25‏/03‏/2009

The Wrestler

فيلم المخرج والمنتج دارن آرنوفسكي يقدم صورة عميقة من داخل شخص على خلاف مع نفسه والحياة، يقودنا في جولة شاعرية ليس بالطبع من وراء حبال حلبات المصارعة، بل لاستعراض آلام المجد حين يتناثر في النسيان، وهذا الواجب الرئيسي الملقى على الممثل (المنسي أيضا بالمناسبة!) ميكي رورك الذي رشح لأوسكار أفضل ممثل، لكن الأكاديمية مالت أكثر إلى ابتسامة شون بين الوردية. لقد كان رورك مدركا للماضي ولذلك قرر المضي في كتابة فصل جديد في حياته بقلب عامر بالاندفاع رغم نوباته، افتتانا بالجروح الكثيرة والكسور وآثار الفوضى الدامية على جسده، لكنه يستطيع أن يسمع صوت الأطباء المحذرين له من المخاطرة بحياته ودفعها نحو الموت أو ترك الحلبة. لكنها السنّ، العدو الكبير للإنسان، لاسيما لدى أولئك المغرمين بالتحدي كالمصارع الذي فات أوانه، المار عبر ستيفاني (ايفان راشيل وود) والوهن أمام «كاسيدي» الاسم المهني، أو «بام» اسمها الحقيقي ماريسا تومي التي رشحت لأوسكار أفضل ممثلة مساندة، لتكون الحلبة بالنسبة إليه رمزا للكفاح الثابت لبناء الجسر بين المصارعة وحياته الخارجية حاملا روح الفيلم كوحش فتحوا له باب القفص بعد طول إذلال.


الذائب في المتخيل
أما الربط بينه وبين تومي، هو أن للاثنين حلبة للتعري، الأول يعتمد في عريه على قوته، بينما الآخر يرميه على قوة الآخرين، أنه الإطار الذي جمعهما في مهنتين متراصتين في «شبق» القوة والجنس، ولعل المصارعين لا يكرهون بعضهما البعض حتى لو تبادلوا الضرب، لكن التعري – هنا أو هناك - الذائب في المتخيل، له انسجام مبطن آخر، حيث إراقة الدماء على الحلبة مزيفة، لكن التعري في العرض الليلي حقيقي. لم نفهم قبل مشاهدتنا الفيلم السبب في أن الدعاية ركزت كثيرا ابتداء من البوستر ومرورا بكل وسائل الترويج للشريط، على الممثل الرئيسي ميكي رورك، إلا أن السبب أصبح واضحا، فهذا فيلمه، وحمله بكل ثقة وهيبة كانت مفقودة في السنوات الماضية في الكثير من أعماله. لقد كان رورك حساسا جدا عند إلقاء كل كلمة ويبدو أنه أنصت كثيرا لآرنوفسكي الذي يهتم في هذا الجانب وكان واضحا في شريطه «النافورة» وكأن مدير العمل أراد تقديم رجل «مستضعف» من الداخل وقوي البنية من الخارج، وكم كان رورك مشرقا في الاستجابة لهذه النغمة السرّية للشريط الذي رتلها في كل حرف كتبه روبرت سيغيل، الذي وضع في حسابه وهو يصيغ السيناريو، ان مشاهدي السينما يعرفون أن مصارعة المحترفين مزيفة، إلا أن غالبيتهم يحترمون حيلها ويتلهفون لمتابعتها حتى لو كانت الدماء متفقا عليها بين المتقاتلين، ولذلك وضع في الاعتبار، أن يسكن في مشاهد السينما نفسها، أن ما يراه يحصل على الحلبة وليس على الشاشة. وكم كانت هذه المهمة التي وضعها لنفسه عسيرة! ثمة عنصر ساحر مضاف في فيلم آرنوفسكي وهو التفاصيل الخفية حول المصارعة وانتقاله من الثلوج الذائبة في نيو جيرسي إلى القاعات الرياضية والجمنازيوم والمراكز الاجتماعية وغرف الملابس حيث يعدّ المقاتلون أعضاء أجسادهم المتضررة، كيف ينزفون بتعمد وحرفية وتدريبهم العالي على تقبل المفاجآت العنيفة والكلام خلال المباراة وبعد ذلك كيف يبدون بعد انتهاء عملهم.
السمة النادرة
لقد قدر اعضاء لجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا 2008 ذلك ومنحوا الشريط الجائزة الكبرى. ولفت الانتباه في مهرجان تورنتو وختم مهرجان نيويورك، بعد لامبالاة عانى منها آرنوفسكي قبل أن يشغل الوسط السينمائي بشريط «النافورة»، ذلك لأن توافق سيغيل وآرنوفسكي كان مميزا في مزج الحقيقي والمتخيل، تلك السمة النادرة التي تميز فن السينما، في أن تجعل الافتراض بين هذين غير واضح إلى أقصى ما تستطيع. أن الآمال المبددة لا يمكن تصويرها بالكاميرا، وكذلك خداع النفس، الاعتناق، التودد، الأماني الضائعة، الريبة والندم، ما هو حقيقي، يسمع ويـُشاهد، ما في داخلنا سيكون واجب التمثيل.
المجد الزائل
ستنتفخ عضلات ميكي رورك بالمنشطات، وسيكون ملائما بما يكفي بشعره الأشقر، لنجوم الثمانينات حيث كان يصارع الضخام الأقوياء في حلبة ماديسون غاردن الأشهر في عالم الملاكمة والمصارعة المحترفة، لكن قسوته وابتسامته الملتوية سيذبلان بعد 20 سنة حينما يجد نفسه في الحلبات الرثة مواجها مشاكل الحياة المادية التي تلقي به للسكن في مقطورة منتزه في شمال نيو جيرسي وجسده الذي يديره قلب يعاني من النوبة وعمر متقدم على العراك مع الشبان الأصحاء لرجل لا يرى قيمة للحياة بدون مصارعة. ستصدح الأغنية مذكرة بأوقات المجد، لا يعرف بالضبط ما هو عليه الآن والزمن يرغمه على المواصلة مناطحا حياة يجافيه فيها حتى أقرب الناس إليه، ومن جلبهم للدنيا يحتقروه (عندما عزم على شراء هدية مفاجئة لستيفاني واختار القميص اللماع للبيسبول، دون أن يعرف أن هذه الهدية سيرفضها شخص جاد)، غير أنه يمضي، حافرا طريقه بأظافره لا بالأوهام. أن «المصارع» خليط بارع للشفقة والفجيعة، للأمل واليأس، للكرم والجحود للبذل والتضحية وللزمن الذي يزعزع الأبطال، لم يحمل روبنسن سوى النواقص الشائعة، متملقا ما تبقى من أنصاره القدامى لا كشخص يشتهي الشفقة، بل كرجل مرفوع الرأس، متكيف مع الصعاب، مؤمن في أشد أوقات إنكساره؛ بالانتصار.

الانبعاث من اللامبالاة

لماذا حصل هذا الفيلم على الكثير من التصفيق؟
ليس من الصعب معرفة سبب الهتافات المشجعة التي تلقاها وفوزه في «فينيسيا» وترشيح الممثلين الرئيسيين فيه للأوسكار (عدم فوزهما عارض جانبي فحسب). ونعتقد أن آرنوفسكي انبعث من اللامبالاة التي كانت تجابه فيها أفلامه السابقة ( «النسبة الثابتة» 1998، « قدّاس لأرواح الموتى» 2000، متعلما الدرس الصعب في الفن وهو أن تكون أولا نصير أفكارك قبل أن تجبر الناس على الاقتناع بها وأن تكون الشاشة (المسرح.. الكتاب.. الخ) هي الفيصل الحاسم والفريد في نهاية المطاف. وبالرغم من الاحتفالية الجماهيرية – النقدية لفيلم «المصارع»، فإننا لا نراه أفضل أفلام آرنوفسكي، لاسيما من وجهة نظر الإحساس التقني وتدخله الواضح والكثير الرقة نحو بطله الرئيسي دون منحه المجال لإبداء خصوصيته لتتفتح فيه الشخصية وتزدهر وحدها، كأنه عمل للبطل الرئيسي «جراحة تقويمية» ليظفر بالأوسكار (كان يستحقها بالطبع حسب رأينا أكثر من الممثل العادي شون بين الذي فاز في السنوات الخمس الأخيرة بجائزتين للأوسكار لتسجل الأكاديمية واحدة جديدة من أطوارها الغريبة). مع ذلك لم يربح ميكي رورك الأوسكار، لكنه أشعر كل من شاهده بالارتياح، أنها روعة الفن. على الأقل لم يشاهد أحد ميكي رورك إلا وامتدحه، لكن القليلين هم الذين يفهمون آرنوفسكي وتأثير جراحته عليه، الأمر الذي أجبره في النهاية على دفع الغرامة.

ليست هناك تعليقات: