29‏/11‏/2009

Love Happens


شخصيا لا استطيع إحصاء عدد الأفلام التي حملت مفردة الحب في عنوانها، لكنني أشهد أن أفلام الحب العميقة، لم تظهر من هوليوود ولا من كتابها ومخرجيها وشركاتها.
وعندما تنشأ هكذا، وأنت شبه متيقن، أن هوليوود لا تستطيع – لأسباب لسنا في محل مجادلتها – إنتاج سينما مدهشة يكون الحب موضوعها، وحينما تفشل في تحويل أعظم روايات الحب في الإنسانية إلى السينما (كما حصل على سبيل المثال، في بارقة غابريل ماركيز «الحب في زمن الكوليرا» وتم تحليل شريطه في هذا المكان)، فمن الصعب أن ترسلك هواجسك إلى ما هو أبعد من مشاهدة «قصة حب»، تنمو مع عناصر سينما هوليوود الأساسية، حكاية مبرمجة ينفذها نجمان معروفان وفريق محترف تقنيا يضمن لك تقديم صورة لطيفة، وفي النتيجة لم تصدم هوليوود افتراءنا القديم، ونفذته بلا مفاجأة تكدر مسلماتنا.


تسكع في الغموض
صحيح أن واحدة من أهم مهام السينما، إبعاد النوم والإغفاء عن الجمهور في صالاتها، إلا أن المخرج براندون كامب وكاتب السيناريو مايك طومسون سلكا الطريق السهل في «الحب يحدث»، باستمالتهما النجمين آرون إيكهارت وجنيفر أنيستون لأن يكون الأول أرملا بما تحمله الكلمة من كرب والثانية امرأة وحيدة من سياتل تحمل ما تعنيه مفردة «الأمل»، وعليها أن تفرج عن مسلسل أحزان، لا يملك المشاهد إزاءها، غير الانفجار بالبكاء وتجفيفه دموعه ببقايا تذكرة الفيلم.
وبيرك (إيكهارت) الكاتب الذي وفق في أن يتصدر كتابه المبيعات ويتسلق فوقه ليلقي المحاضرات ويعلم الناس مغزى الحياة، فيما يصبح علامة تجارية في عالم النشر، وهو بذلك، وعناصر أخرى مختلفة، مزيج فاتر لشخصية تكدس عباراتها الأنيقة في حلقات النخبة، غير أنه يستخدم لغة الإشارة لو تطلب الأمر مغازلة في ممرات فندق، وكذلك لا يعيقه استرجاع وفاة زوجته قبل ثلاث سنوات في حادث سير، في الوقت الذي يرغب السيناريو فيه، كإشارة إلى «الشفاء العاطفي» الذي كان يدعي حضور ندواته إليه، محذرا إياهم من «المشي على الجمر» وبعض الهراء الآخر.
المثير أن كامب وطومسون، لم يقدما الكاتب الذي تحدثا عنه، لأن بيرك بدا شخصا افتقر إلى البصيرة وخلا من الكاريزما، ممل الغايات وألاعيبه بسيطة
ينظم ندوات جماهيرية لمساعدة الناس على تحمل الفراق، لكنه يركل حزنه بجبن بلا محاولة لفحص مشاعره، وفي النتيجة، سيدفعنا ذلك إلى التساؤل: لماذا كان الجمهور يستمع إلى نصائحه بتأثر ويصدقها!


مقاولة حب
وهذا السؤال لم نطرحه على الهامش، لكونه جوهر «حدوث الحب»، لأن إلويس (أنيستون)، التي كانت تمثل بلا عينين حيث اختفى بصيصها القديم، واحدة من هؤلاء الذين جلسوا يتعلمون فن الحياة من الكاتب الأكثر رواجا والذي يعلمهم كيفية مواجهة العالم مع فقدان الأحباء، ولديها هواية حمقاء وهي كتابة الكلمات العشوائية على الجدران وخلف اللوحات، عند انتهاء عملها كبائعة للزهور.
ومن الصعب الفهم، أن شريطا يستند الى الحب ويجعله عنوانا له، يضع المشاعر في آخر اهتماماته، كأن المخرج وكاتب المخطوطة، كانا مقاولين أخذا على عاتقهما إتمام صفقة الحب، لذلك وقعا في أسوأ أنواع العلاقات، وهي في اعتقادنا: الحب المخطط له، وأهملا: اللحظة، الشرارة، الطوفان، البرق وذلك الدفق اللانهائي الذي يغدق على المحبين بهجة وتعثرا وإلهاما ونشوة وحرارة وسموا، ليجدا أن خيارهما هو الأصدق وأنهما صبرا على الدنيا بانتظار هذه اللحظة.
هذه جبال يحتاج إليها ممثلون كبار لحملها أولا ومن ثم تصديرها للمشاهد، فماذا كان يتوقع فريق الفيلم من أنيستون العادية وإيكهارت البعيد عن الفضول، ومن سيناريو اختصر الذنب تجاه الزوجة الراحلة باحتساء الفودكا.
أدرك أنها «لعنة شكسبير»، لكونه أغلق هذه الموضوعات، لكن المبدع الحقيقي هو الذي يتسلل مكتشفا أعماق الكبار، لا شيء من هذا يحدث في حب كامب وطومسون، ويكفي مراجعة المشاهد التي خططوا لكي تكون «مؤثرة» بين إيكهارت ومارتن شين، هناك سيخبرنا السيناريو عن كل شيء، فاضحا أهم أسس الدراما: التلبية.
والحديث ليس عن تلبية متطلبات الإنتاج وما خطط له سكوت ستوبر وماري بارينت، لأن هذه الأسماء موجودة في أفلام كثيرة، بل عن شريط لوثوا اسمه بمفردة «الحب» في لعبة دعائية شائعة، علاوة على السطحية التي باغتتنا طوال الساعة الأولى من الفيلم (109 دقائق) والإصرار على أن القرف هو ميزة رومانسية لغاية التهيئة للنهاية المتوقعة والخادعة، وغير مصدقين أن التخطيط في مثل هذه الموضوعات، هو غش في حقيقة الأمر. فماذا يعني أن تضع المشاهدين في حافلة يسافرون فيها مع الممثل الرئيسي في طريق الشفاء من الحزن، وفي أول محطة سيعثر على أنيستون المضغوطة لتبدأ الرومانسية العاجزة والمتخلفة، التي توفر كل الأسباب لتضع الحب بعيدا.
إنك لا تستطيع «تسويق الحب» بأحداث واردة في كل زمان ومكان، كخاتمة وذروة، وأن البكاء الذي عوّل عليه السيناريو يستدعي ضحك هواة المسرحيات الهزلية، لأنه أحرج الكوميديا التي لا تبنى على الأعراض الجانبية.
في النتيجة، ان هذا الشريط، أهان «سينما الحب» – المهددة بالانقراض - لافتقاره الجرأة والعمق والصدق ولإثارته الضيقة في أن يكون مفهوما وفي متناول الجمهور.
وهو إهانة للحزن لأنه قدمه واضحا، وللأسى لأنه اختبأ خلفه، وللخسارة لأنه عبأها بالحلوى، وللتوبة لأنه لم يبرك في واحة الذنوب، وللفن لأنه لم يستخدمه.

11‏/11‏/2009

Capitalism: A Love Story

فيلم لمايكل مور بالكامل، كتبه وأخرجه وصوّره وكذلك أنتجه، وساعده المنتجون الفنيون كاتلين جيلين وبوب وهارفي وينستين وجون هارديستي، الذين لم تكن الرأسمالية هدف صورتهم، قدر توجهها نحو المجتمع المالي الذي شهد الهزة العالمية المعروفة، أو كان بطلها الرئيسي.
لكنه في الوقت نفسه، ليس شريطا يعرض (أو يعالج) أزمة، وهو لا يمثل تلك المباراة المزعجة لليمينيين في «فهرنهايت 11 - 9 «وحزمة الرسائل التي كان يوزعها على السياسيين الذين يكرههم والتي انتزعت تصفيق أعدائهم المنبهرين بالمفاجأة الكبرى للإقناع اليساري المباغت الذي حصل عليه في أوروبا على وجه الخصوص.
ومايكل مور عرف بإطلاق رسائله الإعلامية قبل أفلامه، وقد يصاب بالضجر لو جلس في مكتبه يوما من دون أن يبشر الصحافة بخبر خام يفسح المجال لسخرية النقاش، وقد يكون مجديا في وقت يصارع فيه الرئيس باراك أوباما الكونغرس والشيوخ لانتزاع ثلاثة مليارات لتأمين 36 مليون أميركي صحيا، عثرت عليهم سجلات الرئيس الاستثنائي بلا حماية صحية.
والشريط ليس الجزء الثاني لـ«فهرنهايت 11 - 9» ، بل مجهر مواز لشريطه «Sicko» و«أنا وروجر» و«بولنغ»، بالأسلوب ذاته الذي تجد فيه الريبورتاج الصحافي والمقابلة والجدل والانفعال والشغل الأرشيفي المنهك.
سيزور الطفل ذو النظرتين، او الرأسين، معقل الرأسمالية في وول ستريت ليتعرف على مزاياها بحضور مرئي جدا للمنغمسين في الملذات، وأولئك الذين أصابهم الضرر في صناعة السيارات الأميركية، ليصبح الدور المركزي لـ «أنا وروجر» (عن روجر سميث الرئيس التنفيذي لجنرال موتورز)، كاقتطاف عمل متحرك حينما يزور الأب وابنه منطقة المصنع الساكنة.

الأرض المقنعة
ان أكثر ما يغيظ في السينما الوثائقية، تسوّل عواطف المشاهدين بانتقاء مشاهد من دون أخرى مع بعض الحلوى الموسيقية، وهي الوسيلة الدعائية التي تعتمد عادة في الحروب النفسية (ضد أو مع) التي تجر الفن الى أهدافها لتجعله رخيصا كالسياسة.
ولسوء الحظ، لم يقف مور على الأرض المقنعة عند عرضه «الحقائق السيئة» كما يراها، أو يفضلها، ولأن كاتب أي قصة بإمكانه ترويع القارئ وكسب مشاعره، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك سلاحه الرئيسي.
لا جديد في اعتصام العمال المطالبين بصرف مستحقاتهم المتأخرة أو إرسال المزيد من المجرمين إلى السجون، أو النداءات المتكررة للتخفيف من الضرائب، إلا أن مشكلة مايكل مور أنه يعرّف الرأسمالية بمناشيتات مناوئيها، فهل سيكون الشريط ناقصا لو حذفنا منه مناقشات الكاتب هيلمر الشبيه بقطعة زجاج مع حراس الأمن، أو ارتجال الحوار مع مدير الشركة التنفيذي كممثل للمؤسسة المالية الناجية مع الهلاك والمستمر في «مص دماء الشعب».

مهمة الفن
من يستطيع الجزم أن مهمة الفن توجيه النصائح والتوضيح والتعريف والاشتقاق والتنديد والشجب، وما الذي سيحصل لو يكون ذلك على حساب الوميض الذي يصيّر نور الفيلم.. حياة؟
مور لم يحترم هذا الأمر، فهو القائل «أرفض العيش في بلاد مثل هذه»، غير انه لا يتركها، وفي الوقت الذي يشاكس منتقديه اليمينيين، ليس لديه أجوبة لرفاقه اليساريين.
إنه يخفق فنيا وفلسفيا، وكانت حججه لتهشيم الرأسمالية ضعيفة مثل ماركس وأنجلز، فمن قال أن انتقاد الرأسمالية ينبغي أن يكون بالبحث في أخطاء المنظومة الأميركية (الأكثر شناعة في رأيه)!
وماذا عن عناصر السينما الأخرى التي أنتجت 117 دقيقة من الصور المهزوزة ( أدار التصوير دان ماريكانو وجايم روي)؟ والصوت لم يمر بفحص على الأرجح، لعله استعجل إصدار الشريط للمشاركة في مهرجاني فينيسيا وتورنتو.
أما النص، فيصلح لأن يكون عناوين بارزة للصحف، مقاطع لخطب سياسية، نصوصا للبلوغرز، برامج حوارية، نقاشا في جلسات تناول الشاي، ضجر ملايين العاطلين الذين يكسرونه ببعض النكات السياسية، وهكذا، فإن نيران الامتعاض إن صبت في الفن تحرقه، كإجراء عملية زرع القلب ووضعه في المكان الخاطئ، هذه باختصار ليست مهمة الفن.

في الأخلاقيات
إنك تريد أن تنزل أميركا إلى الحضيض، فتعرض ما فعله نيرون بروما كرمز مناوب دهنته الآداب قبل مور حتى صار قصاصات بعثرها التاريخ الأدبي في أعمال بلا رؤوس، لا يفيد معها الإنعاش، فما الفائدة من عرض الحرب الفيتنامية كلما أردنا شتم أميركا؟ وما القدر الأخلاقي الذي بحوزتنا، عندما نستخدم البشر كدعائم لأعمالنا الفنية (دون علمهم في كثير من الأعمال الوثائقية والروائية)؟
إن العالم كله وفي مقدمته المنظومة الاشتراكية وليست أميركا وحدها، مليء بانتهاكات أرباب العمل والفساد والتزوير. هناك شركات التأمين التي تمتصك حتى وأنت في الموت (نموذج مور تأمين الفلاح الميت)، ثمة الجريمة السائرة نحو التفاقم. إن الظلم لم يكن أبدا في التاريخ الإنساني نتاج الرأسمالية الأميركية المعاصرة، لكونه ممتد منذ الخليقة وعبر الكوكب.
فأي إيمان سيزعزع مايكل مور ولأي ّ سيصل نداؤه في التغيير الذي يبدو مستحقا مع اختيار أوباما كأول نتاج للائحة الثانية لحقوق الإنسان التي أصدرها روزفلت ( الذي أخرجه الشريط من القبر عدة مرات) مناشدا الضمير الجماعي الأميركي ومخططا لمستقبل أميركا بلا مراوغة.
إن الجياع الذين عرضهم مور، هم ضحايا الأنظمة الدكتاتورية الذين يبنون شرعيتهم من تعسف الاشتراكية وجفافها، وليس المواطن الأميركي الذي يولد ومعه صوته.
لقد فشل مور فنيا حينما اختار دور الواعظ بغطاء وثائقي تقليدي، ثم أعقب هذا الفشل بآخر فكري باستئجاره جحافل الشعارات التي كانت المنظومة المضادة تضخها بخرافها.
ساعتان يقدمهما الشريط مهمتهما الرئيسية تبليد العقول وإعادة أزمنة القطيع، فما أسهل الحكم بخيانة «الرأسمالية» لمبادئها وطمعها المفسد للمال ولأنها تجعل الفقير أفقر والغني أغنى (الاشتراكية أفضل في أنها تجعل الجميع فقراء) وأموال الضرائب لإنقاذ البنوك والشركات التي هوت بسبب إداراتها السيئة ومقامراتها التي تواطأت معها الحكومة، والرأسمالية تخالف تعليمات السيد المسيح.
هذه العناصر ليست سهلة فنيا وفكريا فحسب، بل رخيصة للغاية في حالة استخدامها كوسيلة لبناء عمل يصدم الجمهور. وقصة الحب التي أرادها مور كشافا لعيوب الرأسمالية لم يكن لها صوتها الخاص وذكاؤها الواسع، وكأن هذا المخرج المشوش القضايا، صحا فجأة وأدرك أنه الوحيد الذي اكتشف الظلم وأوقف المفرمة المبيدة للبشر.

28‏/10‏/2009

Genova


شارك هذا الفيلم البريطاني الذي تدور أحداثه في إيطاليا، في مهرجانين سينمائيين في سان سيباستيان وتورنتو. وعلى الرغم من فريقه الرصين بإدارة التصوير لمارسيل زوسكند وموسيقى ميليسا بارمنتر وإنتاج مارك ديغبي وتأثيرات بصرية لمارك كنبتون، فإنه خرج بدون جوائز.
في الفيلم نحصل على أسلوب أوروبي وصورة قوية يقدمها المخرج مايكل وينتربوتوم، حكاية الخسارة في الحزن، الذي شارك في كتابة السيناريو مع لورنس كوريت.


الدقائق الـ 93 صورت جميعها في الصيف، نتتبع من خلالها مسيرة المراهقة كيلي (ويلا هولاند) التي تحاول أن تخلق الحواجز مع أبيها، والطفلة ماري (بيرلا جاردن) المضطربة برؤى أمها الميتة حديثا، والأرمل الإنكليزي المستجد جو (كولن فايرث) الروائي وخريج هارفارد، والأب المتحمس لجلب طفلتيه (كيلي وماري) لحضور الحفل السنوي لجامعته بدعوة من زميلته بربارة (كاترين كينر). وستتضمن العلاقة العاطفية بين الأستاذ الزائر والطالبة الساخنة جدا والمستعدة لتقبل الغزل روزا التي تبدع في اختيار اللحظات التي تكون فيها جريئة.

المتاهة المضاعفة ربما ساعدت كاترين كينر - أو هكذا جرى تقليد هذا الطراز من المخطوطات السينمائية في أن تكون الأم البديلة لماري التي لا تتركها أمها الحقيقية بعيدة عن الهلوسة، لكن ما حصل أن دروس البيانو التي أعدت للطفلتين وترك كيلي لوحدها رغم أنها لم تتجاوز السابعة عشرة، جعل طموحاتها الجنسية تأخذ جرعتها من البيئة الأوروبية الجديدة ومتاهتها المليئة بالعجائب والأخطار خلال تجوالها المستمر في الشوارع المزدحمة والفوضوية. ومن الصعب الحكم على تميز ما في السيناريو في رصد هذا «السباق العاطفي»، خاصة بعد دخول كيلي العاصية التي تحاول أن تبقى دوما خارج هذه الدائرة، ورحلة الدراجة وطيف الأم الذي تحول إلى هاجس يومي وغفران البنت التي لعبت دورا ما في تحطم العائلة، والقمع العاطفي الذي بدأ بالسقوط الواضح في غضون ضياع ماري في هذه الدوامة.

وفي الوقت الذي كان هدف رحلتهم إلى إيطاليا، التغلب على ذكريات موت الأم، نجد كيلي تنحدر مع المراهقين السيئين في متاهة الشوارع وعبثها وتقود السيارة بتهور وتقترب من إدمان الهيرويين، وتسير في طريق أن تصبح مومسا رسمية رغم مطاردات صديقها المراهق، فيما أبوها جو يقلب أيامه بعيدا عن ابنتيه بعلاقة مع إحدى طالباته، رافضا زميلته بربارة التي كانت اليد الوحيدة التي يمكنها أن تلتقطه. وفي النتيجة تترك البنت الصغرى ماري ضحية إهمال قاس، بداية من الموت الذي غيّب أمها، ووصولا إلى أبيها وشقيقتها.
وهكذا، لم يكن انسحاب جو نحو نفسه نوعا من العزاء ولا تهكمه مما يحصل نوعا من الغضب، وماذا عن العطف تجاه المراهقين المجروحين ونظرات كيلي المدهشة إلى شقيقتها الموجوعة ماري وتفاعل جو مع موقف كهذا بأن يحاول التحدث مع ماري ليبدو ضعيفا مجددا، هذا الأرمل لم يجاهد كما ينبغي للتمسك بابنتيه.

قصص الأشباح
ولتكن مواضيع الشريط أقوى خلال التلميح، ولتنظم مزاجها المتحرك بمعالجة وينتربوتوم المدرجة بدقة القصة الاستطرادية الطليقة التي تجهد في إظهار ميول البنت الحزينة والانهزامية أيضا.
وبدون جهد نتذكر الفيلم الكلاسيكي «المملكة المتحدة» (1973) لجولي كرستي ودونالد سوثرلند عن زوجين عاشقين جدا تصيبهما فاجعة موت ابنهما، فيقرران زيارة فينيسيا لتبدأ «قصص الأشباح» معهما هناك.
المقارنة بين الفيلمين صحيحة وبدلا من الأب ماتت الأم، واستبدلت جنوا بفينيسيا، وقنوات الأشباح والتعلق بالحزن في أغلبها مأخوذة من تنويهات العبقري روسيلليني في «رحلة بحرية بارعة إلى إيطاليا»(1953) ووزنه الثقيل في استخدام التقنية الصلبة، والتحرر السريع من اللقطة كي لا تطابق المعقول، خصوصا في المشاهد المتوترة كاقتراب صورة ماريان بالتأثير الوراثي المثير برغبة الطفلة ماري المفجعة لإبقاء روح أمها حية.


الشطر الوثائقي
ستتدخل تأثيرات السينما الإيطالية في عرض جاذبية المدن وطرقها قديمة المعالم، ولكون مايكل وينتربوتوم أحد الدعاة الأوائل لأسلوب السينما الوثائقية (صور من قبل أفلام عن سيراييفو وكراتشي)، فهو يـُحسن تقنيته في هذا الجانب، بينما يترك لفريق الممثلين إنجاز الشطر الواقعي المطلوب منه، بينما يتولى مارسيل زوسكند تصوير اللقطات الآسرة من على ظهر دراجة بخارية، مفضلا استخدام الكاميرا المحمولة في معظم المشاهد، مستخدما الصور المقربة والضيقة لكسب الألفة.
الحكاية أبسط من الفكرة
ولكن لغاية وصولنا إلى هذا المنعطف، بدا الشخوص مفصولين عن الحكاية وسطحيين، حتى لم نتعرف جيدا على اللاعب الرئيسي الأستاذ جو، من كان وسيكون، الكثير من الأحداث التي شارك فيها روتينية. اطلاعه على رسوم ماري ومطاردة أمها لها لغاية صرخاتها الليلية، غير كافية لأن يتجسد حزن هذه العائلة، ان ما حصل لم يكن مقنعا كليا.
إن إرث مايكل وينتربوتوم جعله بالكاد يعرفنا بأناسه، وتقديم حكاية عائلية بسيطة، لا يوجد مسعى من أحد ليفاجئنا بعمق حزن الأرمل جو وطريقته في إدارة بناته، وسفرهم إلى إيطاليا بعد موت أمهم، لتعديل الأجواء وتغييرها، جعل القصة خالية من الفكرة: مواجهة الحزن والتغلب عليه أو السماح بالتعود عليه.
ومن الصعب التكهن إن كانت جنوا حقا هي المدينة الملائمة لأن نقتل فيها أحزاننا ونطرد فيها كوابيسنا، ولم نفهم الدافع الذي يجعل عائلة تترك بيتها في شيكاغو لتستعيد «الأمل» في إيطاليا!
وبدلا من «الأمل» لم يكسب الثلاثة المفجوعون (الأب وابنتاه) غير أرواحهم التائهة التي يطاردها شبح الأم الغائبة التي لا نعرف عنها غير وفاتها بحادثة سيارة، كما تعودنا في «أفلام الحزن» وذهولهم العاطفي والعلاقات التي أصبحت ملتوية بين جو وبناته، وكأن الذنب الرئيسي في كل ما يحصل أن الأم ماتت، يا له من لغز خارق!


سينما الحزن والموت
تصوير أناس مسلوبي الحياة ومنغمسين جدا في الحزن، يتطلب خدعا فنية مثمرة، لا ترك الكاميرا تتجول على بعد شاسع عنهم لترينا كتلا معمارية عن التاريخ أو مداخلة جو التعيسة عن تأثير اليورو على الثقافة الإيطالية، ومنها سنستمع بدون إذن درامي لإحدى سونيتات شكسبير وعبارات كاثوليكية تقدم كإعلانات دينية.
ثم هناك الرؤى واعتراض الأشباح كذريعة فنية وحيدة للتعامل مع الموت، وكأن مدى الموت والألم المطلق منحصرين في العوم والانغماس في الرؤى، كأن الحياة لا تستمر إلا بالتدفق نحو فهمنا (نحن الأحياء) لماهية الموت بدون الضلوع أو محاولة العثور على «المفتاح البسيط» لانحسار هذه المشاجرة غير المشذبة لفيلمنا القصير في الحياة، المشاجرة المحببة للحزن.


هذا يسمونه في الفن ضعف وتردد ومجانية ووهن كبير وجوهري، فالدنيا منذ وجودها كانت مصفاة للحزن وللأطفال الذين فقدوا أمهاتهم والأمهات اللواتي فقدن أطفالهن، لكن لتقديم ذلك في شريط سينمائي لابد أن يكون هناك فضاء استثنائي ومستمر ينير الجمهور ويبصره بما لا يتوقعه أو حتى يطيقه، سلسلة توهم التدفق المنطقي للأحداث وتقتل الوضوح لكي يتعافى العمل باختيار الزوايا الأشد ضيقا والمرور عبرها.
ينبغي عليك وأنت تقدم فيلما عن الموت والحزن، ألا تستغرق بالنوبات الهستيرية والخطابات المثيرة والأداء الذي يحبونه في الأوسكار، فالحزن العميق هو الحزن الهادئ، الذي لا يبحث عن أسباب وجوده، فأكثر الحزينين في الدنيا لا يعرفون أسباب حزنهم، لأن الحزن الحقيقي غير قابل للإدراك.
وهكذا، فإن حسن النوايا لا ينفع في الفن وبدوره لا يتعامل معها، ولا انتظار ردود الأفعال لأي مأساة لكي نبحث عن طرق لبناء حياة جديدة في مدينة ما، وعندها سندرك أن الأمر ليس بهذه البساطة وأن التعافي من الحزن قد يكون أصعب حتى من الحزن نفسه.

22‏/10‏/2009

Les Herbes folles


أحد السادة الكبار في السينما المعاصرة، وبعمر 87 عاما وتحديدا بعد نصف قرن من سقوط قنبلته السينمائية «هيروشيما حبيبتي»، يواصل الأستاذ آلان رينيه تجربته في صناعة الميلودراما المبهجة بعد «أكثر من حرية» – 2006، مقدما مخاوف العالم عبر أقدار أناس بالغين في منتهى السوداوية والأداء الرائع في «عشب بري» الذي عرض في مهرجان نيويورك السينمائي لهذا العام، بإبهار تقني لمدير السينماتوغرافيا إيريك غاوتير الذي سقى بخبرته عشب رينيه الوافر والناضج، المخرج الخبير ذي الرؤية المثيرة والأخطاء النادرة التي مررها لأليكس ريفال ولورنت هيربرت.

سيستند هؤلاء الأساتذة الى رواية الكاتب الفرنسي كريستيان غيلي L'incident (الحادث) الصادرة عام 1996، المنطلقة من حادثة العثور على محفظة في موقف عام، لينسج علاقة حب غير محتمل وغير متبادل، وكما القصة تبدأ، يسير الشريط بتصاعد وسيطرة على السرعة وينتمي شخوصه الى النغمة الخفيفة المظلمة وتتابع العشب الآخذ بالنمو بين سابين آزيما وجورجيس (أندريه دوسولييه) الذي سيفتن مالكة المحفظة بعد أن يفحصها جيدا ويتعرف على أن لصاحبتها رخصة في الطيران، رغم أنه متزوج امرأة رائعة سوزان (آن كوني) وطفلين ساحرين (سارة وفلاديمير) اللذين تجولت حولهما الكاميرا من خلال الطائرات الورقية التي ضربت خطوط فرحهما، كإيذان لصورة متناظرة ستلحقها بانتهاء الساعة الأولى من الشريط، عند مشهد الاستجواب الهستيري لرجل في منتصف العمر يضايق امرأة وحيدة.

معقل الألم
ورغم أن أندريه سيسلم المحفظة المليئة بالمال وبطاقات الائتمان إلى الشرطة حيث يقابل هناك الضابط ماثيو اماريك، فإنه سيستمر بتسجيل المكالمات مباشرة على جهاز التسجيل في شقة سابين الأنيقة جدا، في وقت ينمو فيه هيامه، حتى تُجبر على الاتصال بالشرطة لتشتكي من سلوكه.
بداية سيتصل أندريه لتشكره سابين على أمانته، غير انها لم تهتم باقتراحه في ضرب موعد معه، وبطبيعة الحال كان مسحورا بصورتها وأغضبته لامبالاتها، فيما أزعجها فضوله وعناده الذي بدا كأنه يبحث بيده عن معقل للألم.
وبطرقه الماكرة المعتادة، سيقلب رينيه القصة رأسا على عقب في أحداث غير قابلة للتوضيح، فأندريه بعيدا عن دوره البسيط العام، يلمح بماضٍ شرير لا يستطيع السيطرة على تصرفاته، فيما طبيبة الأسنان سابين مرسومة كامرأة مستقلة، لديها حافة لطيفة مختفية وراء الثقة بالنفس هي لا تعدو كونها حوافز لاستمالة التبريرات، لأنها ستبقى وحيدة وقلقة وعنيفة، وهي أيضا – بشكل ما - العشب الكئيب الذي لا يستطيع إنعاش قصة حب انطلقت ملتوية.


مرض الحب
العديد من المشاهدين، مرة أو آخر مرة، واجهوا «مرض الحب» أو الذي يدعوه عالم النفس دوروثي تينوف limerence الذي ينتاب الأناس الذين يحبون شخصا لا يكترث بهم ورغم ذلك يتجسد في كل رغباتهم وأفكارهم ويتكاثف في عواطفهم.. من يعرف، ربما الجاذبية الجنسية تلعب دورها أيضا في هذا النوع من الحب، وهم واثقون بأنهم لا يستطيعون الوصول إليه لغاية تحول هذا الرفض إلى مصدر للسعادة واليأس الأعظم.
ويمكن تخيل مهمة آلان رينيه في هذا العمر، لتكييف «مرض الحب» وتقديمه بأسلوب يعتز فيه بالبهجة.

نحو الحزن الماهر
لكن من الواضح أن رينيه لم يتخل عن رومانسيته الغريبة، ونهاياته الحتمية المسحوبة نحو الحزن الماهر، المعني بأقدار الأناس المنكوبين، وهو بذلك قوي وينتزع من ممثليه أداء رائعا هو أفضل ما يملكونه، وبالرغم من أن رينيه بدا أكثر مرحا في شيخوخته، فإنه فقد أيضا واحدة من أهم ميزاته: تحدي المشاهد على جميع المستويات ودفعه للعمل نحو اكتشاف أشياء لم تحدث في الفيلم، وبدون هذا الاكتشاف، لن يصل إلى شيء، فاتحا إمكانيات السينما للنمو في كل لحظة.
ستظل تبحث عن «العشب البري» وليس بالضرورة أن تتوج به، ولعلها الوصفة الاستثنائية من الصدف والرغبات التي يقترحها رينيه، في هذا العمر، كما كان في بداياته، ميالا الى التعبير الشخصي وتعقيد ألوانه وتركيزه على الأزرق، لكنه سيبتعد عن هذا اللون حينما يعرض نساءه الرئيسيات في الرواية (سابين وآن)، ليمنحهما سحره، وسحر رينيه هنا، ينحصر في أن بؤرة ما نرى ويرى وما يحصل، ليس سوى تأمل.


تأكيد للحياة ومجدها
هكذا يصور الموهوب اللامع الدنيا عبر محفظة مفقودة، العواطف المحظورة والإحباط والهوس المتبادل بين أولئك المحبين المبهمين، بلا تكلف كالغرام في «هيروشيما حبيبتي» الذي لا تستطيع الحسم من أي الجهات تنظر إليه، هو ذا الخفيف، الرومانسي الحلو الذي يدعنا نكون في حالته، نجد أنفسنا فيها، نحمل الأمنيات اللعوبة، فيما نصادفه من غير الواقعي، أو الكلي في الحقيقة، وهيهات أن ما نحسه وأحيانا نراه، هو الذي حدث فعلا، أليس هذا التشويش المستفز للمشاهد مقتصرا على الأساتذة الكبار فحسب؟
إنه شريط بلا مفاجآت سعيدة، لكنه تأكيد للحياة ومجدها، نقائضها ولا عقلانيتها، ليتابع رينيه رفضنا وترددنا واندفاعنا بحكمة الفنان الذي يحب أشخاصه ويفرح لندوبهم.


لماذا العشب البرّي؟
الحب الفاشل من بدايته، كتلك البذور التي تستفيد إلى أبعد الحدود من الشقوق وتتسلل عبر بلاطات الأرصفة وحفر الشوارع أو التي تنمو من بين حجارة متكسرة في الجدار، هي الأعشاب التي تظهر في أكثر الأماكن غير المتوقعة ولو عبر خرسانة، مزمنة، لكن من يحسم كونها ضارة دائما!
هذه فلسفة الفيلم الفرنسي غير العادي بعيدا عن الأزمات الوجودية في تراث صناعة السينما الفرنسية التي أكدتها الموجة الجديدة للحركة الرائدة لجان لوك غوردار وفرانسوا تروفو والحشد البوهيمي الذي رافقهما المتضمن أغنيس فاردا وآلان رينيه الذي لم يتوقف أبدا أن يكون تلميذا لأندريه بريتون، دوّخ الموجة الجديدة بأنماطه التجريبية وغرابته واستعاراته ومعرفته في ابتكار خدع الأشكال الفنية التقليدية، ليثبت في «العشب البري» أن الموجة الفرنسية الجديدة لم تكبر في السن وما زالت مستمرة، وإن هربت من السريالية بحثا عن أرض أخرى، بتجسيد «العشب البرّي» كنسخة من قلب محطم باحث عن رفيق الروح.


آلان رينيه

المولود عام 1922، بدأ حياته بإخراج أفلام قصيرة عن فان كوخ وغوغان و«التماثيل أيضا تموت» و«ليل وضباب»، ثم سرعان ما قفز إلى العالم بشريطه الفذ «هيروشيما حبيبتي» – 1959 وبعده توالت الأفلام المتماسكة: «العام الماضي في مارينباد» – 1960، «مورييل» – 1963، «انتهت الحرب» – 1965، «أحبك.. أحبك» – 1967، «ستافيسكي» – 1973، «بروفيدانس» 1977، «عمي الذي في أميركا» – 1980، «ميلو» – 1986، «أريد العودة إلى البيت» – 1989، «دخن أو لا تدخن» – 1993، «نفس الأغنية القديمة» – 1997.

My Sister's Keeper

ينجح مخرج فيلم «نوت بوك» مجددا مع الأخوة وارنر، ولكن هذه المرة مع كاميرون دياز بالرغم من البكاء الوافر الذي سيغفره المشاهدون، لكونه يطرح مشكلة أخلاقية تنحصر في محاولة فتاة في السيطرة على جسدها وعدم المضي قدما لمنح الوهن للوكيميا شقيقتها الأكبر.
قصة صبورة تتمحور حول اللحظات الحاسمة لأختين: كايت (صوفيا فاسيلفا) المراهقة التي شخصوا إصابتها باللوكيميا في عمر مبكر وقضت سنواتها الأولى بالرواح والمجيء والعيش في المستشفيات وآنا فيزجيرالد (أبيجيل بريلسن) بعمر 11 سنة تجد نفسها في مباراة وراثية بإعلانها «الانعتاق الطبي» لغرض التبرع بكلية يمكن أن تنقذ حياة شقيقتها كايت.
والدهما براين (جيسن باتريك) يستقبل التطورات أفضل من الأم سارة (كاميرون دياز) التي أهدرت رفاهية كايت بالعنف والعجرفة وفي أغلب الأحيان إهمال زوجها.
المخرج نيك غاسافيتس ومشاركه في السيناريو جيرمي ليفين سيحتفظان بتقنية رواية الحكاية بتقنية الاسترجاع من وجهات نظر متعددة وهذا ما يمنح المشاهد فرصة التعرف على اعترافات الجميع.
وعلى عكس «نوت بوك»، فان غاستافيتس سيجد نفسه أمام انضباط ميلودرامي مختلف فيه الكثير من جوانب الأخلاق الطبية ويضطر إلى نقل الحوار في قاعات المحاكم وينبغي عليه أيضا التبصر في الذنوب العائلية وخليطها غير المستقر.

إلا أنه نجح في الارتجاع المحزن لحالة كايت من خلال حلم زميلها توماس ديكر واستعارته الصورة الجميلة من الماضي، وهو ذلك الإحساس المحسوب على المراوغة المثيرة لضعف كايت وإشعاع دموعها الملائكية، حينما تخاطب الموت بأسلوب مفتوح وصادق ولا يطاق، وحتما ان الكثير ممن سيشاهد هذه اللقطات سيبذل جهدا كبيرا في البكاء، دون التمرغ بالعاطفية أو التلاعب بمشاعر الجمهور، لكون الفيلم يحتفظ بشروطه للقبول لا الإسراف، حاملا المشاهد إلى المزاج التأملي، لا الشعور المتلهف لرفع الإيرادات.
ان غاستافيس وليفين نجحا في صنع مناجاة داخلية منضبطة وقصة شاشة آسرة في جوهرها، بالإضافة إلى الأداء القوي والعناصر المتماسكة الأخرى في الشريط.

16‏/10‏/2009

El baile de la Victoria


قضى المخرج الاسباني فرناندو تروبا وقتا طويلا ليكيّف رواية الكاتب الشيلي أنطونيو سكارميتا «الراقصة واللص» أو «رقصة النصر» إلى الشاشة (المؤلف ساعده كثيرا في تحرير المخطوطة السينمائية كذلك ابنه جوناس تروبا والرواية فائزة بعدة جوائز)، حيث مضت سبع سنوات منذ فيلمه الروائي الطويل «نوبة شنغهاي» وفيلمه الوثائقي «معجزة القنديل» – 2004 وفيلميه الرائعين «فتاة أحلامك» و«بالكثير اثنين»، ليختار في النهاية الأسلوب الأكثر قبولا لدى المدرسة الاسبانية وهو الغنائية الرومانسية لعرض دراما مكتملة روائيا لسجينين أطلق سراحهما بعد سقوط الدكتاتورية في شيلي، مزيلا من الرواية تفاصيل النثر الفلسفي ومزيحا الاتصالات بالطب النفسي وغرابة الأطوار لدى الرجلين، ليقوي معنوياتهما الخامدة في السجن بلقاء فيكتوريا التي ستورطهما بالميل نحو القانون واستبدال تجاسر السرقة بالمنح. رقص تحت العاصفة
وبالرغم من أن اختيار ( نيكولا فيرغارا غراي ) ريكاردو دارين ناجح لاتينيا، لكونه نجما في القارة ( الممثل الرئيسي في الفيلم الأرجنتيني «سر عينيك» الذي رشح للأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي)، فإن مهمات تروبا التي حملها له، كانت كافية لأن يرقص هو الآخر تحت العاصفة، على عكس آبيل (وربما هابيل) آيالا الاسباني الشاب الذي قدمته السينما الاسبانية في عمر 14 سنة، فقد صبّ الشريط بطاقة وديناميكية، افتقرت إليها سينما أميركا اللاتينية التي كانت مجهدة دائما بالبحث عن الإرضاء في تعاملها مع «الواقعية السحرية».
وسط الاحتفالات بالعفو سيستقلان سيارة أجرة في محاولة من دارين لإيجاد زوجته تيريزا (أريادنا غيل) وابنه وإعادة ترتيب عائلته بعد السجن، سيلاحظ السائق أنهما يجوبان شوارع سانتياغو المرحة بالديموقراطية الحديثة، كمفلسين، صامتين وحائرين وبمعنى أدق، ان زبائنه يسيران بلا هدى وبدون عنوان.


النهوض عشقا.. السقوط انتقاما
لكن فيكتوريا (الممثلة الاسبانية ميراندا بودينهوفر) التي تعيش مع امرأة عجوز، ستظهر لهما ويكتشفان أن أبويها اعتقلا أمامها في الطفولة وقتلا أثناء القمع الدكتاتوري للجنرال بينوشيه، وبتطور سلس ستنتهي إلى رقصة في المنتزه، كافية لأن يسقط الشاب الاسباني فورا عاشقا لبراءتها.
غير أن هذا العشق لم يسعفه، للتجنب من الثأر – بطريقة بدت غريبة – من الدكتاتورية واغتصابه المستمر من قبل حراس السجن، بانتزاع ما اعتبره «حقه» بالسرقة وإعادة تلك الملايين التي سرقها بينوشيه، من المجرمين الحقيقيين الذين حصرهم برجال الأمن لكي يعطي سلطة أخلاقية مريحة للسرقة.
فكرة بسيطة للانتقام ومتوقعة ومعالجتها محدودة جدا والضرب على وترها لا يؤدي سوى إلى نتيجة معروفة أيضا، من جانب آخر، ستطرح أفكار مثيرة، حتى في غضون الغزل، أو الجولة على الحصان في شوارع المدينة، كما لو كان الحصان يحمل هذا الحب وسط المدينة الشاحبة، وآيالا بدوره، يغسل نفسه عاطفيا.
ان مشاهد فيكتوريا في مدرسة الباليه وعلى المسرح، لها سحرها القديم على مشاهدي السينما الاسبانية، والرقص عادة في الفن اللاتيني أقدم من صناعة الأفلام.

ترتيب السيناريو
لكن ما الذي دفع فيرغارا إلى مراقبة زوجته (صارت سابقة بعد انتقالها للعيش مع خليل جديد وغني) ويُجازى بموازاة رغبته في الحياة، إلى فقدان كرامته ويعامل كلص بنوك محترف يريد الاختفاء من ماض مرتبك بأمنيات المستقبل المستقيم!
ربما تكمن مشكلة الشريط في ترتيب السيناريو، فالفواصل جاءت غريبة في حوار نيكولا وزوجته، وتلك الأصوات الداخلية بينهما التي استعملت كثيرا في السينما وتحتاج خاصة في المواضيع المظلمة أن تستخدم بشكل نافع ولا يحبذ أن تلصق كفوبيا تشوه الصورة بالكامل.
غير أن عمل مدير التصوير جوليان ليزما كالنغمة الدافئة جاعلا كل شيء في سانتياغو جذابا، الجبال المغطاة بالثلوج والنجوم قرب المدينة قدمها بشكل جميل كخراب سانتياغو وفنادقها الرخيصة والبيوت المتهالكة وطوال 126 دقيقة صمم لقطاته بفاعلية، كصعود آيالا وفيكتوريا بالحصان نحو القمة كإشارة لبحثهما عن الحرية، الفخمة والمنظورة.

الرقص كانتصار
ان الرقص في المأساة بحد ذاته انتصار، غير أن مهمة تروبا تنحصر في رواية حكاية الحب والصداقة والانتقام عبر الرقص، وهي خطة معقدة فنيا، لاسيما أنه تدار من أشخاص مدمرين ذاتيا.
انه فيلم عن الحب بين المهمشين وميلودراما جريئة بوثبات محزنة وطيبة وممتعة تفتقر الى الترقب ومتوقعة، يعود فيه فرناندو تروبا إلى سباق جوائز الأوسكار (فاز فيلمه «بيل» بالأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي عام 1994) بعد أن رشحته الأكاديمية الاسبانية للسينما لتمثيلها مع شريطي «البدين» لدانيال سانشيس اريفالو و«خريطة أصوات طوكيو» للمخرجة ايزابيل كويكسيت لدخول مسابقة أفضل فيلم أجنبي في الدورة القادمة.

Les femmes de l'ombre

نعود الى مايو 1944 وبطلاتنا غير العاديات هنّ: لويز - صوفي مارسو وجين - جولي ديبارديه و سوزي - ماري غيليان وغالي - ديبورا فرانسوا وماريا - ماري سانسا، خمس مجندات فرنسيات يحركهن المخرج جين بول سالوم بين صفوف المقاومة الفرنسية ومجموعة المغاوير البريطانية، مقربهم نحو «النصر الوشيك»، ما بين الانقاذ والانتقام، العاطفة والوحشية بقصة ملهمة ومزينة بما تحتاجه السينما تقدم لنا «أحداث حقيقية» عن حياة المقاوم الفرنسي ليس فيلمر لمدة 120 دقيقة.

خمس نساء
وهكذا لدينا قناصة محترفة ومومس سابقة مجبرة على الانضمام الى المقاومة وصانعة متفجرات وفتاة استعراض ويهودية ايطالية يعملن جميعا في المقاومة الفرنسية ويجتمعن لإنقاذ جيولوجي بريطاني أسره النازيين.
وبإيجاز، لم نلمس بطولة استثنائية كما يشير عنوان الشريط، ولكنه في الوقت نفسه، أعمق من مئات أفلام الحروب التي تمجد جيوش ودول بعينها وتحاول بعثرة التاريخ على هواها.

إنه مواصلة جيدة لجيل الأربعينيات والخمسينيات وتلك السنوات المريرة التي مرت بها أوروبا ولا تحاول نسيانها، باسترجاع حوار قصصي يضع المشاهد أمام خشبة مسرح مثقف، هذا الأسلوب يشد البعض أكثر من الأحداث التي بلغت الذروة بطريقة محترفة، ولعل أي من عجائز الحرب لو تتاح له مشاهدة الشريط، سيطلع على المبادئ نفسها التي ضحى من أجلها رفاقه.
وبلا شك، فإن الشريط سيكسب الكثير في شباك التذاكر، لكونه لم يغفل الجمهور العادي وقدم له تسلية موفقة.

تقلبات السرد
لنبدأ في لويز التي حملتها جميلة مراهقات السينما في نهاية السبعينات صوفي مارسو التي وجدت نفسها هاربة الى لندن بعد مقتل زوجها، وفجأة نرى أنها معنية بجهاز المخابرات السري هناك وعليها أن تجند، ليس على طريقة سوزي المتعلمة جيدا طرق الابتزاز والخداع والكذب والاغواء وغالي الكيميائية الخبيرة بصناعة المتفجرات.
تقريبا، سنحصل على مجموعة مدربة لتنفيذ العمليات الجسورة ولا نملك إلا متابعة تقلبات السرد الروائي الذي اعتمده سالوم والقتال الخاص الذي اعتمده السيناريو مثل «خط واضح» لأسلوب تسيطر فيه الدراما الرسمية كطابع فريد لهذه المصائر.
البساطة والإثارة
ويمكن اعتبار السيناريو بسيطا لموضوع مثير، فالفن في النهاية لابد أن يؤدي إلى الإقناع، ومع ذلك رغم صعوبات البساطة، نعتقد أنه نجح بتقديم فيلم أنيق، لاسيما أن في هذا الطراز من الأفلام الجادة، لا وجود لضمان في التوازن ما بين الأقدار، لا آمال في أن الجميع سيخرجون سالمين من المآزق والأخطار، كما فعلت هوليوود في سلسلة أفلام المجموعات البطلة (العظماء السبعة والسلسلة التافهة لملائكة تشارلي وغيرها مئات).
وفوق ذلك، نجح سالوم بتنفيذ مغامرة رومانسية، حيوية ومدهشة، كانت تقضم من أحداث الفيلم، ولكن كالماء السائر في الاعتبارات الجرداء – الفكرية مثلا – فيلم لم يضيع وقته ولا وقتنا، فيه فائض من الدقة.

الفوضى الخلاقة
وبالتالي، لا يتردد الفيلم في تقديم العبر ولو بصمت (كنا نود لو يكون الأمر صامتا)، والتمثيل؛ أمين وذكي وجميل وبالنتيجة ممتع.
أما الدروس المستفادة من التاريخ – بالمعنى الدقيق للكلمة – فهي ليست كبيرة وليس لها صدى ولا طموح، وهذا المطلوب بالضبط، كما هو المفيد ألا ننسحب باعتباره رسالة لتمجيد دور المرأة في الحرب، فالفن ليس مهمته تكريس مثل هذه الشعارات، بل أحيانا تهشيمها.
كما يورطنا الشريط بمفاجأة أخرى، أن دعايته تلمح على قتامته، وهذا لم يحصل، فثمة كوميديا متجذرة كالأوقات الطيبة في عمق المحنة، مثل نساء سالوم : يمكنهن ايضا أن يكنّ جميلات وبذيئات، عنيفات وعاطفيات، جاسوسات ومضحيات، وفي نهاية المطاف، هي ذي الفوضى الكبيرة القادمة في الفنون، كالعدو الحميم في الشريط الممثل الألماني موريتس بلايبرتي.

الصفة الكبرى
الشر لم يقدم من أجل الشر، كما الإيثار والحب والانتكاسات والمكائد والسقوط والانعطاف الحاد للخير، وهذه صفة الشريط الكبرى، إن كل شخص ظهر فيه مثير للاهتمام، وإن كان سرده كلاسيكيا، لكنه مبني بشكل صحيح، لذلك لا مشهد عديم الجدوى، لم يترك سالوم شعرة في الحساء يصدع فيها جهده، حتى عندما كتب سيناريو (بمشاركة لوران فاود) بلا ذروة، فهذا يمكن غفرانه لكونه لم ينسف المصداقية وتوزيع نصيب المسؤولية على كل من ظهر في الشريط. ويشجعنا ذلك على مقارنته بالتحفة الفنية لبول فرهون «الكتاب الأسود» الذي كتب السيناريو معه غارسيا فان هوتين عن نساء الظل في هولندا.
إن جان بول سالوم يملك موهبة تشكيل الأفلام الملحمية وأكد في هذا الشريط قدرته على خلق التوتر والإثارة وكذلك المعالجة المظلمة للأحداث المأساوية التي صورت في قلب باريس لدعم صحتها في عرض التاريخ المنسي للمقاومة الفرنسية.

Notorious

عنوانه ذكّرنا بأحد أفلام ألفريد هتشكوك الذي عرض عام 1946، لكن الشريط الذي ظهر في مهرجان برلين لأول مرة هذا العام، اختار عشاق مغني الراب Biggie Smalls المعروف أيضا باسم كريستوفر والاس الذي قتل عام 1997 ولم يكمل 24 سنة.
والأفلام التي تتناول الناس الذين رحلوا قبل أوانهم، لطالما أصابت المشاهدين بالخيبة والحزن، وفي أحيان كثيرة بالإحباط، لتعرفهم على جوانب خاصة لم يألفوها بمن كانوا يحبونهم أو لأن الأفلام لم تصل إلى مستوى تلك الشخصيات الغائبة.
وهذا الخيار الصعب قبله المخرج جورج تيلمان (الابن) وكاتب السيناريو ريجي بوثوود بمساعدة الصحافي تشيو هوداري كوكير، لكي يقدموا سيرة ذاتية يمكن تصديقها عن شخص كانت قصائده المغناة ( مع صديقه شون كومز) مكرسة لتأسيس مدرسة «موسيقى الشارع» بحيويتها الميلودرامية ومعقوليتها وكذلك سوء سمعتها.
وتيلمان عمل مع الأميركيين من أصول أفريقية في «طعام الزنوج»، و«رجال الشرف»، و«لا شيء»، و«كلا» و«صالون التجميل»، ولم يكن منافقا في أيّ منها، ومنحت له الفرصة لأن يمتع جمهوره بسيرة أحد أهم رواد موسيقى الراب ورفاقه الذين كان يطلق عليهم «سيئو السمعة»، باختزال سينمائي واقعي مندمجا مع الفريق الذي لم يبد هشاشة تقنية.
ان أزعج أمر في أفلام السيرة الذاتية تحولها إلى شهادة لمواد خام أو بالعكس حينما تسيطر عليها المبالغة الخيالية، والحالتان يعييان الفن، هذا من جانب، ومن الآخر، ان تصفية الحسابات مع الموتى وكشف خصوصياتهم السيئة منها أو المجيدة، لا تعد ذات قيمة برحيل الشاهد الرئيسي، ناهيك عن اختراع السمو أو الانحدار ودسّ الفضول في الهوية الإنسانية التي هي ملك صاحبها فحسب، بينما كان الأجدر عرض الأجواء التي برز فيها هؤلاء الشبان وحقيقة الشارع الذي أنجب فنهم الذي لسنا بصدد إحصاء عدد المعجبين الهائل الذين التصقوا به.

تغيير العالم
لدينا دبدوب منتفخ يحمل طفلا محبوبا في داخله ونظرة قاتل محترف، عاش بترف وكان يدافع عن حريته ويرفض القيود وتهيأت الفرصة للممثل جمال وولارد ليكون شبيها لمغني الراب كريستوفر والاس، ويفلح في تقديم شخصيته بمساعدة المساندين الأكثر تجربة منه وبشكل خاص أنجيلا باسيت وديريك لوك، كما لعب الممثل الحسن الطالع انتوني فيشر (شاركناه في «معجزة سانت آنا» على هذه الصفحة) ورجل أعمال كانت وظيفته حث ّ المطرب البدين لأن يكون حلمه كبيرا كحجمه، ممتدا نحو النجوم ليباركه الله في «تغيير العالم».
هذه الكلمات نسمعها مرتين في الشريط، ولم يكن استخدامها واضحا كليا في الحالتين، وهذه من صفات الأفلام المستعجلة التي لا تعتني كثيرا بكل حرف يقال وتكوّم كل ما لديها من أفكار سوية. لذلك لم نعلم هدف المجموعة في تغيير العالم، هل كما كانوا يطمحون الى أن يكونوا مشهورين، نقودهم لا تحصى، ملابسهم أجدد، فرصهم الجنسية غير محدودة، أم يحصدون الجائزة الأهم: ترسيخ أسلوبهم الجديد في الهيب هوب لدى الناس؟

ممثلو الشارع
يبدأ الفيلم في بروكلن (نيويورك) مع كريستوفر والاس الشاب حينما يقرر أن يحدث أثره في العالم متحاشيا تعاليم أمه الجامايكية فايليتا (أنجيلا بوسيت) التي لا يوجد لديها غيره في الدنيا بعد أن تركه أبوه زير النساء المحترف، لكنه يصيب أمه رغم حبه لها، بخيبة الأمل حينما يعوض المدرسة بالسجن ومنه سيكتب قصائده الغنائية وما أن يصبح خارجه، سيبدأ مهنته كموسيقار من طراز خاص وأول من سيؤمن بأسلوبه المبتكر صديقه كومز (ديريك لوك) الذي يرعاه بصفته أحد «ممثلي الشارع» الرئيسيين.
ومن ذلك الوقت سيطلق على هذه المجموعة التسمية الشهيرة Biggie Smalls التي ستتعاون مع مغني راب آخر ليل كيم (ناتوري نيغتون) ومغنية مجموعة 3 LW إيفانس (أنتونيكا سميث) التي ستصبح زوجة كيم فيما بعد، وسيعاني الجميع بعد فترة من الانشقاق المؤذي لصديقهم الثائر توبيك شاكور (أنتوني مايكي). لاحقا، ستأتي علاقته مع كيم وزوجته إيفانس معجونة بالغيرة والغضب والأذى مفتتحة تجربته المبكرة في سجن كارولينا ومحددة مساره الإجرامي الرئيسي الذي كان نهايته القتل الغامض في لوس أنجلوس.
ومن عنوانه يمكننا أن نحزر أن Fox Searchlight Pictures حددت أعمار جمهور فيلمها لما فوق السابعة عشرة سنة، ولمن شاهد الـ 100 دقيقة سيتضاءل لديه الأمل في رؤيته على الشاشات المحلية، لكونه «سيئ السمعة» بما يكفي في ممارسات الجنس الكثيرة المصحوبة بالتعامل شبه العادي مع المخدرات.

من أجلهم
بداية، كان حضور جمال وولدراد طبيعيا وضروريا، رغم أن تمثيله يصاب بالتصلب أحيانا، لكنه كحامل شخصية الـ Biggie Smalls يكون أيضا كبير الأهمية، متوازنا مع النجاح السابق للشريط الوحيد الذي أصدره، الشاب الذي يقابل بابتسامة تقريعا قاسيا لفتاة حاول استمالتها: «أنت دهين وفوق ذلك أسود وقبيح جدا»، إلا أنه عميق وموهوب وسينجح في غضون أربع سنوات في أن يكون مشهورا جدا وكذلك ميتا.
ونهاية، يعتبر الشريط قصة قياسية لبروز موسيقى الراب وحكاية طفل رفع نفسه من زوايا الشارع إلى القمة، ونظرة محايدة لثقافة العنف والموهبة التي لم تنقذ صاحبها.
ولعلنا نتجرأ في الحكم على أن الموسيقى التصويرية كانت أقوى عناصر الشريط الذي لا نملك إلا التعاطف معه وتلك الأغاني المبكرة التي ساعدت هؤلاء الشبان على "تغيير العالم" ومن أجلهم لا مجال للحديث عن زلات السينما، وهو ما حاول تيلمان مراعاته في التركيز على هيبة الفنان في بطله، على أصدقائه وجمهوره، على مغازلاته وصبره ودأبه وترقيه ومن ثم نجاحه المبهر.

Final cut


أي نجاح نتحدث عنه لاحقا، سيحسب بلا شك للمخرج الشاب عمر نعيم وداهية التمثيل روبن وليامز، اللذين قدما واحدا من أهم وأروع أفلام الخيال العلمي الممعنة في الإنسانية.
بداية، لا نعلم سبب تأخير عرض الشريط على الشاشات المحلية، لأنه أنتج قبل خمس سنوات، لكن هذا لا يعنينا بأكثر من الإشارة إلى تاريخ تصويره والانتهاء منه، قدر تعلق الأمر بالمسائل الفنية الخاصة بتطور السينما خلال هذه الأعوام.
عموما، يستطيع روبن وليامز اختراق أجيال قادمة في أدائه الذي يجسد فيه الشخصية السرية والمخفية، ويستولي على أي دور يمنح له منذ «الاستحواذ على اليوم» 1986 و «الوكيل السري» 1996و«صورة ساعة واحدة» 2002 و«أرق» 2002، هو وليامز الشاذ الذي اقترب من التجاوز على التمثيل نفسه.
تحرير الذكريات
الحكاية لا تنحصر بالرقائق التي تزرع في الدماغ وتخلد الذكريات، بقدر ما كانت مهمة لوليامز للتحرر من هذه الذكريات، الذنوب والحسنات، الوثبات والاندحارات، للعالم والمتعلم، للجاني والمجني عليه، الزوغان منها، محاكمتها والانتصار عليها، وفي كل الأحوال خضّها لتدوم كما كانت.
يعيش وليامز وحده منفقا جلّ وقته في غرفة مكائنه الجارحة، في حين صديقته (ميرا سورفينو) يمزقها اليأس ما أن تخاطبه: «أنت ساحر.. كاهن .. أو محنط» (الاثنان حصلا على الأوسكار).
وهو محنط حقا في مومياء ذكرياته، محاولا إزالة آثار التعفن منها، نحن لا نعرف كم يتطلب ذلك من أداء فظيع لشخص يتلصص على ذكرياته!وهكذا، فما الغرابة إن بدا حزينا ومرهقا، بل محطما، كالملاك الذي جسده في «أجنحة الرغبة» على المسرح، كيف عليه تخطي الضعف والشر في حياة لا يشعر أنها ملكه، ان وجوده منحصر كونه حامل ذكريات حياة أخرى.
إن أي حبكة تسيّر الفيلم لا تكون مهمة، مقارنة بفكرته الكبرى، فلن يشغلنا الغني المسيء للأطفال والفاسد تشارلز بانيستر الذي خلف وراءه أرملة ثرية (ستيفاني رومانوف) تستأجر ألن هاكمان بأموالها ليعيد لها ذكريات زوجها التي سجلها منذ ولادته على شريحة خاصة، كإشارة لانسحاق البشر في أقصى درجات الاستغلال، وهذه المرة ليس الجسد، بل عبودية الأفكار، فلا يوجد أقسى من أن يشتري أحد ما دماغك.

تذكر لي
يلعب جون فليتشر (جيم كافزيل) دور زعيم مجموعة تعارض الـ Rememories أو أولئك الذين يستأجرون أحدا ما «ليتذكر لهم»، مستندين على التعاليم الكاثوليكية في أن الله هو الذي يراقبنا دائما وليست الملفات الرقمية.
والشريط الذي استقبل في خانة «الخيال العلمي»، هو مأساة معالجة بطريقة حسنة للغاية ودراما مرضية، بفضل وليامز الذي حقق نجاحا استثنائيا في تقديم شخصيتين في لحظة واحدة، والتحول من واحدة إلى أخرى بطريقة لا تصدق في تلك الاختلاجات التي يحدثها داخل فمه وخارجه، واهتزازات ذقنه، وقدح عينيه. وقد أشعرنا أن حتى شعره يمثل. فيما تمكن عمر نعيم من إعادة الدراما الحيوية والكوميديا الحزينة إلى السينما الأميركية التي تميزت بالجفاف وشغفها بالإثارة، فلا وجود لبهرجة. وتاريخ نعيم السابق في إنتاج الأفلام الوثائقية جعله يعتمد على تقنيات بسيطة تكفي لتصوير مسرحية. وخلافا لأفلام الخيال العلمي، ليس هناك روبوتات ولا مركبات فضائية ولا طائرات، ففي الشريط رمزية عالية وأفكار ثقيلة.
حوافز درامية
استرجاع صحيح لألن الطفل المتورط في موت عرضي لولد آخر، ما يتسبب في ملاحقته طوال السنوات الأربعين اللاحقة من حياته مطاردا بذنبه القديم وحاملا الذنوب الكبيرة لميت جديد.
إنه لأمر ممتع، أن نجد سينما باطنية يقدمها روبن وليامز بثبات كمعلم للفن الشاق، عائم في كآبته السعيدة ما بين المحيطين، أولئك المنكمشون السابقون، القتلة، المجانين، المجرمون الكتومون، حملة الأحلام التي لن تجيء أبدا والأسرار القذرة والذنوب التي لا تغتفر. هو المهووس الدائم للسينما المعاصرة بشخصيته الحقيقية اللطيفة، الغريبة، الأشد غرابة حتى من العبقري أنطوني هوبكنز.
لقد وجد وليامز أجواءه المثالية في قصة مثيرة نفسيا وسوداوية وفيها قليل من الرنين، مقنعة ومتفوقة الشعور بالأسى والأوهام، عديمة الرحمة.

المخرج عمر نعيم
إنه الفيلم الروائي الطويل الأول لعمر نعيم، وكل من شاهده لابد أن يحمل الشوق نفسه لمعرفة ماذا سيكون العمل التالي لهذا المنتج والمخرج الموهوب الذي فاجأ الجمهور بفكرته المثيرة. ولد في لبنان عام 1977 وهو ابن المبدعة الكبيرة نضال الأشقر رئيسة ومؤسسة «مسرح المدينة». قدم الكثير من الأفلام الوثائقية الطموحة وأنتج أغلبها، وعمل مع كبار السينمائيين في العالم مثل مارتن سكورزيسي وودي آلن وأوليفر ستون وغيرهم.
درس السينما في كلية ايمرسون في بوسطن وأخرج فيلمه القصير الأول «حكاية بيروت» عام 1999 كاطروحة تخرج. وفي غضون 28 دقيقة سلط الضوء فيها على مسرح بيروت الذي هشمته الحرب الأهلية، ونال عدة جوائز.

Miracle at St. Anna

يهدينا الشريط بعض المشاهد المتألقة، والكثير منها يحتاج إلى التحرير المتماسك لكاتب مخطوطة السيناريو الأميركي من أصول أفريقية جيمس مك برايد، مستندا الى الرواية نفسها التي كتبها ولاقت رواجا بعد نشرها عام 2002، وبالمناسبة، فانه كان أحد الجنود الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية. حكايته تتضمن أربعة جنود مشاة أميركيين من أصول أفريقية، مهمتهم العمل خلف خطوط العدو خلال الحرب العالمية الثانية، ولكي يدعم مك برايد قصته جيدا، استعان بما تيسر لديه من خبرة وأرشيف واحدة من مجازر المحنة الكونية، ودارت حول «معجزة» إنقاذ طفل إيطالي في غضون مجزرة سانت آنا التي ارتكبتها القوات الخاصة النازية «أس أس» وراح ضحيتها 560 مدنيا بينهم 106 أطفال والباقي أغلبهم نساء. وأطرها من خلال عجوز من أصول أفريقية يشاهد فيلما لجون وين يعرضه التلفزيون، ولكي يضعنا في قلب الموضوع يزج تمتمة على لسانه: «قاتلنا في تلك الحرب أيضا». وسنأتي لتفسير هذه الجملة التي ينحصر فيها هدف الفيلم.
المشاهد الغريبة
متألقة سنتعرف عليه جيدا بعد أن نراه في اليوم التالي من شتاء 1983 متوجها إلى مكتب البريد في نيويورك حيث يعمل، ولكن المباغتة الحقيقية، أن الشريط سيخبرنا في النهاية فحسب، من هو، ولماذا يعمل هناك. وفي الحقيقة لا نعلم حقا إن كنا بحاجة إلى مشهد الافتتاح هذا.وكم كان الأمر يبدو أكثر عمقا لو اكتفينا بمشهد الإغلاق: أترك الرجل يسير ببطء، أو أدعه يتسلق إلى الأعلى، ليتسنى لي فتح النهاية على أفقها، وسيكون ذلك أعمق من جرجرته للركون إلى الشاطئ، وهذا ما كنا نقصده في الفارق بين «المشاهد المتالقة» وتلك التي تعاني من نقائص. لا اختلاف إن كانت «المشاهد غريبة»، لأن الفن يتعطش للغرائب دائما، ولكن هل من الضروري جدا جلوس الجنود الأربعة في مطعم محلي، بينما يرتاح أربعة أسرى ألمان في كشك قريب؟

العنصرية المزدوجة
مثل هذه المعالجات وزج قضية عنصرية البيض في منتصف القرن الفائت لا ينبغي أن تضيف الكراهية إلى النازيين الذين لم يخفوا عنصريتهم، ولم يتركوا سوأة إلا وعملوها، وكذلك لا نعتقد أن ثمة مشاهد يتحسر عليها لو حذفت، كتلك المجادلة واهانات الضباط البيض لمن يقاتل - وكما تذكر المخطوطة بطريقة مباشرة وخطابية لا تجارى : للذي يقاتل من أجل أطفاله وأحفاده وبسبب ايمانه بمستقبله وولائه لرفاقه في السلاح! ما هذا؟ هل نحن نتابع خطابا حماسيا دسّ فجأة أو انزلق سهوا في الشريط؟ وللآن لم نسجل أي اعتراض على جوهر سينما الحرب الأميركية في أن جنودهم لابد وأن ينقذوا أطفال الآخرين أو نساءهم ، مخاطرين بحياتهم بالطبع. وكم يكون الأمر رائعا لو كان الجنود من أصول أفريقية وبورتريكي لكي تعد طبخة مناهضة العنصرية جاهزة.

تأثير أفلام الحرب
والمخرج سبيك لي لم يفلح في الإفلات من الشريط الأقوى بكثير «إنقاذ الجندي رايان» الذي وقره النقاد والعامة على السواء، وحمل بصمته الخاصة في أفلام الحرب والسينما بشكل عام ، لكونه أحكم صنعته، ولم يعتمد على الاستعراض الضخم للمعارك والمساومات العرقية في الحوار وتأثيراته العميقة التي رزق بها من حادث بسيط.
ومن المحتم أن نسأل فيما إذا قدم الشريط شيئا جديدا مقارنة بملاحم الحرب مثل «اليوم الأطول» 1962 و«الأحمر» 1980 وغيرها.

من أجل المذبحة
وكان على سبيك لي أن يحرك جنوده الأربعة في خريف 1944: ديريك لوك ومايكل إيلي وألونسو لاز وبنسن ميللر في قرية كلونورا، ويعبر بهم نهر تسكانيا، متقدمين أو منسحبين، وفي تلك الأثناء لم نكن على دراية بشأن تمثال فلورنسا ومغزى حمله، ولا الدور الحقيقي للطفل أنجيلو (ماتيو سكيبوردي) والظهور السريع لريناتا كامرأة قروية جريئة وجذابة تنتمي إلى مكان يعادي النازيين، لتساعد في اشتراك كل القرويين في المعركة، تعاطف يصل إلى الموت، بلا أي تمهيد، غير استنادها إلى أحداث وقعت فعلا.
تماما، كالرابط المفقود بين أنجيلو والقطار الذي لم يبد واقعيا، على عكس الكاميرا التي كانت تحب أداءه، وكذلك الرقص في الكنيسة المحلية والموسيقى الصادحة والتطورات الرومانسية التي جعلتنا نتابع مشاهد من مسرحية موسيقية وليست عملية خلف خطوط مكان يغص بالنازيين.
من المحتمل أن ما أوردناه لم يكن مشكلة السيناريو ولا الإخراج، فالكثير من المنتجين يتمسكون بمفاهيمهم الخاصة التي يرون أنها تصب لمصلحة الفيلم لكي يجعلوه أقصر وأسرع وأكثر إثارة وتنوعا وخيالا وعنفا، لكن هذه العناصر كلما زادت أو أقحمت تجعله ضئيلا فنيا، ولعل مسعى المنتجين خاب حينما سجل نسبة حضور متدنية في افتتاحه، ولم يتجاوز ايراده 3 ملايين دولار في غضون عرضه في الأسبوع الأول.

أول بطولة
وبالمناسبة، هذا الشريط، من القلائل جدا من الأفلام التي سلطت إنارتها على الجنود من أصول أفريقية الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، فأغلب سينما الحرب الأميركية كانت تظهرهم في حروب أخرى في مقدمتها فيتنام، ولكن ذاكرتنا لا تقودنا إلى فيلم أميركي عن الحرب العالمية بطلها من ذوي الأصول الأفريقية، فكل الأميركيين الشجعان الذين ضحوا بحياتهم من أجل حرية أوروبا كانوا بيضا، بداية من جون وين وباقي نجوم هوليوود. لذلك جاءت عبارة المفتتح التي ذكرناها في المقدمة.
وهو أكبر تناقض عاشته سينما الحرب الأميركية حيث كانت في أفضل الأحوال تظهر الجنود من أصول أفريقية يطبخون، ينظفون، يقودون الشاحنات، لكنها لم تفسح لهم المجال لكي يحاربوا في أفلامها.
غير أن شريطنا المختار أراد القول إن الرجال الأميركيين الأفريقيين حاربوا الفاشية باسم الديموقراطية وهم ما زالوا مواطنين من الدرجة الثانية.

إعادة تفسير التاريخ
وهي إشكالية ومسؤولية كبرى، كما يقال «إعادة كتابة التاريخ» عبر الفن، لاسيما أن ضحايا سانت آنا - دي ستازيما لا يزال البعض منهم أحياء، لذلك لا ينبغي أن تكون إعادة البناء خاطئة، وهذا ما حصل فعلا عندما استفز عرضه في إيطاليا جيوفاني كيبللوني الذي عاصر تلك الأحداث ويحترف السياسة حاليا، والذي لم يتردد بوصف الشريط بأنه «تحريف للتاريخ»، وأيده في ذلك عمدة القرية المنكوبة.
من جانب آخر، يملك مك برايد الحق في تفسير التاريخ، حتى لو لم يكن تاريخه، فإذا كنت لم تعالج تاريخك بعد، دعني أعمل قصة عنه (هذا ما دعا إليه بالفعل المخرج سبيك لي)، وأخلاقيا، لا يحق لأحد الاعتراض على نظرة الروائي، أيا كانت مقاصده، فإن كان يحرّف التاريخ، فالتاريخ سيحرّفه أيضا.