27‏/05‏/2009

UN PROPHETE - A PROPHET

حصل على ثاني أكبر جائزة في مهرجان كان السينمائي في دورته الـ 62 وهي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم، في وقت كانت فيه كل الترشيحات مصوبة لاقتناصه السعفة الذهبية ، فقد حصل على تأييد النقاد الفرنسيين الثقيلي الوزن وكذلك غرّد في مدحه النقاد الإنكليز والناطقون بالإسبانية طوال الأسبوع الأول من المهرجان ولغاية اللحظات الأخيرة لنطق الحكم.
ساعتان ونصف أثبت فيها أوديار أنه حقق ضربته القوية ليس في محيط المهرجان فحسب، بل في المجال السينمائي العالمي، لاسيما وأنه يتميز بالصوم كثيرا قبل كل فيلم ( عرف في "اقرأ شفاهي" – ربح ثلاث جوائز سيزار - و " الضربة التي طفرت بقلبي".
كما أن الصدمة التي أحدثها الشريط منذ عرضه الأول (2008) بقدرة الإخراج على مسك أحشاء المشاهد وعدم تركها طوال الـ 150 دقيقة من التوتر وسرعة الإيقاع ، قطع الحناجر، إطلاق النار، المطاردات ، متلمسا قضية حرجة جدا يتحفظ على التلفظ بها الكثيرون وهي الحالة في السجون الفرنسية ووضع الجاليات الملونة فيها وسلطة مافيا الجريمة المنظمة.
Article format - PDF

الأعزل المتوحش
أخرج الشريط الفرنسي جاك أوديار ( ابن السيناريست المخضرم ميتشل أوديار) بالاستناد على نص سيناريو كتبه أيضا بالمشاركة مع توماس بيدغان ونيكولاس بيوفيل عن شاب عربي مالك (ممثل مجهول طاهر رحيم الذي صرخ من السعادة حينما شاهد العرض الأول وتم اختياره للعب هذا الدور بمنافسة 40 شخص) حكم عليه بست سنوات سجن عن جريمة تافهة، يصل إلى السجن وحيدا كليا، فقيرا، لا يقرأ ولا يكتب ، أعزل، هشا وصغيرا أكثر من المحكومين الآخرين، لا يتجاوز عمره 19 سنة، وعليه مواجهة زعيم مافيا السجن الكورسيكية لوسيوني المسيطر على السجن (أداه الممثل الفرنسي الشهير نيلز أريسترو)، أو على الأقل كسب ثقته، في ظرف كان فيه الجميع يقتلون بأمر منه.


Jacques Audiard


وظائف جانبية
ما الرسالة التي كان يريد جاك أوديار إيصالها؟ ولمن؟
أن أي مجرم بسيط، قد يتحول إلى كبير لو دخل السجن. انتهى النداء والرسالة وصلت. ربما يقول البعض لو كانت هذه رسالة الفيلم، فهو بلا رسالة في حقيقة الأمر. لكن في الفن، المبدعون أحرار في تناولهم المبادئ الأخلاقية وفي السخرية، ففرانسيز كوبلا قدم آل باتشينو وغدا حقيقيا في "العراب" ، إلا أنه كسب بفضل الفن تعاطف كل من رأه.
أضف إلى ذلك، أن أي فيلم لا يفترض أن يتبنى اعتقادات ما سائدة في المجتمع، فليس وظيفته الوعظ وتمييز الأبيض عن الأسود، وتحديد الطيبين والأشرار، وفي حالتنا أراد أوديار عرض إلهامه الخاص عن السجناء في فرنسا.
لقد حقق المخرج واحدة من أهم مهامه في توظيف طاقة الفريق وإطلاق النبض الحي لكل منهم، بداية من الكاميرا التي انشغلت كثيرا في تصوير فيلم ناجح وتوجيه الممثلين ودفعهم لمراقبة بعضهم الآخر والتدريب على منح الشحنات ما بين رحيم المبتدئ في التمثيل وأريسترو الذي قضى عمره في هذه الصنعة وكأنه منح الممثل الشاب 40 سنة من التجربة بالنيابة.
ان سينما السجون قديمة جدا، ولعل كلاسيكية الموضوع كانت أهم التحديات التي واجهت أوديار، وكان عليه الاعتناء بإدارة المجموعات وعدم التعامل مع السجن كبناء وأبواب فولاذية وحماقات شاذة ، بل كحالة عزل وكائنات محصورة في حيز ضيق، وكان له ما أراد، لولا انجذابه لمشاهد العنف التقليدية التي تظهر في أفلام المعارك ( رغم إدارتها بشكل بارع)، مقتطعة من الشريط نصف ساعة كان حذفها مفيدا لأن يخبرنا عن أهدافه.


اللعب على العنوان
ولطالما فكرنا في عنوان الفيلم حتى قبل مشاهدته، وبعد ذلك تملكنا يقين في أنه لا يعني شيئ وليس له علاقة بموضوعة الشريط، عدا احتمال واحد، أن الكاتب يريد أن يجبرنا على التصديق في أن بطله يمكنه معرفة المستقبل، وهنا سندخل في تشويش الترجمة ما بين "النبي" وهو عنوان الفيلم الذي يكسب مباشرة طابعا روحيا وعقائديا و "المتنبئ" الواثق من تنجيمه. وهي سمة مقرفة في حقيقة الأمر، أن تتعمد الخلط واللعب في اللغة وأنت تقدم عملا فنيا، فالعنوان في الفرنسية قد لا يعني ترجمته إلى الإنكليزية (قد يظنه البعض الشبح) وكذا الحال عند نقله إلى العربية (النبي)، ناهيك عن التفخيم غير الواجب في العنوان أساسا لكونه لا يزيد أو ينقص من أهمية الشريط.

عبقري الاجرام
العربي الشمال أفريقي مالك الذي دخل السجن أميـّا ، سيجد نفسه منفذا لأول اختبار إجباري من "قيصر السجن" لوسيوني بقطع حنجرة عربي منافس كان قد نصحه باستبدال المخدرات بالجنس (ريب ياسوبي) ومدركا إلى أي جهة ينبغي الانحياز عندما تكون مستلبا في السجون، ومن الذي يديرها في الواقع وكان الثمن حمايته، قبل فرضه الإعجاب ليتولى مهام أكبر في الخارج. يبدأ بالتسلق التدريجي في المهمات ، وبثبات يبرهن فيها على قابلية للتعلم السريع من معلمه المجرم المحترف. ويتم تصوير حالة النمو الإجرامي بطريقة موفقة جدا تحيلنا إلى شريط فرانك لوكاس "الشقي الأميركي" كمقارنة ضرورية لتتبع حياة العصابات التي تنشأ في السجون وينطلق نشاطها خارج أسواره.

قدما نحو الجديد
أن أهم شيء في الفيلم، أن كل مشهد جديد، يعطي شيء جديد، وواضح منذ الدقائق الأولى أن المشاهد سيستمتع بعمل مخرج مدهش يدرك كيفية التحكم بالقصة حسب مرور الوقت. فمثلا، ليس من السهل تنمية مواهب ممثل شاب، ليستطيع التفريق البالغ الدقة في الأداء حينما كان نكرة، حتى يكسب الاحترام في منظومة السجن. التطور في الأداء جاء تدريجيا وحسب الوقت الموضوعي والمخطط له بشكل متقن ويعود الفضل الأساسي هنا لطاهر رحيم الذي استحق الإشادة على الأقل ونيلز أريسترو الفاتن التمثيل.
لم يخض السيناريو في أسباب وجود مالك في السجن، ما كان يشغله، أن رجلا خاليا من التاريخ الإجرامي الجدي دخل الحياة الجديدة. في الوقت نفسه، لم يتكلف الفيلم في مراجعة سيرة حياة لوسيوني ولا تلك الألغاز التي تحيط عرشه ، للمشاهد الفرص الكافية لأن يعرف روابطه خارج السجن وعلاقاته مع مافيا المخدرات وما بعدها.
وهكذا، فأن أكثر ما انشغل فيه أوديار هو الكشف العميق لمجتمعات السجون (كمؤسسة اجتماعية) لعكسها في صورة أوسع: الصراع بين الأعراق، مقدما تصميما رائعا لحالة فرنسا المتعددة الأثنيات ، بشكل لم يتعد على أي منها ولم يتطاول بإسفاف اعتادت عليه شرائط هوليود الرخيصة، كما لم يستفز أحد بأفكار دينية تمس العقائد المتنوعة.

Tahar l'étudiant extrait
خلطة غريبة
النزيل الآخر رياض (عادل بن شريف) يصبح صديق مالك ويعلمه القراءة والكتابة وحليفه في خارج السجن لاحقا عندما يرتب له لوسيوني المهمات الإجرامية المختلفة التي تجعل حياته أخطر مما كانت عليه، وجوردي الغجري الذي يشكل مع رياض مشروع عائلة لمالك ، لتظهر على نحو مفاجئ موهبة التنبؤ بعد حادثة غريبة لتحطم سيارة أنذرت في نمو سلسلة خيالاته المبهمة. لا نفهم السبب الذي جعل السيناريو يستعين بالغيبيات في قصة واقعية، لعلها ميول أوديار النفسية التي يكحل بها أفلامه سائرا وفق أسلوب ستيفاني فونتاني ولغته السينمائية التي يتعمد تفكيكها.


في الأخلاقيات
كما تبرز معضلة أخلاقية هامة؛ وهي أن الكفاح الصعب الذي يخوضه المرء من أجل البقاء والاستمرار بالحياة القاسية، هل تستدعي أن يكون مجرما حتى لو سدت أمامه الخيارات؟ هذا في حالة استبعادنا عامل البحث عن الهوية الكثير التداول في الآداب والسينما للمهاجرين في أوربا. أي نموذج سنحظى به وأي نبيّ: يدخل مالك إلى السجن ليس أكثر من رقم، يخرج منه محطما أعدائه الواحد تلو الآخر ، بانيا إمبراطوريته الخاصة كبطل للمافيا العربية في فرنسا!من وجهة النظر هذه، ما الذي يفرق بين حكاية أوديار وفيلم العصابات التافه "أصابع" لجيمس توباك أو المنوعات البوليسية لمارتن سكورزيسي المبكرة و"ستارة الحرية" لجون وين؟ نرى قيمة الفيلم في القدرة على رسم الأشخاص وتقديم الحبكة (التي اتفقنا أنها تقليدية وشاهدنا الكثير منها في السينما) والتمثيل المتفوق والحضور القوي لطاهر رحيم والإجادة البصرية والتأثيرات الصوتية المتقنة والتقنيات الجديدة وعناصر أخرى أشرنا إلى معظمها.

ليست هناك تعليقات: