29‏/11‏/2009

Love Happens


شخصيا لا استطيع إحصاء عدد الأفلام التي حملت مفردة الحب في عنوانها، لكنني أشهد أن أفلام الحب العميقة، لم تظهر من هوليوود ولا من كتابها ومخرجيها وشركاتها.
وعندما تنشأ هكذا، وأنت شبه متيقن، أن هوليوود لا تستطيع – لأسباب لسنا في محل مجادلتها – إنتاج سينما مدهشة يكون الحب موضوعها، وحينما تفشل في تحويل أعظم روايات الحب في الإنسانية إلى السينما (كما حصل على سبيل المثال، في بارقة غابريل ماركيز «الحب في زمن الكوليرا» وتم تحليل شريطه في هذا المكان)، فمن الصعب أن ترسلك هواجسك إلى ما هو أبعد من مشاهدة «قصة حب»، تنمو مع عناصر سينما هوليوود الأساسية، حكاية مبرمجة ينفذها نجمان معروفان وفريق محترف تقنيا يضمن لك تقديم صورة لطيفة، وفي النتيجة لم تصدم هوليوود افتراءنا القديم، ونفذته بلا مفاجأة تكدر مسلماتنا.


تسكع في الغموض
صحيح أن واحدة من أهم مهام السينما، إبعاد النوم والإغفاء عن الجمهور في صالاتها، إلا أن المخرج براندون كامب وكاتب السيناريو مايك طومسون سلكا الطريق السهل في «الحب يحدث»، باستمالتهما النجمين آرون إيكهارت وجنيفر أنيستون لأن يكون الأول أرملا بما تحمله الكلمة من كرب والثانية امرأة وحيدة من سياتل تحمل ما تعنيه مفردة «الأمل»، وعليها أن تفرج عن مسلسل أحزان، لا يملك المشاهد إزاءها، غير الانفجار بالبكاء وتجفيفه دموعه ببقايا تذكرة الفيلم.
وبيرك (إيكهارت) الكاتب الذي وفق في أن يتصدر كتابه المبيعات ويتسلق فوقه ليلقي المحاضرات ويعلم الناس مغزى الحياة، فيما يصبح علامة تجارية في عالم النشر، وهو بذلك، وعناصر أخرى مختلفة، مزيج فاتر لشخصية تكدس عباراتها الأنيقة في حلقات النخبة، غير أنه يستخدم لغة الإشارة لو تطلب الأمر مغازلة في ممرات فندق، وكذلك لا يعيقه استرجاع وفاة زوجته قبل ثلاث سنوات في حادث سير، في الوقت الذي يرغب السيناريو فيه، كإشارة إلى «الشفاء العاطفي» الذي كان يدعي حضور ندواته إليه، محذرا إياهم من «المشي على الجمر» وبعض الهراء الآخر.
المثير أن كامب وطومسون، لم يقدما الكاتب الذي تحدثا عنه، لأن بيرك بدا شخصا افتقر إلى البصيرة وخلا من الكاريزما، ممل الغايات وألاعيبه بسيطة
ينظم ندوات جماهيرية لمساعدة الناس على تحمل الفراق، لكنه يركل حزنه بجبن بلا محاولة لفحص مشاعره، وفي النتيجة، سيدفعنا ذلك إلى التساؤل: لماذا كان الجمهور يستمع إلى نصائحه بتأثر ويصدقها!


مقاولة حب
وهذا السؤال لم نطرحه على الهامش، لكونه جوهر «حدوث الحب»، لأن إلويس (أنيستون)، التي كانت تمثل بلا عينين حيث اختفى بصيصها القديم، واحدة من هؤلاء الذين جلسوا يتعلمون فن الحياة من الكاتب الأكثر رواجا والذي يعلمهم كيفية مواجهة العالم مع فقدان الأحباء، ولديها هواية حمقاء وهي كتابة الكلمات العشوائية على الجدران وخلف اللوحات، عند انتهاء عملها كبائعة للزهور.
ومن الصعب الفهم، أن شريطا يستند الى الحب ويجعله عنوانا له، يضع المشاعر في آخر اهتماماته، كأن المخرج وكاتب المخطوطة، كانا مقاولين أخذا على عاتقهما إتمام صفقة الحب، لذلك وقعا في أسوأ أنواع العلاقات، وهي في اعتقادنا: الحب المخطط له، وأهملا: اللحظة، الشرارة، الطوفان، البرق وذلك الدفق اللانهائي الذي يغدق على المحبين بهجة وتعثرا وإلهاما ونشوة وحرارة وسموا، ليجدا أن خيارهما هو الأصدق وأنهما صبرا على الدنيا بانتظار هذه اللحظة.
هذه جبال يحتاج إليها ممثلون كبار لحملها أولا ومن ثم تصديرها للمشاهد، فماذا كان يتوقع فريق الفيلم من أنيستون العادية وإيكهارت البعيد عن الفضول، ومن سيناريو اختصر الذنب تجاه الزوجة الراحلة باحتساء الفودكا.
أدرك أنها «لعنة شكسبير»، لكونه أغلق هذه الموضوعات، لكن المبدع الحقيقي هو الذي يتسلل مكتشفا أعماق الكبار، لا شيء من هذا يحدث في حب كامب وطومسون، ويكفي مراجعة المشاهد التي خططوا لكي تكون «مؤثرة» بين إيكهارت ومارتن شين، هناك سيخبرنا السيناريو عن كل شيء، فاضحا أهم أسس الدراما: التلبية.
والحديث ليس عن تلبية متطلبات الإنتاج وما خطط له سكوت ستوبر وماري بارينت، لأن هذه الأسماء موجودة في أفلام كثيرة، بل عن شريط لوثوا اسمه بمفردة «الحب» في لعبة دعائية شائعة، علاوة على السطحية التي باغتتنا طوال الساعة الأولى من الفيلم (109 دقائق) والإصرار على أن القرف هو ميزة رومانسية لغاية التهيئة للنهاية المتوقعة والخادعة، وغير مصدقين أن التخطيط في مثل هذه الموضوعات، هو غش في حقيقة الأمر. فماذا يعني أن تضع المشاهدين في حافلة يسافرون فيها مع الممثل الرئيسي في طريق الشفاء من الحزن، وفي أول محطة سيعثر على أنيستون المضغوطة لتبدأ الرومانسية العاجزة والمتخلفة، التي توفر كل الأسباب لتضع الحب بعيدا.
إنك لا تستطيع «تسويق الحب» بأحداث واردة في كل زمان ومكان، كخاتمة وذروة، وأن البكاء الذي عوّل عليه السيناريو يستدعي ضحك هواة المسرحيات الهزلية، لأنه أحرج الكوميديا التي لا تبنى على الأعراض الجانبية.
في النتيجة، ان هذا الشريط، أهان «سينما الحب» – المهددة بالانقراض - لافتقاره الجرأة والعمق والصدق ولإثارته الضيقة في أن يكون مفهوما وفي متناول الجمهور.
وهو إهانة للحزن لأنه قدمه واضحا، وللأسى لأنه اختبأ خلفه، وللخسارة لأنه عبأها بالحلوى، وللتوبة لأنه لم يبرك في واحة الذنوب، وللفن لأنه لم يستخدمه.

11‏/11‏/2009

Capitalism: A Love Story

فيلم لمايكل مور بالكامل، كتبه وأخرجه وصوّره وكذلك أنتجه، وساعده المنتجون الفنيون كاتلين جيلين وبوب وهارفي وينستين وجون هارديستي، الذين لم تكن الرأسمالية هدف صورتهم، قدر توجهها نحو المجتمع المالي الذي شهد الهزة العالمية المعروفة، أو كان بطلها الرئيسي.
لكنه في الوقت نفسه، ليس شريطا يعرض (أو يعالج) أزمة، وهو لا يمثل تلك المباراة المزعجة لليمينيين في «فهرنهايت 11 - 9 «وحزمة الرسائل التي كان يوزعها على السياسيين الذين يكرههم والتي انتزعت تصفيق أعدائهم المنبهرين بالمفاجأة الكبرى للإقناع اليساري المباغت الذي حصل عليه في أوروبا على وجه الخصوص.
ومايكل مور عرف بإطلاق رسائله الإعلامية قبل أفلامه، وقد يصاب بالضجر لو جلس في مكتبه يوما من دون أن يبشر الصحافة بخبر خام يفسح المجال لسخرية النقاش، وقد يكون مجديا في وقت يصارع فيه الرئيس باراك أوباما الكونغرس والشيوخ لانتزاع ثلاثة مليارات لتأمين 36 مليون أميركي صحيا، عثرت عليهم سجلات الرئيس الاستثنائي بلا حماية صحية.
والشريط ليس الجزء الثاني لـ«فهرنهايت 11 - 9» ، بل مجهر مواز لشريطه «Sicko» و«أنا وروجر» و«بولنغ»، بالأسلوب ذاته الذي تجد فيه الريبورتاج الصحافي والمقابلة والجدل والانفعال والشغل الأرشيفي المنهك.
سيزور الطفل ذو النظرتين، او الرأسين، معقل الرأسمالية في وول ستريت ليتعرف على مزاياها بحضور مرئي جدا للمنغمسين في الملذات، وأولئك الذين أصابهم الضرر في صناعة السيارات الأميركية، ليصبح الدور المركزي لـ «أنا وروجر» (عن روجر سميث الرئيس التنفيذي لجنرال موتورز)، كاقتطاف عمل متحرك حينما يزور الأب وابنه منطقة المصنع الساكنة.

الأرض المقنعة
ان أكثر ما يغيظ في السينما الوثائقية، تسوّل عواطف المشاهدين بانتقاء مشاهد من دون أخرى مع بعض الحلوى الموسيقية، وهي الوسيلة الدعائية التي تعتمد عادة في الحروب النفسية (ضد أو مع) التي تجر الفن الى أهدافها لتجعله رخيصا كالسياسة.
ولسوء الحظ، لم يقف مور على الأرض المقنعة عند عرضه «الحقائق السيئة» كما يراها، أو يفضلها، ولأن كاتب أي قصة بإمكانه ترويع القارئ وكسب مشاعره، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك سلاحه الرئيسي.
لا جديد في اعتصام العمال المطالبين بصرف مستحقاتهم المتأخرة أو إرسال المزيد من المجرمين إلى السجون، أو النداءات المتكررة للتخفيف من الضرائب، إلا أن مشكلة مايكل مور أنه يعرّف الرأسمالية بمناشيتات مناوئيها، فهل سيكون الشريط ناقصا لو حذفنا منه مناقشات الكاتب هيلمر الشبيه بقطعة زجاج مع حراس الأمن، أو ارتجال الحوار مع مدير الشركة التنفيذي كممثل للمؤسسة المالية الناجية مع الهلاك والمستمر في «مص دماء الشعب».

مهمة الفن
من يستطيع الجزم أن مهمة الفن توجيه النصائح والتوضيح والتعريف والاشتقاق والتنديد والشجب، وما الذي سيحصل لو يكون ذلك على حساب الوميض الذي يصيّر نور الفيلم.. حياة؟
مور لم يحترم هذا الأمر، فهو القائل «أرفض العيش في بلاد مثل هذه»، غير انه لا يتركها، وفي الوقت الذي يشاكس منتقديه اليمينيين، ليس لديه أجوبة لرفاقه اليساريين.
إنه يخفق فنيا وفلسفيا، وكانت حججه لتهشيم الرأسمالية ضعيفة مثل ماركس وأنجلز، فمن قال أن انتقاد الرأسمالية ينبغي أن يكون بالبحث في أخطاء المنظومة الأميركية (الأكثر شناعة في رأيه)!
وماذا عن عناصر السينما الأخرى التي أنتجت 117 دقيقة من الصور المهزوزة ( أدار التصوير دان ماريكانو وجايم روي)؟ والصوت لم يمر بفحص على الأرجح، لعله استعجل إصدار الشريط للمشاركة في مهرجاني فينيسيا وتورنتو.
أما النص، فيصلح لأن يكون عناوين بارزة للصحف، مقاطع لخطب سياسية، نصوصا للبلوغرز، برامج حوارية، نقاشا في جلسات تناول الشاي، ضجر ملايين العاطلين الذين يكسرونه ببعض النكات السياسية، وهكذا، فإن نيران الامتعاض إن صبت في الفن تحرقه، كإجراء عملية زرع القلب ووضعه في المكان الخاطئ، هذه باختصار ليست مهمة الفن.

في الأخلاقيات
إنك تريد أن تنزل أميركا إلى الحضيض، فتعرض ما فعله نيرون بروما كرمز مناوب دهنته الآداب قبل مور حتى صار قصاصات بعثرها التاريخ الأدبي في أعمال بلا رؤوس، لا يفيد معها الإنعاش، فما الفائدة من عرض الحرب الفيتنامية كلما أردنا شتم أميركا؟ وما القدر الأخلاقي الذي بحوزتنا، عندما نستخدم البشر كدعائم لأعمالنا الفنية (دون علمهم في كثير من الأعمال الوثائقية والروائية)؟
إن العالم كله وفي مقدمته المنظومة الاشتراكية وليست أميركا وحدها، مليء بانتهاكات أرباب العمل والفساد والتزوير. هناك شركات التأمين التي تمتصك حتى وأنت في الموت (نموذج مور تأمين الفلاح الميت)، ثمة الجريمة السائرة نحو التفاقم. إن الظلم لم يكن أبدا في التاريخ الإنساني نتاج الرأسمالية الأميركية المعاصرة، لكونه ممتد منذ الخليقة وعبر الكوكب.
فأي إيمان سيزعزع مايكل مور ولأي ّ سيصل نداؤه في التغيير الذي يبدو مستحقا مع اختيار أوباما كأول نتاج للائحة الثانية لحقوق الإنسان التي أصدرها روزفلت ( الذي أخرجه الشريط من القبر عدة مرات) مناشدا الضمير الجماعي الأميركي ومخططا لمستقبل أميركا بلا مراوغة.
إن الجياع الذين عرضهم مور، هم ضحايا الأنظمة الدكتاتورية الذين يبنون شرعيتهم من تعسف الاشتراكية وجفافها، وليس المواطن الأميركي الذي يولد ومعه صوته.
لقد فشل مور فنيا حينما اختار دور الواعظ بغطاء وثائقي تقليدي، ثم أعقب هذا الفشل بآخر فكري باستئجاره جحافل الشعارات التي كانت المنظومة المضادة تضخها بخرافها.
ساعتان يقدمهما الشريط مهمتهما الرئيسية تبليد العقول وإعادة أزمنة القطيع، فما أسهل الحكم بخيانة «الرأسمالية» لمبادئها وطمعها المفسد للمال ولأنها تجعل الفقير أفقر والغني أغنى (الاشتراكية أفضل في أنها تجعل الجميع فقراء) وأموال الضرائب لإنقاذ البنوك والشركات التي هوت بسبب إداراتها السيئة ومقامراتها التي تواطأت معها الحكومة، والرأسمالية تخالف تعليمات السيد المسيح.
هذه العناصر ليست سهلة فنيا وفكريا فحسب، بل رخيصة للغاية في حالة استخدامها كوسيلة لبناء عمل يصدم الجمهور. وقصة الحب التي أرادها مور كشافا لعيوب الرأسمالية لم يكن لها صوتها الخاص وذكاؤها الواسع، وكأن هذا المخرج المشوش القضايا، صحا فجأة وأدرك أنه الوحيد الذي اكتشف الظلم وأوقف المفرمة المبيدة للبشر.