بجهد فردي من المخرجة كلوديا يوسا، تقدم فيلم «حليب الأسى» على سواه من أفلام كان لها نصيب التنافس، إعلاميا وداخل أروقة مهرجان برلين السينمائي في دورته 59 المختتمة السبت الماضي. ولعل الفوز بجائزة «الدب الذهبي» لمخرجة تجاوزت قبل سنتين الثلاثين، سيعزز من سمعتها، كما سيساعد في تتبع أحوال السينما في البيرو (إنتاج مشترك بين البيرو وأسبانيا) التي سحبت منها خادمة تعمل في العاصمة ليما لتحيك حولها بطريقة اللاشعور قصة اعتمدت على الفوضى السياسية في الثمانينات التي اجتاحت البلاد، وهو أسلوب الصدمة في الفن الذي يتخذ من حدث مؤثر موضوعة تدور حولها التفاصيل الإنسانية التي تهم السيناريو. و«حليب الأسى» هو الذي كانت النساء البيروفيات ينقلنه بالرضاعة إلى بناتهن. وبداية تعد هذه مادة روائية جزيلة الحزن، قد نعثر فيها بسهولة على بطل يظفر بالدب أو السعفة أو حتى الحصان الذهبي. ومثل هذه الموضوعات التي تبدأ بـ«مأساة» (الاغتصاب نموذجنا الراهن) تحتاج إلى دعم عاطفي في أي إطار فني توضع فيه، وإذا تمكن مدير العمل تأطيرها اثنوغرافيا بشكل جيد باستثمار كبرى مدن البيرو، يصبح واضحا ما الذي تمهد إليه كلوديا يوسا: الجرائم التي ارتكبت ضد النساء المحليات طوال الثمانينات السوداء لغاية تغيير النظام الديكتاتوري عام 1990
الصدر الخائف
أي حليب يخرج من الصدر إن كان ممتلئا غمـّا وحزنا والأهم هلعا؟ هذا العنوان الرئيسي لموضوعة الفيلم الذي تقدمت فيه بنت جميلة في المقياس المحلي هي فاوستا (ماغالي سولير) التي تجد نفسها على فراش موت أمها (بربارة لازون) لتعاني من فوبيا «الصدر الخائف» La Teta Asustada (عنوان الفيلم حرفيا عن الأسبانية)، لتورث فاوستا الرعب من أمها وتحمله لتصبح مشلولة بالخوف وتقوم بجملة من «الترتيبات البيروفية» لتحمي نفسها وأغلبها منصهر مع الواقعية السحرية التي تميز بها الفن الروائي والسينمائي لأميركا اللاتينية، لكن يوسا (المخرجة كي نميزها عن الكاتب البيروفي الأشهر ماريو باراغاس يوسا) وضعتها مخففة لكي يتحملها جمهور السينما المختلف عن قارئ الرواية.
أي حليب يخرج من الصدر إن كان ممتلئا غمـّا وحزنا والأهم هلعا؟ هذا العنوان الرئيسي لموضوعة الفيلم الذي تقدمت فيه بنت جميلة في المقياس المحلي هي فاوستا (ماغالي سولير) التي تجد نفسها على فراش موت أمها (بربارة لازون) لتعاني من فوبيا «الصدر الخائف» La Teta Asustada (عنوان الفيلم حرفيا عن الأسبانية)، لتورث فاوستا الرعب من أمها وتحمله لتصبح مشلولة بالخوف وتقوم بجملة من «الترتيبات البيروفية» لتحمي نفسها وأغلبها منصهر مع الواقعية السحرية التي تميز بها الفن الروائي والسينمائي لأميركا اللاتينية، لكن يوسا (المخرجة كي نميزها عن الكاتب البيروفي الأشهر ماريو باراغاس يوسا) وضعتها مخففة لكي يتحملها جمهور السينما المختلف عن قارئ الرواية.
واقعية لا بد منها
وبدون الواقعية السحرية لا تكتمل الصورة الكاملة للمجتمع اللاتيني، تلك التفاصيل التي تبدو غريبة لأي مشاهد يتصور أن الأمور تجري بشكل طبيعي.هذا الأسلوب اللاتيني علينا تقبله لأنه خلاب ولا ينبغي الانشغال في مدى واقعيته، لأنه ملمس السياق وليس بالضرورة متناسقا معه أو منسجما مع تصوراتنا.
التنوع الخلاب
وأهم ما في الشريط، تنوعه وقابلية المفاجأة فيه وثمة عنصر بارع آخر هو التلميح. فمثلا لم تأخذنا كلوديا يوسا إلى ماضي أم فاوستا لكي نرى كل ما حصل لها، بل كان التلميح الوحيد غير مرئي، والأدهى أنه مسموع من خلال أغنية مرعبة أطلقت قبل موتها. الموسيقى هنا، زودت فاوستا وسيلة الهروب والمصالحة، كما وجدت وظيفة وصيفة لعازفة بيانو وملحنة عصبية جدا عايدة (سوزي سانشيز) التي تميل إلى ارتجال الأغاني كمحاولة لتطهير مخاوفها. عايدة لم تحقق أي تقدم في تلحينها سوناتتها الأخيرة فيما تنفر من صداقة البستاني نو (إيفراين سوليس).مع ذلك تعود فاوستا إلى قريتها لغرض جمع المال لتعيد رفات أمها وتدفنها في مسقط رأسها، فيبرز خالها الرحيم (مارينو بالون) كخلفية مباشرة لبيرو الفقيرة، هذا اللائذ بكل القسوة التي يمكن أن يحملها بشر، يجد السيناريو ما يكفي ليزوده بالجمال والمرح، مصرا على الحب كاستكمال دورة الحياة، دون أن نستطيع تجنب مقارنته مع الفوضى التي تحيطه.
وبدون الواقعية السحرية لا تكتمل الصورة الكاملة للمجتمع اللاتيني، تلك التفاصيل التي تبدو غريبة لأي مشاهد يتصور أن الأمور تجري بشكل طبيعي.هذا الأسلوب اللاتيني علينا تقبله لأنه خلاب ولا ينبغي الانشغال في مدى واقعيته، لأنه ملمس السياق وليس بالضرورة متناسقا معه أو منسجما مع تصوراتنا.
التنوع الخلاب
وأهم ما في الشريط، تنوعه وقابلية المفاجأة فيه وثمة عنصر بارع آخر هو التلميح. فمثلا لم تأخذنا كلوديا يوسا إلى ماضي أم فاوستا لكي نرى كل ما حصل لها، بل كان التلميح الوحيد غير مرئي، والأدهى أنه مسموع من خلال أغنية مرعبة أطلقت قبل موتها. الموسيقى هنا، زودت فاوستا وسيلة الهروب والمصالحة، كما وجدت وظيفة وصيفة لعازفة بيانو وملحنة عصبية جدا عايدة (سوزي سانشيز) التي تميل إلى ارتجال الأغاني كمحاولة لتطهير مخاوفها. عايدة لم تحقق أي تقدم في تلحينها سوناتتها الأخيرة فيما تنفر من صداقة البستاني نو (إيفراين سوليس).مع ذلك تعود فاوستا إلى قريتها لغرض جمع المال لتعيد رفات أمها وتدفنها في مسقط رأسها، فيبرز خالها الرحيم (مارينو بالون) كخلفية مباشرة لبيرو الفقيرة، هذا اللائذ بكل القسوة التي يمكن أن يحملها بشر، يجد السيناريو ما يكفي ليزوده بالجمال والمرح، مصرا على الحب كاستكمال دورة الحياة، دون أن نستطيع تجنب مقارنته مع الفوضى التي تحيطه.
مفاتيح الفيلم
أن أداء ماغالي سولير السلبي بشكل كبير مفهوم لمن يتعمق في السياق، مع أنها تمضي في فيلم جميل تقنيا. فالشريط ممتع بتشكيل مديرة التصوير ناتاشا بارير و سيناريو فرانك غوتيريس واللمسات الدقيقة واللطيفة على الغيتار والأغاني المنفردة التي أداها بروتاغاس ولحنتها سلمى موتال كانت المفتاح الحقيقي للفيلم الذي انتهى عند الدقيقة 97.
جرأة السيناريو
ويبدو أن الأموال الأسبانية لم تكن وحدها التي شاركت في الإنتاج، بل إرث السينما الأسبانية، فمثل هذا النوع من السيناريوهات لا يطيقه المشاهد الأميركي ولا يصل إلى الأوسكار، وقد ينظرون إلى السيناريو في مركز صناعة السينما في العالم على أنه هراء، فماذا يعني متابعة فتاة منكوبة بالخوف تخلط الاعتقادات الشعبية البيروفية بحكاية القدّ الفرويدية وأولئك الذين يهوون سينما «أكشن» تتحرك فيه الصورة كل ثانية، كيف سيتحملون مشاهد طويلة لا رنين فيها غير الظلام بين جدران أربعة! من جهتنا نعتبر العكس، فالمشاهد الطويلة في السكون والظلام، تمسك انتباهنا على نحو أكثر ونعدها «ثقة بصرية». وقد ينفر أغلب الموزعين من هذا الطراز من الأفلام التي تمتلئ فيها الدموع بشكل مستمر كما كان يحصل لفاوستا طوال الشريط بعد وفاة أمها المسنة، لكنها تستقر في الذاكرة أعمق وأبهى.
أن أداء ماغالي سولير السلبي بشكل كبير مفهوم لمن يتعمق في السياق، مع أنها تمضي في فيلم جميل تقنيا. فالشريط ممتع بتشكيل مديرة التصوير ناتاشا بارير و سيناريو فرانك غوتيريس واللمسات الدقيقة واللطيفة على الغيتار والأغاني المنفردة التي أداها بروتاغاس ولحنتها سلمى موتال كانت المفتاح الحقيقي للفيلم الذي انتهى عند الدقيقة 97.
جرأة السيناريو
ويبدو أن الأموال الأسبانية لم تكن وحدها التي شاركت في الإنتاج، بل إرث السينما الأسبانية، فمثل هذا النوع من السيناريوهات لا يطيقه المشاهد الأميركي ولا يصل إلى الأوسكار، وقد ينظرون إلى السيناريو في مركز صناعة السينما في العالم على أنه هراء، فماذا يعني متابعة فتاة منكوبة بالخوف تخلط الاعتقادات الشعبية البيروفية بحكاية القدّ الفرويدية وأولئك الذين يهوون سينما «أكشن» تتحرك فيه الصورة كل ثانية، كيف سيتحملون مشاهد طويلة لا رنين فيها غير الظلام بين جدران أربعة! من جهتنا نعتبر العكس، فالمشاهد الطويلة في السكون والظلام، تمسك انتباهنا على نحو أكثر ونعدها «ثقة بصرية». وقد ينفر أغلب الموزعين من هذا الطراز من الأفلام التي تمتلئ فيها الدموع بشكل مستمر كما كان يحصل لفاوستا طوال الشريط بعد وفاة أمها المسنة، لكنها تستقر في الذاكرة أعمق وأبهى.
في مطبخ برلين
إن التعامل مع العنف في الفن، يحتاج إلى محتوى مثالي، مع الارتكاز على الواقعي والإبقاء عليه طوال تسلسل الشريط، وهذا المقبول في هذا النوع من الأفلام، ولاسيما في مهرجان برلين الذي طوال تاريخه، كان يهتم بالسينما القادمة من تلك البلدان التي يسمونها «نامية»، كما ساعد الشريط - المسيّس بما يكفي - لجنة التحكيم التي ترأستها الممثلة تيلدا سوينتن وعضوية فاعلة لكرستوف شيلنغنسيف وغيرهما الذين لم يخفوا «نواياهم السياسية» في المراحل المبكرة من المهرجان، ناهيك عن التوجه «التاريخي» لمهرجان برلين الذي لم ينتصر فيه بلد من صناع السينما التقليدية إلا في حالات نادرة. وهذا الجو العام لمهرجان برلين كان قد خلق منذ أيام مؤسسيه الأوائل أمثال كوس ليك الذي اشرف على تنظيم المهرجان وكان هدفه الرئيسي دعم السينما في البلدان الفقيرة. وربما اتكأ شريط كلوديا يوسا على هذه «النوايا»، ولأن كل من تابع المهرجان كان يظن أن عملها خارج حسابات الفوز ولم يتجرأ أحد ويعلن توقعه بفوزها، لكن النتيجة جاءت لتفاجئ حتى كلوديا يوسا نفسها. هذا مهرجان برلين السينمائي على الدوام: حريص على خلق «فائزيه» الخاصين.
إن التعامل مع العنف في الفن، يحتاج إلى محتوى مثالي، مع الارتكاز على الواقعي والإبقاء عليه طوال تسلسل الشريط، وهذا المقبول في هذا النوع من الأفلام، ولاسيما في مهرجان برلين الذي طوال تاريخه، كان يهتم بالسينما القادمة من تلك البلدان التي يسمونها «نامية»، كما ساعد الشريط - المسيّس بما يكفي - لجنة التحكيم التي ترأستها الممثلة تيلدا سوينتن وعضوية فاعلة لكرستوف شيلنغنسيف وغيرهما الذين لم يخفوا «نواياهم السياسية» في المراحل المبكرة من المهرجان، ناهيك عن التوجه «التاريخي» لمهرجان برلين الذي لم ينتصر فيه بلد من صناع السينما التقليدية إلا في حالات نادرة. وهذا الجو العام لمهرجان برلين كان قد خلق منذ أيام مؤسسيه الأوائل أمثال كوس ليك الذي اشرف على تنظيم المهرجان وكان هدفه الرئيسي دعم السينما في البلدان الفقيرة. وربما اتكأ شريط كلوديا يوسا على هذه «النوايا»، ولأن كل من تابع المهرجان كان يظن أن عملها خارج حسابات الفوز ولم يتجرأ أحد ويعلن توقعه بفوزها، لكن النتيجة جاءت لتفاجئ حتى كلوديا يوسا نفسها. هذا مهرجان برلين السينمائي على الدوام: حريص على خلق «فائزيه» الخاصين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق