15‏/04‏/2009

Revolutionary Road


منذ عرض «تايتانك» عام 1997 ومحبو هذا الفيلم يتعطشون الى إعادة تجربة ليوناردو دي كابريو وكايت وينسلت لاسيما كيمياء الصداقة العظيمة بينهما، حتى سنحت لهم الفرصة في رؤيتهما مجددا في هذا الشريط، لكن النتائج ربما سببت لهم القدر نفسه من الضيق والبهجة.
أخرج الفيلم وأداره زوج وينسلت سام ميندس ونقل بطريقة مخلصة جوستن هاوث السيناريو من رواية ريتشارد يايتس الصادرة عام 1961 حول الأحلام الضائعة والمسرعة لسكان الضواحي في منتصف الخمسينات الذين يدركون فجأة بأنهم وجدوا طريقهم الجديد و«الثوري» في الحياة لكي يخرجوا من عزلتهم التي جعلتهم كجاليات قروية في المدن الكبرى. وسيرون كيف أنهم سينقسمون في النهاية بعضهم مع بعض وجيرانهم بتأثر الكدح اليومي الذي سينشف سعادتهم ويزيد من سخطهم.
نحن في غرب كونيكتيكت في عام 1955 ولدينا نموذج لعائلة صغيرة من فرانك ويلر (ليوناردو دي كابريو) وأبريل (كايت وينسلت) التي رشحت لجائزة أوسكار أحسن ممثلة مساعدة عن هذا الدور، لكنها فازت كما هو معلوم في الدور الرئيسي لعملها في فيلم «القارئ» الذي استعرضته هذه الزاوية قبل أسابيع، وكم كان حدثا غير مسبوق في تاريخ الأوسكار لو فازت كايت في الجائزتين، لاسيما أنها كانت تستحق الجائزة بلا أدنى تردد عن دورها هنا، ووضعها زوجها في دور لا يمكن تخيل شكل الفيلم بدونها.

البيوت حينما تصمم بشكل رائع كسجون !


سنوات بلا معنى
الإيقاع يسير متجهما وحزينا كما طرحته رواية يايتس ويحافظ على أسئلتها الحادة التي لا تقبل الخيارين سيناريو هاوث. فيه تأمل للحياة وتسوياتها والأكاذيب اليومية التي يسببها الضجر والتهميش وفقدان التوازن بين الأيام والسنوات التي تمر بلا معنى وبدون شجاعة لتغيير مسارها حتى ولو بالأحلام.
لم تكن فترة مظلمة من زواج شابين، بقدر ما كانت تيه جسّده العبقري بيرغمان في شريطه الفذ «مشاهد من الحياة الزوجية»، ولم تكن تعاسة دي كابريو في عمله واضطراره الى المواصلة لحاجته الى المال بعد أن فوجئنا من دعوته لوينسلت للرقص في حفل عابر، إلى تحولهما إلى عائلة فيها طفلان، ولا تكاد تفرق لدى أحد تلك السنوات التي أهملها الشريط، لأن موضوعه يبدأ، بعد تشكيل العائلة، ومحاولة الزوجة أبريل بيع بيت الضواحي والهروب الى الأمام، وهذه المرة إلى باريس، التي كان مجرد سماع اسمها من الجيران، يجمد كؤوس القهوة في الكف. لكن التغييرات الثورية التي كانت تخطط لها أبريل وتمنحها سعادة مؤقتة، قوبلت بمهلة التفكير التي طلبها فرانك لكي يمهد الطريق الجديد في دماغه ويرتب «فراغه اليائس» باكتشاف الذات.
وبدا أن «اكتشاف الذات» لم يكن سوى ترقية منتظرة في العمل لشركة مكائن كبيرة في مانهاتن، تتطفل على خيال ابريل المندفع لشق «مسار التغيير» (الذي نفضله لتطبيع عنوان الفيلم)، متحمسا لفكرة الترقي الوظيفي، كأن صعود المرتب حفنة من الدولارات سيجيء أيضا بالحلول عندما تبدأ المخارج بالزوال، وخاصة بعد الحل الروائي السهل باصطدام الاثنين بالحبل الثالث على التوالي، الذي جاء في لحظات كان فيها الزوجان يشقان طريقهما المعاكس.


لطخة الدم
المخرج سام ميندس على خلاف زميله ديفيد لنتش، لم ير الضواحي بائسة، بل عكس الجمال الأميركي، لكنه اعتبرها مستنزفة للحياة، طارحا السؤال ضمنيا: هل هذا الحلم الأميركي، أن تكون لك زوجة وأطفال وبيت مقابل أن تساوم الاستقرار مقابل روحك وإبداعك!
سام الذي جعل من شاهد شريطه النادر «الجمال الأميركي» يعاني حتى الآن وكذلك فيلمه «الطريق إلى الجحيم» والقراءة القاسية لمذكرات الحرب في Jarhead ليعود ويذكرنا بلطخة الدم بشكل وردة استخدمها في هذا الشريط عند المشهد الختامي لوينسلت.
معارك الأوهام
ولا نعتقد أن السنوات الخمسين غيرت المشكلة في أميركا ولا في غيرها، فالحياة الرتيبة سائرة نحو خنق الزيجات الواحدة تلو الأخرى، مهددة منظومة الزواج بشكل جاد حيث الأغلب يتحدث عن الطلاق والقليل يندفعون نحو الزواج (بالذات في هذه المجتمعات)، لا ادعاءات في هذا الفيلم أو غيره، على أن المعتقدات الدينية ستساعد على حلول السلام المؤقت لو طفح كيل الرتابة، ليس الأوهام حلا لمواجهة تحديات الملل، هناك معارك تنتظر الأحلام، في العمل، ذرائع أحد الزوجين، النزاعات الحمقاء المتخصصة بالتوافه اليومية، المعارضة المتأصلة في طبيعة الإنسان الذي يجد نفسه مرتبطا مع آخر بمصير مشترك وغيرها.


طريق الأحلام
ان الشريط قدم لنا عائلة مثالية في أسوأ وأفضل ما تكون عليه، حتى في تلك اللحظات التي كانا يداريان فيها قمع الروتين ويقدمان نفسيهما للآخرين كزوجين مثاليين إلى «أصدقائهما» وجيرانهما.
سيبقى طريق الأحلام إلى باريس وإن لم يكن «خطة» حقيقية، لكنه أمل عائم وإن كان عابرا، إلا أنه محاولة للتصدي على الأقل، ولا ينبغي أن نفلت الفكرة الجوهرية للروائي، بأن شخصا واحدا، ربما، سيتراجع عنده الحلم الأميركي لأن هناك أوروبا، أو بمعنى أدق: العودة إلى القمر، إمساك أوروبا من جديد، لقد انهار الحلم في ضواحي الأرض الجديدة.
نجاح شامل
كانت موسيقى المخضرم توماس نيومان بسيطة وغير ملحوظة، مستخدما نغمة خفيفة تعمل على مستوى اللاشعور الذي يزيد إحساس المستمع بأنه ضمن البيت، على عكس عمل الكاميرا الذي كان مدير التصوير يختار الزوايا بحذق، مقدما للسيناريو أكبر خدمة بتقديمه البيت كأنه سجن مصمم بشكل رائع، فأي توفيق زودته الكاميرا لخدمة الموضوع الرئيسي حينما تصور الجو الخانق للبيت حتى عندما يتنزه الناس في غابة أو في المشاهد الخارجية!
ومن نـ.عـَم السيناريو أنه تجرأ وطرح الأسئلة الفلسفية والأكثر قبولا، أن الممثلين كانوا خبراء في «مادة البحث». مثلا، ليس من السهل تصوير أو تمثيل شخص ممتلئ عاطفيا لكنه شحيح الإحساس، هنا الرفعة والعبء الإضافي على الممثل الذي لا ينقذه أحد سوى موهبته، عليك أن تكافئ الطرق التي أوصلتك إلى المأساة في نهاية الأمر وأنت «الخصمُ والحكمُ».
خيانات مندسة
العائلة التي تحمل كل شيء رتيب حتى في الخيانة الزوجية لفرانك مع سكرتيرة بسيطة الطموحات الغرامية مورين (زوي كازان) التي تعامل معها كهدية عيد ميلاده الثلاثين لنفسه، واندفاع أبريل لمعاشرة جيرانها المتواضع الهيئة في سيارة على طريق الآلام.
كأنها واحدة من حالات التخبط في الخطأ لا في ارتكابه، وهذه اللاشكلية هي التي تثير الاستياء، حتى عندما أعلن فرانك خيانته لزوجته، لم تتوقف عن تقشير البطاطا، واعتبرتها محاولة للالتفاف على قرارها بهجره بتصنع الغيرة، لكنهما في النهاية تركا الجمهور مستاء من رؤية محاولة الإصلاح باحتقار النفس والشريك في وقت تحتاج فيه الأحلام على ضبط النفس في واحدة من مراحل تكوينها.

المال لا يشتري ابتسامة ولا يجلب الحلول طالما المخارج تضيق


الاقتراب من الشخصيات

ان أهم شيء تحقق في الشريط تلك الإلفة التي حطمت المسافة بين المؤدين والجمهور (نختار منهم الخائبي الأمل) وكأن ميندس حوَّل السينما إلى مسرح تبدو فيه الأمور تسير بشكل جيد جدا دائما (كما في كل أفلامه)، وكان يحافظ على مسافة صغيرة من شخوصه، لا نعرف إن كان يعرف ذلك أو يريد أن يصبح قريبا جدا منهم، لكن شفقته واضحة حينما تفهم عيوبهم، وهذه ميزة مهمة في السينما، قدرتك على جذب الجمهور إلى الشباك عن طريق حكاية حزينة، تماما كما حصل مع «من يخاف فرجينيا وولف».
في الوقت نفسه أعطى المخرج الحرية لعناصر الـ cinematographers التي اعتنى بها روجر ديكنز (موجود في كل أعمال ميندس تقريبا) والذي لم يعثر على أفضل منه في تصوير مواضيعه الخانقة وشخوصه الذين يعانون دائما في الباطن، سجناء البيئة المحيطة ووساوسهم والمال الذي لا يمكن أن يشتري ابتسامة.
لا حلول وسطا
نعترف أن الشريط صعب المراقبة، لكونه مـُهيب وممل في آن واحد، لم يترك فيه جوستن هاوث أي شيء في الوسط، الصراخ فيه صراخ، والصمت صمت، والتكرار سواء في النزاعات اليومية متعمد ولم يطفر هكذا كملء فراغ ما، لا زركشة مصممة ودماء وينسلت ودي كابريو (نشير إلى الاختراق الذي أحدثه فيه أداء جاك نيكلسن في «خمس قطع سهلة»)، كانت تسير مع الألوان الحقيقية لكل لقطة صورت وقلقهما الدائم الذي لامسته الموسيقى بشكل مذهب، فهما لم يعدا الشابين في «تيتانك»، ولكون أحزان البالغين تختلف كثيرا عن حب الليلة الواحدة.
صادق أكثر من اللازم
ولا بد من التوقف عند شخصية مساعدة واحدة وهي ابن عائلة الجيران ميلي وشيب كامبيل (كاثرين هان وديفيد هاربر)، وهو جون (مايكل شانون) الذي خرج للتو من مصحة نفسية ليمنح دور راوي الحقيقة التي كان يقطرها خلال فترات تناول الطعام واللقاءات التي اختفى منها الودّ ما ان ظهر، لغاية انفجار فرانك وتعنيفه وطرد هذا «المجنون» من البيت، لكونه كان صادقا أكثر من اللزوم في قول الحقيقة، صدقه الذي لا يطاق.

الحقيقة التي ارتاح الجميع لإخفائها: المرأة العادية هي المرأة الجيدة


الفراغ المحطم
وكما لو كنا في المربع الأول للعلاقة حينما سألته: ما الذي تقوم به، يجيبها أعمل حمالا، لكنها كانت تقصد، ما الذي يثير اهتمامه، ذلك السؤال الذي لم يكن يعرف إجابة عنه.
الكثير من الناس في فراغ، ولكن عليهم أن يكونوا فيما هم فيه لكي يصلوا إلى اليأس. لكن في القرارات المصيرية لابد أن تطرح الأسئلة هكذا:
أن تعلم ما الذي لديك
أن تعلم ما الذي تحتاجه
أن تعلم ماذا يمكنك فعله
تلك السيطرة الخالصة.
انها معضلة الهروب من فراغ، لمدينة أرخص، أي حلول هذه؟ القرارات الكبيرة يصعب حسمها : ربما حقا الأمر يحاجة الى احتفال. العمل عشر ساعات في مهنة لا يحبها المرء، خيار يشبه المسؤولية، إن كان الأمر متعلقا بعائلة وسداد مصاريف وغيرها من معذبات الحياة، مادام الأطفال يتسربون هكذا، كل في يومه، فلا أحد يريد مواجهة الحقيقة، الجميع مرتاح لإخفائها: المرأة العادية هي المرأة الجيدة.
ويبدو أن لخطط الحياة دائما لمسات غير واقعية، وأن تضع جميع آمالك في وعد لم يتحقق، لا يمكنك التوقف عن رؤية المستقبل كالتلميح الممزوج بالمرح الساخر الذي أطلقه البوهيمي المستتر فرانك: «نحن نركض من الفراغ اليائس للحياة».
وماذا لو تجبر بين الخيارين: لا يمكنك البقاء.. لا يمكنك المغادرة!
وهكذا عندما تقرر ترك المنزل افعل ذلك برقيّ، لذلك لم يكن صعبا تفهم الأداء البالغ الصحة في منح نظرة الوداع من قبل وينسلت وهي تمضي نحو خيارها المحتوم.

ليست هناك تعليقات: