26‏/05‏/2009

The White Ribbon - Das weisse Band

'The White ribbon'
بالأبيض والأسود يحرز «الشريط الأبيض» للنمساوي مايكل هانيكي واحدة من أهم الجوائز في تاريخ السينما وهي السعفة الذهبية لمهرجان «كان» في دورته الـ 62. كما لو كانت القرية البروتستانتية لا تتمتع إلا باللونين الأسود والأبيض فعلا، يعيدنا هانيكي الى عشية الحرب العالمية الأولى وتحديدا بين عامي 1913-1914 مقدما لنا حكاية مجموعة أطفال ومراهقين يديرهم بصيغة الراوي معلم القرية موزعا عليهم الذنوب والمهام: البارون، المضيّف، القسّ، الطبيب، القابلة، الفلاحون والأطفال. ولابد من حوادث غريبة أن تحدث ليتم مواجهتها بأسلوب الرعب المرح الذي اعتاد عليه المخرج في أفلام سابقة، لاسيما في شريطه «ألعاب مضحكة»، غير أن لعبته هذه المرة كانت تحتاج إلى طقوس للعذاب، في حقيقته كان عقابا، على الجميع تقاسمه تدريجيا.


LE RUBAN BLANC
بهذا الفيلم الجديد، يعود مايكل هانيكي (ساعده في إعداد مخطوطة السيناريو جين كلود كارير) إلى مواضيعه الكلاسيكية التي يمسّ فيها الصفات الإنسانية الجوهرية: الشعور بالذنب، نكران الذات، العنف كميزة للسقوط الجماعي وإشارة إلى صعود الفاشية عبر التربية الصارمة لأطفال من أجل تنشئة مبادرة الإجرام فيهم، لافا شريطه الأبيض حول قرية في شمال ألمانيا خلال فترة العزل قبل نشوب الحرب، سائرا بدقائق الفيلم الـ 145 بصرامة وانضباط وشدة الثلج الذي كانت عليه أعصابه في غضون تصويره. هي حكاية أناس معزولين تهزهم أحداث غير قابلة للتوضيح ولا المتعة يرويها معلم القرية العجوز جاكوبي بدءا من الحادث الغامض لسقوط الطبيب المحلي بوك من حصانه وكسر عظم ترقوته، قبل العثور على سلك مثبت بتعمد لإيذائه. وسيعرفنا الرواي بمالك أراضي البلدة البارون الارستقراطي أولريك توكور وزوجته لاريدا والقس البالغ الحزم والثقة بنفسه كلاوسنر وآخرين كمدبرة المنزل وحبيبة الطبيب (لوثار) والبنت التي تغتصب (روكسان دوران) ومضيف عقار البارون (جوزيف بيربشلر) والمزارع المحلي (سامورفسكي) الذي تموت زوجته مباشرة بعد حادثة الطبيب، بينما المعلم العجوز يغري مربية الأطفال 17 سنة (بينيش) بعد عجز الطبيب لكي تكون عروسه.


Michael Haneke

ستتوالى الأحداث الغامضة في القرية: يجدون بشكل مفاجئ ابن البارون مجلودا والحظيرة محروقة، تقتل زوجة مزارع في معمل نشارة وتنهال الأمراض، لا شرطة ولا أحد يمكنه التوصل إلى مصدر هذه الجرائم. إذن، يتحقق مراد السيناريو في عكس الوحشية والظلم المنتشرين في القرية بغض النظر عن النوايا الحسنة لبعض الأطفال والنساء وحتى البارون، لكن من سيضمن لمدير العمل أن ذلك لن يؤدي إلى كراهية المشاهدين بسبب الإذلال الذي يتعرضون إليه والشر السادي في مشاهد جلد الأطفال الذي صوّر واقعيا. استبدال الحرمان بالخوف إن الشريط أو «الوشاح» الأبيض الذي يفرض القسّ على أطفاله ارتداءه، هو عنوان «الإهانة» وكرسالة تذكير لحالتهم الشريرة التي تحتاج إلى النقاوة، الوشاح الأبيض هو رمز العنف والانتقام الذي سيجيء وفرض الالتباس للقهر المكبوت والمدفون في الصدور الى حين أزوف اللحظة المناسبة لإخراجه، كإشارة لمرض مجتمع برمته، مرض مستمر يتناول الفرد تلو الآخر.


PALME D'OR : LE RUBAN BLANC DE MICHAEL HANEKE

الأطفال المحرومون من أي حق، في حالة تمرد عقيم ضد السلطة الأبوية والدينية، ينفسون عن حقدهم لها بأفعال هي من السوء، بحيث تسبب تشنج الحياة في القرية، كما لو كانوا يعوضون عن حرمانهم بزرع الخوف في الجميع وأهلهم على السواء، وأحزن ما في الأمر، أن كل هذه السيئات تستمر لغاية اندلاع الحرب: العنف الأكبر.لكن ما يشغل هانيكي، ليس الرعب الذي يصدره واعتاد عليه في أشرطته، بل ما يريد قوله: ان كل شيء يحدث (ممهدا للحرب) لا يهتم أو يبالي أحد في كشفه. كأنه يريد القول انه في الحروب لا يوجد مذنبون ولا جناة ، هذه الثقة المطلقة التي يملكها «الشريط الأبيض» هي إجادته، بل صناعته لغته السينمائية الخاصة ، أما هانيكي، فبدا كأنه انتزع من فريق ممثليه - خصوصا الأطفال- كل ما يملكونه من طاقة في الأداء، لقد حقق مهمته بشكل مثالي.
LE RUBAN BLANC (DAS WEISSE BAND) - Soundtrack
إرث بيرغمان
ومن غير الممكن تفادي التأثير البالغ النضج لبيرغمان على هانيكي (حتى في نشر الضوء على لونيه الأسود والأبيض وتلك التناغمات التي لا تستعاد بسهولة) وجمع شتات كوادره بما في ذلك الزوايا لتصوير الوجوه لكي تخدم ألغازه وكيفية تناوله النزاعات البروتستانتية التي ظهرت مطلع القرن العشرين وكيف تجول في التعبيرية المتشائمة. لا نعلم في أي وقت رأينا آخر مرة، التزاوج الهادئ ما بين البصري (الخارجي) والوعي (الداخلي) في فيلم، غير أن «الشريط الأبيض» يكشفه بصبر مخيف، حتى عندما يصور فناء البلدة كصورة للخواء الذي تبقى لسكانها. هذا التحدي المريع للكاميرا لم يتقنه غير بيرغمان ، وحينما حاول هانيكي ذلك في «ألعاب مضحكة» لأول مرة كان الجمهور الراشد يشك في فهم ما يرى، لكن هذه المرة، لا مناص أمام المشاهد غير التركيز ومحاولة الإجابة: ما الشيء الذي تريد قوله هذه الكاميرا؟ إن القرية كيس كبير ممتلئ بالمخلوقات والتجارب، الأصدقاء والأعداء، المحبوبين والمكروهين، الأتقياء والأشرار، الأزهار وأشواكها، النزاعات العائلية والدينية، المهارة الفنية العالية الدقة الوحيدة التي تستطيع تنظيم محتويات هذا الكيس، بالسيطرة الإيجابية والصائبة على المادة والتفريق بين العاطفي والثقافي في تنسيقها لكي يقدم هذا العالم المغموم كفن مقبول في الحياة الحديثة.


لماذا الأسود؟
اللون الأسود، ما هو إلا اليأس الذي كان يطارد هانيكي نفسه الذي افترض أن شرائطه السقيمة تستطيع انتزاع السعفة الذهبية في كان 2005 أو في مهرجان سيزار 2006، وجائزة لجنة التحكيم عن فيلمه «معلم البيانو» 2001، لكنها صعبة المنال لأذواق العامة. من هنا كان اعتماده في «الشريط الأبيض» على رواية المثقف الذي يسقط من حصانه ( كإشارة الى سقوط الانتلجنسيا) بعد أن وضع أحد ما سلكا في طريقه وعن أطفال يتسلون في قتل الحيوانات ورجل مستاء جنسيا يفرّغ أمراضه النفسية بانتهاك ابنته المراهقة، وبالطبع لا بد من وجود قسّ في هذه القرية يقبض على الأمور بيد من حديد. إن الحركة المملة الواضحة في الفيلم هي أيضا تعمد لهانيكي لعكس حالة اليأس عند شخوصه، والسريعة الى حد التوتر أحيانا أخرى تعبيرا عن قلقهم، وعندما يتركنا للسكون في بعض فترات الشريط، فهو أسلوب تاركوفسكي والمدرسة الإيطالية للتعرض للمشاهد واستفزازه لكي ينضم إلى اللعبة الغامضة والمستترة أسفل السطح العائم للشاشة، لغاية ظهور الوشاح الأبيض الإلزامي الذي كانت مهمته تذكير الشبان ببراءتهم.

Das weisse Band
تضاريس الحزن
أفضل ما فعله كاتب السيناريو والمخرج مايكل هانيكي هو هروبه من الأحداث الواقعية للحرب التي من الممكن أن تحول شريطه إلى مسلسل تاريخي وقابليته على إيجاد «ذاكرة وسيطة» تصفي من خلالها الأعمال العنيفة المتراكمة التي حدثت في القرية أو المناطق المحيطة بها. فالسيناريو يعمل على عدة مستويات: البالغين المنافقين وأطفالهم غير المتوازنين، وهي صورة ألمانيا التي مهدت لظهور النازية. وبالطبع لا يكلف هانيكي نفسه مهمة الكشف عن المذنبين ، لأنهم مكشوفون طوال طريق القمع الهائل الذي يأخذنا إليه كحال سخرية القدر التي تمنحنا المعادلة: هؤلاء الأولاد البسيطون.. كم هم وحوش رهيبة!

Trailer Haneke
السؤال الألماني
لا يخفى هنا الاتهام المباشر للروح البروتستانتية الألمانية في وقت كانت فيه أوروبا برمتها تندفع نحو الحرب ، ولعل الألمان سيسألون الكاتب والمخرج بعد انتهائهم مشاهدة الفيلم: لماذا كان عليك تصوير هؤلاء الناس كمذنبين في سلسلة من الجرائم اجتاحت أوروبا لقرون؟ نقول ذلك ليس كملاحظة لطلاء الشريط بمزاج التاريخ السياسي، لكن الألمان على الأرجح، سيكونون أكثر المشاهدين الذين ستوخزهم بألم دبابيس هانيكي وفوق ذلك يعاونه فرنسيون وإيطاليون وأميركيون في الإنتاج! مركزا على الجيل الذي اعتنق الاشتراكية القومية، كتمهيد سياسي - اجتماعي لمؤسسة ألمانيا النازية في روحها وأناسها ، تاركنا كباقي أفلامه، أمام أسئلة أكثر من أجوبتها. ربما لسان حال هانيكي يقول، أنه عرض أجواء مثالية لنمو الأفكار الفاسدة والمجرمة، وهي ليست مشكلة ألمانية، بل تعني كل شخص.


السؤال المركزي
القس الذي يجبر اثنان من أولاده لارتداء الشريط الأبيض بعد أن وصلوا إلى البيت متأخرين ويعاقب أحدهم بسبب الاستمناء بربط أيديه في السرير طوال الليل، ولكنه سيجد ابن الطبيب مع أخته المراهقة في الليل. وهذا القس الذي يوزع الشرائط البيضاء يشتكي للطبيب لعلاج رائحة الفم الكريهة للقابلة، البنت الصغيرة ستدفع المقص إلى جسده، عنف محلي لطيف نتاج تربية قسرية وعتبة مساعدة للتغيير الكبير في ألمانيا الذي جاء دون لوم من أحد، مثل هؤلاء الناس لابد أن يدعموا شخصا مثل هتلر. وهكذا فإن مناخ القمع اليومي والقسوة الأبوية ستمر من جيل إلى آخر.هو ذا السؤال المركزي في هذا الفيلم المهم الذي يحتاج إلى المزيد من الجوائز لكي يهرع إليه الكثير من المشاهدين، هو «الشريط الأبيض» الذي ارتكب كل الوحشية وشيـّد نفسه بثقة في خانة السينما الجدلية .. المحترمة.

ليست هناك تعليقات: