Tetro: Official Trailer
في فبراير 2007 أعلن المخرج والمنتج فرانسيز فورد كوبولا أنه سينتج ويخرج فيلم «تيترو». السيناريو كتبه بنفسه كما يفعل غالبا، وحدد بدء التصوير في بوينس آيرس، بحلول مارس 2008 بعد انضمام فنسينت غالو وماريبيل فيردو إلى فريق الممثلين وساهم في إنتاج الفيلم بالإضافة إلى الأرجنتين ثلاث من أعرق الدول في صناعة السينما: الولايات المتحدة وأسبانيا وإيطاليا، بميزانية بسيطة لم تتجاوز 15 مليون دولار.
كوبولا عرف الأرجنتين في فترة ابتعاده عن السينما وأحب الأجواء الثقافية فيها وكان يتردد دائما على المسرحيات الموسيقية التي تعرض في بوينس آيرس والتي ألهمته وساندت أفكار «تيترو» وأمدته بالعناصر الموهوبة جدا المتمرسة في المسرح الأرجنتيني الذين وافقوا على العمل في الفيلم دون معرفتهم بأجورهم. كحال كوبولا الذي صرف حياته وأمواله الخاصة (مبتعدا عن هوليوود) من أجل صناعة أفلامه المستقلة حقا.
PDFقصة كوبولا
هذه المقدمة وجدنا ضرورتها في تلمس الظروف التي يقدم فيها الناس الفن الحقيقي، ولعلها الصورة التي نفهمها من المحادثة الطويلة بين الأخوين في الشريط اللذين حملا الحزن والإحباط الذي لم يبتعد كثيرا عن موضوعته الرئيسية في ثلاثية «الأب الروحي» التي صنع من روايتها القاسية أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما، متناولا مرة أخرى قضايا الحب والولاء والاختيار والقوة والإغراء والخيانة والجراح والدماء.
The First 3 Minutes
عرض للمرة الأولى في افتتاح الدورة 62 لمهرجان كان، ولأن أسلوب كوبولا يختلف جدا هذه المرة، بإدخالنا بسرعة في الحكاية التي صورها بالأسود والأبيض باحتفاظه مع بعض البقع الملونة والظلال الرمادية، تلك البقع التي كان يريد لها أن تلوّن الماضي (من الصعب التكهن بمقاصده في تلوين الاسترجاعات، ربما كان يريد أن يقول لنا ان ماضيه كان مبهجا وملونا وحاضره أسود). وبالرغم من تصميمه الشريط بالكامل على أساس ألعاب المسرح التجريبي، فإنه تعمد صعوبة غير ضرورية في طرحه للأسئلة وليله الصامت الطويل وحزم الملابس التي كانت كتقويم يؤشر للزمن الفائت، كالمشهد الذي فاوضت فيه صديقة تيترو، ميراندا (ماريبيل فيردو) بعبارات مؤلمة وأداء من الصعب مشاهدة مثيل له، من أجل عودة الأخوة إلى بعض وتعرفهم على الشخص الذي يحملونه حتى يبدأوا مجددا.
Alden Ehrenreich
الإنارة الجريئة
وما رأيناه كانت إنارة مسرح وليس سينما، ستسلط الإضاءة العلوية على تيترو بالتدريج، تزحف نحوه بسرعة كلماته: يتباطأ الحوار، تخف الأنوار... وهكذا، كان الضوء على جسده أو وجهه يتناسب مع ما يقول، مع الأحداث السيئة التي يرويها، مع كومة الفضلات التي وجد نفسه فيها، مع مصير كل شخص حمله وسيكونه يوما ما. وكأن الأسرار العائلية مخبأة في صندوق للطماطم كلما مر عليها الزمن تفسد أكثر، وإن كنا وفقنا، فيمكننا القول إن هذا سرّ الفيلم – المسرحية: عمل غير منتهٍ كالذكريات.
كان الجميع محتجزا في مرآته، وهذه الصعوبة غير الضرورية التي أشرنا إليها، فقد كتب كوبولا الرائع هذه القصة قبل ثلاثة عقود (تحديدا بدأ بها عام 1974) وحطمها كثيرا بقلمه الرصاص وطوال هذه السنوات خرجت الحكاية ممزقة جدا من الصعوبة، فكم كان شيخ السينما يسمو فنيا طوال هذه السنين؟ كم من الأفكار الجديدة تطورت لديه؟ وإذا أصاب أبطال فيلمه «القيامة الآن» بكل الأمراض النفسية والرعب والإحباط والقهر خلال التصوير وبعده، فما الذي سيفعله في حكايته الخاصة؟
لقد مال إلى الألفة المضجرة، للتنكر خلف الإنارة حاجبا كل شيء باللونين الأسود والأبيض، استفزازي كما هو دائما، ومع ذلك، كنا نتمنى أن نرى الأكثر منه، على الأقل الهروب من تراثه الكبير.
و«تيترو» هو أفضل من شريطه الذاتي جدا «شاب بدون شاب» - 2007، ملازم لفوضاه وخيبة آماله، رافض بشدة، بالتأكيد كان كوبولا يريد من «تيترو» أن يعيده إلى بلاده، ماضيه، الماضي الذي يكون عادة جميلا. ولكوبولا تاريخ في تصوير التضاد العاطفي الحاد بين الأخوة، كما في الجزأين الأولين في «الأب الروحي» وشريطه الذاتي «همهمة السمكة» - 1982 (لا ندري إن كانت ترجمتنا موفقة للعنوان) الذي خصصه لسيرة شقيقه الأكبر وذكرياته معه حينما كان عمره 17 عاما. ومن يستطيع إغفال ظلال تروفو وحتى فيلليني على أعماله؟
Vincent Gallo
بعد رفع الستارة
أنجيلو الذي اعتاد بمناداته «تيترو» كاسم مختصر لتيتروسيني الذي اختاره بعد اختفائه من عائلته (فنسينت غالو) أحد بوهيميي بوينس آيرس، شاعر وكاتب مسرحي، يتمتع بالإحباط أكثر من السعي وموافق على مصيره والهارب من قسوة الأب العبقري الذي يقود فرقة موسيقية مهارته تسيل دموع من يسمعه، بينما أخوه الأصغر «بني» (ألدن إيرنيرش) ممثل واعد جدا، سيحبه عشاق ليوناردو دي كابريو لأنه يبدو كما لو كان شقيقه الأصغر وابتسامته ونظرته التي تحمل الاستدعاء فيها الكثير من جاك نيكلسون والشكل العام يشبه مات دامون، لذلك كان حضوره على الشاشة مثبتا كليا وتنتظره أدوار مثيرة، مهمته في الفيلم تعقُّب أخيه «تيترو» حيث كان رضيعا حينما غادر العائلة.
و«بني» هو أيضا هارب، ولكن من الخدمة العسكرية بعد أن زوّر عمره وحصل على عمل كنادل في سفينة، وعندما ترسو في بوينس آيرس لتصليح محركاتها، يفلت منها بهدف البحث عن أخيه لغاية عثوره عليه في الشقة التي يتقاسمها مع صديقته ميراندا لا بوسا.
ونظن أن فنسينت غالو كان اختيارا مثيرا لأن يحمل عنوان الفيلم، فهو ممثل قوي الإرادة يميل إلى الاحتراق من أجل إيصال أحاسيسه.
Francis Ford Coppola introduces "Tetro"
صراع العباقرة
وتيترو متذمر بطريقة تثير الاستياء، تحاول القصة إلقاء اللوم في غضبه المزمن على معاملة الأب كارلو (كارلوس ماريا براندوير) وتمنحه بعض الهدنة في تدخلات ميراندا التي تحاول أن تقلل من المفاجآت التي تحملها عملية استرجاع الأسرار العائلية مع شقيقه والمركزة على الأب كارلو كنموذج للأناني المطلق الذي يستطيع بكل هدوء أن يخاطب ابنه: «هناك غرفة واحدة لعبقري واحد في هذه العائلة».
وإذا كان والده قد شيد نفسه بقيادته فرقة موسيقية مشهورة عالميا، فان تيترو كان عبقريا بلا إنجازات. أما ميراندا، فإنها ستساعد أخاه «بني» سرا من أجل أن ينهي تيترو مسرحيته وإرسالها إلى ناقد مشهور (كارمن مورا).
Maribel Verdú - Acting from Within
الأبعاد المتعددة
هنا ستشحن الحكاية بالفرويدية مشكلة المنطقة الفاصلة لتوضيح أسباب وشروط تيترو للهروب من العائلة، في وقت لا وجود لخلفية تدعم هذه الرغبة في الهرب رغم أنها استمرت لسنوات طويلة.
لا تبرير لحالة عدم الاستقرار لحياة تيترو السابقة واللاحقة، وسيكون على كوبلا في غضون 127 دقيقة اماطة اللثام وإزاحة الغطاء المثير والمأخوذ من المآسي الشكسبيرية وبدرجة محسوسة: هاملت والملك لير وعمل فرانز كافكا المذهل «رسالة إلى الأب» وأعمال بيرانديللو وتينيسي وليامز ويوجين أونيل والمآسي اليونانية الكلاسيكية.
شخصيا، أحب هذه المواد الثقيلة ذات الأبعاد المتعددة لكن بشرط أن ترنّ بالمعاني، لأن بواسطتها ترتفع وتمنح المشاهد الكبيرة حتى لو كانت غير مرضية.
Osvaldo Golijov - Music Born from the Film
الإمساك بالسمات
وهذه كانت مهمة والتر مورش، لكونه محرر قصة ومخطوطة كوبولا، فقد كان عليه أن يبحث في التأثير الكامل للقصة وأن يساعد تيترو في الإمساك بسماته البوهيمية الطبيعية ويعزز تجهمه من المجتمع لا أن يكون تجهمه لتزيين الشكل الدرامي للحكاية وإظهاره كمدّع ؛ بكلمة أخرى، أن ينزل في أعماقه ويفكك كتلته الداخلية إيحائيا أولا، وهنا يلعب التمثيل والملامح دورها، وثانيا في هيكله الخارجي وما يتفوه به لسانه، أي الحوار ( جرى بالأسبانية والإنكليزية).
لذلك لم يتم اكتشاف تيترو كصوت الرفض في العائلة، الرفض المدوي تجاه العالم، لأنه لم يكن سوى هارب من وطنه ومنشغل بقصائد المقاهي في ميناء لابوكا، محاطا بالملونين والمتع الجنسية المتاحة ومن ثم الحضور الدافئ لصديقته المقربة ميراندا التي كانت تلعب دور أمه التي ماتت بحادثة.
على عكس ذلك كانت المهمة أسهل مع الأخ المراهق «بني» الذي كان مشعلا للتفاؤل والسعي لرفع الآخر، فيما كانت موسيقى أوسفالدو غوليوف تتسكع في اللحظات غير المرغوبة لفيلم طبيعي (حديثنا يجري عن شريط تجريبي).
لكن هذا لا يعني أبدا أن الموسيقار الأرجنتيني لم يزودنا بالطاقة الحسية الوفيرة المنسجمة للغاية مع وصلات الأغاني الإسبانية – الأرجنتينية الحزينة والسعيدة كتكملة للطاقم الأسود والأبيض الذي اختاره كوبولا بالجمال البصري والأبيض اللامع بانفجارات الألوان التي نجح فيها مدير التصوير ميهاي مالماري معبرة عن التوترات الكئيبة بين الأخوة التي تحيلنا إلى كوابيس «العراب»، وملاحقة الماضي منحت كوبولا فرصة دمج وصلات الأوبرا المفضلة لديه ورقصات آنا ماريا ستيكلمان.
Francis Ford Coppola On Location in La Boca, Argentina
مطاردة الماضي
إن كوبولا كان يطارد ماضيه، كما كان كارلو يطارد أبناءه، كالصوت الذي يمنح الإحساس للمشاهد بأنه يراقب حلم شخص آخر أو كابوسه. بينما كان لتيترو قواعده المزعجة للإجابة عن أسئلة أخيه الأصغر، هو لا يريد الإجابة عن أسئلة «بني» عن الماضي، رغم أن الصغير يحمل العشرات منها، كذلك لا يريد التحدث عن والدهما أو عائلتهم ( لديهم أمهات مختلفات).
هكذا تجري أمور «بني» في الأسبوع الأول له على اليابسة (كرمز للأرضية المشتركة التي يحاول العثور عليها مع أخيه)، ولكي لا يمنح أسرار الصراع، يتفادى كوبولا تقليد شريطه «شاب بدون شاب»، ليركز بدلا من المشاجرات بين الأب والابن والأخوين، على الحافز الذي يدفع الفنان الى فهم حياته الخاصة. وهنا يتطلب منه أن يبطئ ليقشر جلد القصة بواسطة «بني» المغرم بتفاصيل الماضي، بينما تشده أجنحته في طريق المشاعر الصادقة تجاه أخيه الكبير، تلك المشاعر التي جسدت «الواقعية السحرية الأميركية» التي ثبتت العودة المظفرة لكوبولا كأحد رموز السينما المفقودين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق