسبب زحام السوق بالدارج والعادي والرخيص والسريع والتافه، باستكانة من يريد رؤية فن راق يسحبنا إلى سمو مؤقت نحترم فيه الأبصار والعقول والرؤى.

تحيا كوبا
ترشح هذا الفيلم للأوسكار وفاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان و25 جائزة أخرى وهو إنتاج كوبي ـ فرنسي مشترك حواره باللغة الاسبانية والإنكليزية أخرجه خوان كارلوس كريماتا مالبرتي المولود في كوبا عام 1961 وأنهى فيها دراسته في المعهد الوطني للسينما وفاز بعدة جوائز عن أفلامه الوثائقية وفلمه 'ندى' المنتج عام 2002 حصد جوائز كثيرة وفجر السينما الكوبية في كل المحافل الفنية. يهتم الفيلم بقضية هجرة الكوبيين والعلاقات الأسرية المعقدة التي تدفع إلى ذلك من خلال زميلي الدراسة خورهيتو (خورهيتو ميلو أفيلا) ومالو (مالو تاراوه بروشيه) اللذين يعيشان في كوبا، لكن والدة مالو الغنية السليطة لاريسا فيغا ألمار المنفصلة عن تحاول الهجرة إلى أميركا مع ابنتها، وهذا يعني انفصال الصديقين الحميمين بعضهما عن بعض إلى الأبد، لذلك سيجوبان البلاد طولا وعرضا بحثا عن والد مالمو الاشتراكي الصارم الذي يحرس فنارا بعيدا مئات الكيلومترات عن العاصمة ليقنعاه بالتصرف حيال هجرة زوجته المطلقة. لقد كانت رحلة المراهقين بمنزلة رحلة الأمل وجوهر الشريط الذي نقل المشاهدين إلى كوبا الحقيقية من خلال هذا السعي الذي بذل فيه خورهيتو ومالو كل جهدهم مستغلين الأقدام والحافلات والسيارات والدراجات النارية من أجل لم شمل أسرة وصداقة رائعة على وشك الانهيار. أداء جذاب من المراهقين اللذين كانا أحد أهم عناصر جاذبية الفيلم الذي حمل كوميديا سياسية عميقة لاسيما حينما يعرض الدروس الضرورية للحزب التي تتحدث عن ضرورة التضامن وحماقة الهجرة والمشاكل اليومية للأطفال والمراهقين الكوبيين. ولعله قريب لحكاية 'روميو وجوليت'، فالصداقة بين المراهقين مهددة من الأم لاريسا التي تمنع ابنتها مالو على الدوام من اللعب مع خورهيتو ووالده يضع قيودا مماثلة على هذه الصداقة. وكما عانى 'روميو وجوليت' من اهليهما، سيجد البطلان الصغيران العوائق نفسها في شريط منتج كاملا في كوبا بكل عناصره كاشفا تأثير الهجرة على الأطفال الذين سيضطرون الى ترك منشئهم وحياتهم وأصدقائهم وامنياتهم ومتعهم ليواجهوا تحديات جديدة خاصة أن القانون الكوبي فرض قيودا صارمة على عودة المهاجرين وهذا يعني ان المهاجر سيكون كالميت بالنسبة إلى أحبائه الذين فضلوا البقاء في كوبا.لم تكن رحلة الصديقين الصغيرين هربا من الافتراق وهجرة أحدهما، بل كانت رحلة إلى قلب الأمل ودعوة إلى الآباء في ان يأخذوا في الحسبان آراء أطفالهم عندما يتخذون قرارات مهمة كالهجرة خاصة عندما يكون هؤلاء الأطفال أصحاب الشأن الأول. فيما يتعلق بالإنتاج، فإن خوان كارلوس استعان بشركة إنتاج التلفزيون الكوبي بالتعاون مع شركة إعلان فرنسية ومؤسسة أفلام أميركا اللاتينية الجديدة ومركز مارتن لوثر كنغ الابن والمركز التلفزيوني للطفل الأميركي اللاتيني وغيرها من المؤسسات الفنية الكوبية التي ساعدت خوان كارلوس على الاستمرار في رحلة الأمل.




إنكار ناثيون
فيلم بارع من الأرجنتين فاز بجائزة الابتكار في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي يقدم ملكة جمال البلاد السابقة إرني (سيلفيا بيريز) التي مضت بها الدنيا بسرعة من دون أن تصدق أنها أصبحت في الأربعين لتحاول العودة مجددا إلى أيام مجدها في العشرين من عمرها ولو بالملابس والتصرفات الصبيانية. أداء مميز من سيلفيا بيريز كانت بالفعل تحاول التأكيد وهي في الأربعين أنها ملكة جمال الأرجنتين والممثلة الذائعة الصيت التي لم تغب يوما عن التلفزيون واهتمام المشاهدين، وعلى الرغم من أن هذا فيلمها الأول الروائي الطويل، إلا أن بيريز لم تدع أي مجال للشك في موهبتها الكبيرة في التمثيل وجرأتها الكافية التي أفضت لها المساحات الفارغة لكي تسير قدما للتألق.المخرجة الشابة أناهي برنيري ولدت في بوينس ايرس عام 1975 وكانت قد كتبت سيناريو فيلمها الروائي الطويل الأول 'عام بلا حب' 2005 وفازت به بجائزة الدب الصغير في مهرجان برلين السينمائي ولها أفلام 'عارضة أزياء برسم العمل' 1997 و'سيلفيا بريتو' 1999.وعلى الرغم من بعض مشاهد إرني الجريئة، إلا أن الفيلم مهذب اجتماعيا ودراسته عميقة للذات النسائية وفهمهما للجسد وتميز الشريط بكوميديا معتدلة وتعقيد طبيعي لطرق التصوير الذي ساهم فيه دييغو بوليري الذي جهد نفسه في تحليل صور إرني في شبابها وتقدم العمر بها والظلال التي تعمدها في الإنارة والبصريات الأخرى الموحية بقرب الشيخوخة واللعب في تحديد الزوايا التي التقطها لجسدها والتي تعبر عما تود أن تكون عليه بطريقة فذة ساعدت السيناريو الذي لم يقل كل شيء في الحوار وترك الكاميرا تعبر عن الحدس غير المرئي، ومن الواضح ان برنيري ملأت 96 دقيقة من شريطها بكل ما تريد قوله دون أن يهمها في بعض المسارات الطويلة تعاطفها مع جمهور قد يغلبه الملل أو الخيبة حينما يرى تجاسر امرأة في منتصف العمر تبدو كمراهقة تافهة توشم ذراعها وظهرها وتلطخ جلدها العاري وتضع مكعبات الثلج في النبيذ الأحمر وتردد عبارات غريبة محاولة مجاراة من هم أصغر منها في سخرياتهم المذلة ظنا منها أن ذلك سيعيدها إلى أوقات الثمانينات حينما كانت رمزا للجمال في الأرجنتين.انها حكاية مؤثرة في كل الأحوال وتمس مشاعر الكثير من المشاهدين الذين يعانون من افتراء الحياة، لكنهم لا يملكون شجاعة إرني. ومنح سيناريو برنيري الفيلم زخما قويا وإحساسا عميقا في كيفية كسر الوحدة لامرأة عزباء لا تعني شيئا لأي احد في وقت كان رجال البلاد أجمعين يهرعون وراء ذيل فستانها. ان مدير التصوير ساعد المخرجة وتفنن للغاية في منح الشريط قدرة تصوير النجم الباهت حتى في الألوان التي استخدمها وكذلك الذبول في الهمسات الضيقة للحوار وعتمة المرأة التي تتطلع إلى صورتها في بركة الحديقة في اللحظة التي تحاول فيها الخروج من عزلتها وسلك الطريق الوحيد المكتوب لها أن تسير فيه.




90 ميلا
فيلم أقرب لأن يكون وثائقيا ينسل إلى العالم الخاص لكبار الموسيقيين في أميركا اللاتينية وكم عانوا من مصاعب وبذلوا جهودا جبارة لأن تصل موسيقاهم إلى كل العالم في تتابع دقيق لمسيرة 50 عاما من تطور الموسيقى اللاتينية التي برع في تسجيلها المخرج ايميلو ستيفان موظفا الألبومات الحقيقية واحاديث المبدعين الذين شاع فنهم وطغوا على سواهم الذين توافرت لهم فرص أكبر. ولعل هذا الشريط المنساب باللغة الإسبانية والإنكليزية هو الأفضل الذي تطرق للعمل الاستثنائي للموسيقيين الكوبيين الأكثر رواجا في العالم بمؤلفاتهم الصادقة ونياتهم المبجلة التي أثرت على أجيال عديدة وبنطاق واسع مثل بابو لوسا وجوني باشيسو وكانديدو كاميرو وباكيتو دي ريفيرا ونيلسون غونز وأندي غراس وشيلا إي وكارلوس سانتانا وجيوفاني هيدالغو وخوزيه فيلاشينو ولويس إنريكو وتراصف رائع للجيل الجديد من النجوم البارزين. عرض الفيلم الحياة الخاصة لكتاب الأغاني وربطها بالموروث الشعبي واللمعان الذي تلقته حال صدورها ودهشة التلقي التي بذلت سعيها ليتحول الشريط إلى رسالة رومانسية من كوبا إلى العالم. وهناك الموسيقى الكوبية التقليدية البالغة الحماس والحركة والرشاقة والمكسيكية المعاصرة ذات الشاعرية المرغوبة من قبل طيف واسع من المستمعين، ولم يفت الفيلم التوقف عند العازفين المنفردين المهرة والاتقان المبهر الذي قدمهم إلى أوائل الصفوف في عالم الموسيقى وتاريخها. ثمة 14 أغنية يتابعها الشريط تسجل جذور الموسيقى الكوبية الممتزجة بالثقافة الإسبانية ولاسيما الشريط الذي عبر بآفاق الموسيقى اللاتينية والأكثر مبيعا في عام 1994والمسمى Mi Tierra المتميز بإيقاعات ال Afro الكوبية الأصيلة.ثمة ما ينبغي الإشارة إليه هو أن '90 ميلا' هي المسافة بين كوبا وفلوريدا حيث يقطن أغلب الموسيقيين الكوبيين الذين اختاروا العيش في المنفى، الذين تحييهم غلوريا استيفان في ألبومها الجديد الذي اطلقت عليه تسمية الفيلم نفسها والذي يتصدر قائمة المبيعات الآن في الأسواق الأميركية والأميركية اللاتينية. يذكر أن إيميلو استيفان ولد في هافانا عام 1953، لكنه رحل إلى الولايات المتحدة في سن المراهقة وعمل منتجا للتسجيلات وساهم في إبراز الكثير من النجوم اللاتينيين المعاصرين مثل شاكيرا وجينيفر لوبيز وريكي مارتن وكذلك زوجته غلوريا وحصل على 14 جائزة غرامي وأنتج العديد من الأفلام الوثائقية وفي عام 2005 حاز جائزة أفضل مؤلف للأغاني.


ضوء صامت
فاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي 2007 منتج من المكسيك وفرنسا وهولندا وألمانيا بإدارة المخرج المكسيكي كارلوس رايغاداس الذي بدأ الفيلم بأطول لقطة صامتة استمرت 6 دقائق يتابع فيها بزوغ الفجر ممهدا المشاهدين لأسلوب لا يعتمد على الحركة، بل على التأمل والحوار القليل الذي يعني الكثير الذي تبناه المخرجون العظام وتعد المشاهد الأولى الطلقة الافتتاحية التي ستنبه الجمهور بأن قطعة فنية ممتازة ستقدمها إليهم السينما طوال 132 دقيقة. يقدم رايغاداس الأزمة الذاتية الروحية والأخلاقية والنفسية وصراع لازدواجية الإنسان، ما بين إيمانه الديني ونزواته الخاصة، في شخص رجل متدين يوهان (كورنيليو وول فيهر) يتورط بعلاقة عاطفية مع ماريان (ماريا بانكراتز) يشعر بأنها تمس مشاعر زوجته إستر (ميريام تووس). ويعتبر أحد تلك الأفلام التي تبرز بفضل عناصره الجمالية التي لا يمكن نكرانها والتي تترك المشاهد يذوب في الصور الروحية والسحرية جدا والطبيعة المدهشة وموسيقى تصويرية تحفها أصوات الحيوانات التي تصاحب مرحلة الظهور المفاجئ لعالم ما وراء الطبيعة، تلك الأجواء المغرية التي تصاحب المطر وهو ينزل على جبين الزوجة المستسلمة بهدوء إلى الحزن والسأم من رفيقها الذي تفقده شيئا فشيئا. ان فريق الممثلين مجهول، لكن النجم الحقيقي كان 'المنظر الطبيعي' كقطعة بصرية نادرة وكضوء صامت لكنه يتحدث بلغة أخرى وحوار غير مسموع للبشر المهمومين بالآثام اليومية. حقا هو إنجاز رائع للمكسيكي كارلوس رايغاداس والعدسة البليغة لألكسيس زابي (ربح الجائزة الذهبية للتصوير في مهرجان كان) والهيام المركب في أداء وول فيهر والانعكاس المتداخل مع الحقول المثلمة بالانتظار. وهو فرصة كبيرة لرؤية السينما الشعرية تتدفق مع فيلم في غاية الصعوبة بهدفه الغامض والتغيير التدريجي في الضوء طوال اليوم كان سردا للحكاية وبمثابة الدورة الحزينة والقاسية للعذاب والوحدة والفردية، الإنسان من جهة ودوران الأرض من جهة أخرى، اقتراح للولاء والانصهار في الضوء كعامل يمثل النقاء والخطوة الجديدة الداخلة في دورة الحياة والموت، وكأن من رسم لوحة الفيلم حاول القول أن الحب يموت بسبب قلة العناية وأن الخسارة في الحب كذبول الضوء وأن التضحية يعادلها وزن المطر ومرح الفراشات المنتشية بأخبار الصمت.

ليست هناك تعليقات: