فيلم لمايكل مور بالكامل، كتبه وأخرجه وصوّره وكذلك أنتجه، وساعده المنتجون الفنيون كاتلين جيلين وبوب وهارفي وينستين وجون هارديستي، الذين لم تكن الرأسمالية هدف صورتهم، قدر توجهها نحو المجتمع المالي الذي شهد الهزة العالمية المعروفة، أو كان بطلها الرئيسي.
لكنه في الوقت نفسه، ليس شريطا يعرض (أو يعالج) أزمة، وهو لا يمثل تلك المباراة المزعجة لليمينيين في «فهرنهايت 11 - 9 «وحزمة الرسائل التي كان يوزعها على السياسيين الذين يكرههم والتي انتزعت تصفيق أعدائهم المنبهرين بالمفاجأة الكبرى للإقناع اليساري المباغت الذي حصل عليه في أوروبا على وجه الخصوص.
ومايكل مور عرف بإطلاق رسائله الإعلامية قبل أفلامه، وقد يصاب بالضجر لو جلس في مكتبه يوما من دون أن يبشر الصحافة بخبر خام يفسح المجال لسخرية النقاش، وقد يكون مجديا في وقت يصارع فيه الرئيس باراك أوباما الكونغرس والشيوخ لانتزاع ثلاثة مليارات لتأمين 36 مليون أميركي صحيا، عثرت عليهم سجلات الرئيس الاستثنائي بلا حماية صحية.
والشريط ليس الجزء الثاني لـ«فهرنهايت 11 - 9» ، بل مجهر مواز لشريطه «Sicko» و«أنا وروجر» و«بولنغ»، بالأسلوب ذاته الذي تجد فيه الريبورتاج الصحافي والمقابلة والجدل والانفعال والشغل الأرشيفي المنهك.
سيزور الطفل ذو النظرتين، او الرأسين، معقل الرأسمالية في وول ستريت ليتعرف على مزاياها بحضور مرئي جدا للمنغمسين في الملذات، وأولئك الذين أصابهم الضرر في صناعة السيارات الأميركية، ليصبح الدور المركزي لـ «أنا وروجر» (عن روجر سميث الرئيس التنفيذي لجنرال موتورز)، كاقتطاف عمل متحرك حينما يزور الأب وابنه منطقة المصنع الساكنة.
الأرض المقنعة
ان أكثر ما يغيظ في السينما الوثائقية، تسوّل عواطف المشاهدين بانتقاء مشاهد من دون أخرى مع بعض الحلوى الموسيقية، وهي الوسيلة الدعائية التي تعتمد عادة في الحروب النفسية (ضد أو مع) التي تجر الفن الى أهدافها لتجعله رخيصا كالسياسة.
ولسوء الحظ، لم يقف مور على الأرض المقنعة عند عرضه «الحقائق السيئة» كما يراها، أو يفضلها، ولأن كاتب أي قصة بإمكانه ترويع القارئ وكسب مشاعره، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك سلاحه الرئيسي.
لا جديد في اعتصام العمال المطالبين بصرف مستحقاتهم المتأخرة أو إرسال المزيد من المجرمين إلى السجون، أو النداءات المتكررة للتخفيف من الضرائب، إلا أن مشكلة مايكل مور أنه يعرّف الرأسمالية بمناشيتات مناوئيها، فهل سيكون الشريط ناقصا لو حذفنا منه مناقشات الكاتب هيلمر الشبيه بقطعة زجاج مع حراس الأمن، أو ارتجال الحوار مع مدير الشركة التنفيذي كممثل للمؤسسة المالية الناجية مع الهلاك والمستمر في «مص دماء الشعب».
مهمة الفن
من يستطيع الجزم أن مهمة الفن توجيه النصائح والتوضيح والتعريف والاشتقاق والتنديد والشجب، وما الذي سيحصل لو يكون ذلك على حساب الوميض الذي يصيّر نور الفيلم.. حياة؟
مور لم يحترم هذا الأمر، فهو القائل «أرفض العيش في بلاد مثل هذه»، غير انه لا يتركها، وفي الوقت الذي يشاكس منتقديه اليمينيين، ليس لديه أجوبة لرفاقه اليساريين.
إنه يخفق فنيا وفلسفيا، وكانت حججه لتهشيم الرأسمالية ضعيفة مثل ماركس وأنجلز، فمن قال أن انتقاد الرأسمالية ينبغي أن يكون بالبحث في أخطاء المنظومة الأميركية (الأكثر شناعة في رأيه)!
وماذا عن عناصر السينما الأخرى التي أنتجت 117 دقيقة من الصور المهزوزة ( أدار التصوير دان ماريكانو وجايم روي)؟ والصوت لم يمر بفحص على الأرجح، لعله استعجل إصدار الشريط للمشاركة في مهرجاني فينيسيا وتورنتو.
أما النص، فيصلح لأن يكون عناوين بارزة للصحف، مقاطع لخطب سياسية، نصوصا للبلوغرز، برامج حوارية، نقاشا في جلسات تناول الشاي، ضجر ملايين العاطلين الذين يكسرونه ببعض النكات السياسية، وهكذا، فإن نيران الامتعاض إن صبت في الفن تحرقه، كإجراء عملية زرع القلب ووضعه في المكان الخاطئ، هذه باختصار ليست مهمة الفن.
في الأخلاقيات
إنك تريد أن تنزل أميركا إلى الحضيض، فتعرض ما فعله نيرون بروما كرمز مناوب دهنته الآداب قبل مور حتى صار قصاصات بعثرها التاريخ الأدبي في أعمال بلا رؤوس، لا يفيد معها الإنعاش، فما الفائدة من عرض الحرب الفيتنامية كلما أردنا شتم أميركا؟ وما القدر الأخلاقي الذي بحوزتنا، عندما نستخدم البشر كدعائم لأعمالنا الفنية (دون علمهم في كثير من الأعمال الوثائقية والروائية)؟
إن العالم كله وفي مقدمته المنظومة الاشتراكية وليست أميركا وحدها، مليء بانتهاكات أرباب العمل والفساد والتزوير. هناك شركات التأمين التي تمتصك حتى وأنت في الموت (نموذج مور تأمين الفلاح الميت)، ثمة الجريمة السائرة نحو التفاقم. إن الظلم لم يكن أبدا في التاريخ الإنساني نتاج الرأسمالية الأميركية المعاصرة، لكونه ممتد منذ الخليقة وعبر الكوكب.
فأي إيمان سيزعزع مايكل مور ولأي ّ سيصل نداؤه في التغيير الذي يبدو مستحقا مع اختيار أوباما كأول نتاج للائحة الثانية لحقوق الإنسان التي أصدرها روزفلت ( الذي أخرجه الشريط من القبر عدة مرات) مناشدا الضمير الجماعي الأميركي ومخططا لمستقبل أميركا بلا مراوغة.
إن الجياع الذين عرضهم مور، هم ضحايا الأنظمة الدكتاتورية الذين يبنون شرعيتهم من تعسف الاشتراكية وجفافها، وليس المواطن الأميركي الذي يولد ومعه صوته.
لقد فشل مور فنيا حينما اختار دور الواعظ بغطاء وثائقي تقليدي، ثم أعقب هذا الفشل بآخر فكري باستئجاره جحافل الشعارات التي كانت المنظومة المضادة تضخها بخرافها.
ساعتان يقدمهما الشريط مهمتهما الرئيسية تبليد العقول وإعادة أزمنة القطيع، فما أسهل الحكم بخيانة «الرأسمالية» لمبادئها وطمعها المفسد للمال ولأنها تجعل الفقير أفقر والغني أغنى (الاشتراكية أفضل في أنها تجعل الجميع فقراء) وأموال الضرائب لإنقاذ البنوك والشركات التي هوت بسبب إداراتها السيئة ومقامراتها التي تواطأت معها الحكومة، والرأسمالية تخالف تعليمات السيد المسيح.
هذه العناصر ليست سهلة فنيا وفكريا فحسب، بل رخيصة للغاية في حالة استخدامها كوسيلة لبناء عمل يصدم الجمهور. وقصة الحب التي أرادها مور كشافا لعيوب الرأسمالية لم يكن لها صوتها الخاص وذكاؤها الواسع، وكأن هذا المخرج المشوش القضايا، صحا فجأة وأدرك أنه الوحيد الذي اكتشف الظلم وأوقف المفرمة المبيدة للبشر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق