01‏/04‏/2009

Nixon/ Frost



لافت للانتباه، الإقبال الجماهيري المحلي لشريط لا يحمل حتى تعريفه أي بوادر «ترفيهية» وكان يعاني من تحدٍّ تسويقي منذ عرضه الأول في مهرجان لندن في ديسمبر ونزوله إلى صالات السينما العامة في يناير، ومستند الى نص مسرحي فطن كتب السيناريو السينمائي له بيتر مورغان الذي تعرف عليه الجمهور من قبل في أفلام «الملكة» (إليزابيث الثانية) و«الصفقة» و«الملك الأخير لاسكوتلندا»، أخرجه رون هاوراد الذي يعتمد أساسا على المقابلة التلفزيونية التاريخية التي جرت عام 1977 التي اعترف فيها ريتشارد نيكسون بأنه كان مذنبا في الفضيحة الأكثر شهرة «ووترغيت» 1974.
ولعل استحواذ الشريط على أهم ثلاثة ترشيحات للأوسكار ( أفضل: فيلم- إخراج – ممثل رئيسي) يعفينا من المقارنة بينه وآخر فيلم عن رئيس أميركي ونقصد {W} الذي تناولناه هنا في وقت سابق.
لانغيلا النادر
كما أن أداء فرانك لانغيلا - الذي لم تذهب إليه الجائزة – ركز على إبراز جوانب التضحية والنواقص والندم على أخطاء لا ينبغي ارتكابها والشعور بالخزي أعقاب الاستقالة، كيفية التحكم بالصوت .. متى يكون ضعيفا والوجه شاحبا، حتى التكلف في التمثيل هو تمثيل أيضا، وكانت أهم ميزة لدى لانغيلا قدرته الكافية على إدماج العديد من مظاهر الأداء، ولكي يظهر لنا عدوانيته في قمة عقدة النقص والخراب الروحي الذي يعاني منه وهذه تحتاج لوحدها إلى أستاذ تمثيل من طراز نادر.
لقد كان الأداء الفائق لفرانك لانغيلا يزحف تحت جلد المشاهد ليقفز إلى قلبه متساميا على إخفاق جوش برولين في «دبليو بوش» وعلى خلاف أنتوني هوبكنز الذي مثل سابقا نيكسون بالأسلوب الشكسبيري الفخم الذي جسده كتمثال تسقط منه الدموع.



Frost/Nixon - Official Theatrical Trailer
مورغان الفريد
أما بيتر مورغان، فقد قطع شوطا جادا في كتابة سيناريوهات المشاهير في التاريخ، ويبدو أنه يمسك بثبات هذه المواضيع في السينما المعاصرة وكان عليه فهم ديفيد فروست (مايكل شين) الذي عرض مقابلة نيكسون باربعة أجزاء وكيفية توظيف هذا المقدم التلفزيوني الهزلي المعروف بمداعباته للنجوم وصانع شهير للإمتاع في مواجهة شخصية ذات وزن ثقيل سياسيا. وكما هي الحال في فيلم «الملكة»، لابد أن يملك كاتب السيناريو سلطة مبنية على المعرفة، والأخيرة ملمة جيدا بالأحداث وتجلياتها المهمة وانعكاساتها المثيرة، ولا يضير إن كان فروست جريئا وانتهازيا يضع ماله الخاص ليبقي على مشروعه حيا في كل الشبكات الرئيسية، حيث أغلب المعلنين ابتعدوا عن دفاتر شيكاتهم ليتوسط توبي جونز ( لازار سوفتي) في الصفقة لكي يحصل على 600 الف دولار لينفذ المقابلة الملحمية بكادر بريطاني والتي سيطر فيها نيكسون (وهو الذي يحاول تأهيل نفسه) بشكل سهل وتقريبا استطاع أن يدير مقعد فروست اكثر من مرة، في أشد لحظات استماتته بالتمسك ببعض الذرائع المبنية على معارف عامة في علم النفس وتقنيات علم السلطة وأسئلة المعدين المذلـّة.


Director



هاوارد الجاف
لأي نص مسرحي، لابد أن يكون مكافئ سينمائي في المقابل، ولا يمكن نقل المسرح إلى السينما بالحيل ذاتها، فالملل في المسرح، هو جفاف في السينما، والشخص الواحد على الخشبة، يمكن شطره إلى أشخاص في الشريط، كذلك ملمس الفيلم الروائي يختلف عن الوثائقي الذي يكفيه نصف ممثل، وإذا كان اسلوب التحرير في الوثائقي متوقع دائما، فإن ضربات الروائي المفاجئة هي الداعم الرئيسي لما يسمونه «الإيقاع» الذي يتحرك مع الشخصيات التي تجعل السيناريو ناطقا. التركيز على هذه العناصر كانت المهمة الأساسية لرون هاوارد، الموضوع أمامه سيناريو محترف إلى حد بعيد، غير أنه فضل أصعب الحلول: جفاف الشريط. ومع ذلك، فإن انسحاب السيد هاوارد إلى الظلال فهمناه كتناوب للكوابيس، وكحرفيّ ممعن في موهبته ومؤهل لتنفيذ أفكاره ويميل إلى تعتيم الإنارة في أفلامه حتى في المواقف المبهجة (مهارته تجلت في «أي عقل جميل»). نشير إلى أن رون هاورد تعامل مع رواية متشابكة الأحداث والأزمنة عام 2006 هي «شيفرة دافنشي» وقدم مؤخرا شريطه الأخير «أنغيلز وديمونس» واشتهر في فيلم «أي عقل جميل» و«رجل سندريلا»، وكان قد بدأ مشواره السينمائي بثلاثة أفلام دفعة واحدة عام 1969.

لماذا كان على رجل واحد دفع ثمن اثبات الأمة ذاتها في "الأمل" ؟

مايكل المقنع
وكما في «الصفقة» و«الملكة» ( لعب دور توني بلير) يبرع مايكل شين في «فروست»: رجل في عدة أشكال، يعتني بنفسه اجتماعيا، يكمل المسار مع المنتج البريطاني جون بيرت (ماثيو ماكفادون) يلتقي بكارولين كوشنغ (ريبيسا هول) في الغرفة 747 (لعل الرقم لغز آخر كإشارة لاستقالة أغسطس 1974) في طريقه إلى كاليفورنيا لمقابلة نيكسون للمرة الأولى، حاملا موهبة المهذار الذي يخلط بدهاء العمل بالبهجة للجميع، ولا نستبعد احتياجه لتجسيد هذا الدور للحواجب المقوسة والشفاه المزمومة من حين الى آخر التي عرف في تصنعها جاك نيكلسون. أما نيكسون الوحيد في فيلته الساحلية في سان كليمنت ( صور الفيلم فعلا في بيت الرئيس الأميركي الأسبق) بالاعتماد على الضابط السابق في المارينز العقيد جاك برينان (كيفين بيكون)، بينما الزوجة بات نيكسون (باتي مكورماك) يمنحونها بعض التمهيدات التي لم يتسن لها بعض المهارة وكأنها كانت المسؤولة عن التفاصيل خلف الكواليس.

الماكران الكبيران
لا يكون التسجيل في مسكن نيكسون الخاص، بل في بيت قريب أكثر بساطة، ويستخدم الرئيس عدة أساليب مع فروست خلال الجلسات الثلاث الأولى بسرده قصصا طويلة (لتعزيز قوامه الرئاسي على الأرجح) ويحيد عن الطريق الذي يريد محدثه وضعه عليه فورا. إن «مقتطفات المقابلة» اختيرت ونظمت بشكل ممتاز من قبل بيتر مورغان، وخاصة تلك المحادثات العرضية والخفية ( كمحاولة فروست إمساك نيكسون حول حياته الجنسية الخاصة استنادا الى قصة حقيقية لعلاقة غير شرعية يواصل عليها نهاية كل أسبوع) والتي كان الرئيس يبدع في إظهار عدم غفلته في أن يكون مضيفا مرموقا وفي الوقت نفسه إلقاء ما يمكن إلقاؤه في «سلة مهملات» اللقاء وإعلانه تأهبه كلما ظن فروست أنه أتعبه بالأسئلة، والمثير أن حتى نيكسون نفسه، استغرب من استسلام فروست لمكره البسيط، حتى في إبقائه لمنديل في متناول يده لتنشيف وجهه المتعرق.هذه روعة لانغيلا التي جعلت أغلب المشاهدين - في ظننا – ينسون الممثل ويسلمون أنفسهم إلى نيكسون الرئيس الذي ظهر كرجل واحد يواجه القهر الذي فرضه عليه الجميع، تتقدمهم الأمة التي كانت تبحث عن ذاتها منذ أمد بعيد في «الأمل»، وقررت أن يدفع رجلا واحدا ثمن هذا الانتظار الطويل.

إغراء الإنتاج
إن مدير الإنتاج مايكل كورينبلث صرف 70 مليون دولار ليصعـّد المخيلة بطاقم الموظفين الذي اشرف عليهم مديرو المجاميع لوري كامبيل وتشاد فراي والخلفية الموسيقية التي كتبها هانز زيمير وجدية الملابس التي صممها دانيال أورلاندي والنشاط الإضافي لترطيب جفاف الشريط الذي قام به فريق التصوير: كلير مونت وتوتينو سلفاتور، ولا يخفى أن هذه العناصر كانت الأكثر اهتماما من الإنتاج الذي كان يقلقه جذب أكبر عدد من المشاهدين لفيلم طوله 122 دقيقة منتزعة من 30 ساعة، هي ما تبقت من التاريخ المزعج وشبه المنسي للرئيس نيكسون. كما ساعد الفيلم فريق الممثلين المساندين مع كيفين بيكون كرئيس هيئة أركان نيكسون الذي بدا كأنه يرتدي البدلة نفسها في كل أفلامه الأخيرة وجاك برينان وأوليفر بلات وسام روكويل كمحققين لفروست وباتي مكورماك التي عرفت في شريط «البذرة السيئة».

الفن والتلفيق
ومورغان وجد نفسه أمام سلسلة أفلام تناولت نيكسون وركزت على الأزمة الدستورية والأحداث السياسية والاستخبارية التي رافقت الفضيحة والأوراق التي لا تحصى لمؤرخ ووترغيت جيمس ريستون التي لم تعط أهمية للتفاصيل القصصية، هذه المحاذير رفعت السيناريو إلى مستوى فني عالٍ وقدرة محترفة في عملية الاختزال السينمائي الذي سحب المتفرجين، حتى غير الراغبين منهم لمعرفة ذلك التاريخ، ليواجه الانطباع السائد في «الأفلام الخفيفة» التي تظهر أن كل السياسيين يكذبون وأن العسكريين جزارون ومدراء المكاتب ساديون ورجال المخابرات المركزية يرصدون حركة كل ظل ، بينما المشاهد يستمتع كل مرة بحبكة ملفقة. هذه المرة لم يجر الأمر على هذا النحو، نيكسون قد يكون كسر إيمان أميركا بنفسها، تمت المبالغة في مواجهة صدمة ووترغيت وحرب فيتنام الذي وعد نيكسون بإنهائها لكن وجد نفسه في كمبوديا بدلا منها، وهنا تكمن عظمة الفن، لكونه غير متخصص في التهكم على التاريخ والأمم والشخوص، ولأن مهمته الأساسية حقل الأرض وإبراز ما تحتها، تلك التفاصيل المهملة دون الاعتماد على أدوات الحبكة الرخيصة، وهكذا فإن الجدية هي التي تبقي الفن إلى يومنا هذا ثابتا ومتحركا ومتقدما ومتفوقا.
روعة لانغيلا أنست الممثل وسلمت المشاهدين للرئيس

الفن الرحيم
أراد فروست إعادة محكمة «السيد الرئيس» السابع والثلاثون ونقلها إلى التلفزيون، لكن لنيكسون وزن ثقيل وطبع مراوغ، يستطيع الشارع تحريكه، وليس المقابلة. والغريب كان إصرار فروست على الاستخفاف بمحدثه وكأنه يحدث زعيم مافيا متقاعد، وكم تمنينا في بعض محاور اللقاء لو لم يكن ذلك حقيقيا، وهل من الضروري أن تكون خيانة نيكسون للمرأة الواحدة، ذنوب أخرى تسافر معه ليصبح العدو ضمن كل رجل. لا داعٍ لإظهاره كيهوذا أو السيدة مكبث، لا يعني أن طريقه لم يكن نظيفا جدا، أن يكون حظه التاريخي ساخرا جدا، في المقابل تسلم الشعب الأميركي الهدية باعتذاره، وأن يقول رجل آسف هل خان تراثه، هل أصبح رمزا للازدواجية النهائية، هل كان ينتظر في لحظات الأسف» من يفتح له قلبه ويغفر له؟ أي راهب بعث فروست لكي يؤكد الذنوب في كمبوديا والنوايا السيئة لفريق المحققين التلفزيونيين الذين لم يبالوا بالغفران للرجل الذي «حطم بلدهم»، وعليه من الذي سيجيب «أسف نيكسون» بـ«شكرا»؟ لقد عملتها السينما وأخذت على عاتقها تقديم هذا «الشكر» بطريقة مثقفة وجعله حقيقيا بتوظيف عاطفي اشتغل سرا داخل القصة ولكون نيكسون كان إنسانا وينبغي إخراجه من السنـّارة وهذا ما كان يتمناه لغاية يومه الأخير عام 1994 ، ليتسنى للفن بعد 14 سنة من موته، مسح الغبار عن التيجان الساقطة، كما هو دائما منذ «الأوديسة» ولغاية «الملك لير».

ليست هناك تعليقات: